"كل مكان ينبت العز طيب"، لكن للغربة مرارة ولو أتت بالعز مع الاعتذار من أبي الطيب المتنبي. ولشاعرنا بيت آخر يقول: "لا يعرف الشوق إلا من يكابده". والمكابدة تفاصيل. لحظات الضعف في الغربة مؤلمة. تتمنى فيها لو كان بساط الريح حقيقياً لينقلك بلمحة الى موطنك. والمر في هذا الضعف انك لا تستطيع ان تجهر به حتى للمقربين تحسباً لقلقهم المضاعف. لكنها أيام تمضي فتقصر مسافة العودة. حسابات أكثر من بليون مسلم حول العالم عن خير شهر رمضان اختلفت مع توقعاتي أنا، المغترب اللبناني التائه في مدينة الأحلام، تتحقق أحياناً أو تكون كوابيس في الغالب. كانت الساعة شارفت على الخامسة والنصف، موعد الافطار، فتوجهت الى أحد المطاعم اللبنانية في شارع الرقة، وصلت المطعم، وكان مكتظاً بأصناف المأكولات وجنسيات رواده، عاكساً موزاييك دبي حيث يتجمع أتباع أكثر من 167 جنسية. "عفواً أستاذ، لا توجد أماكن شاغرة". لكنة قاسية كلمني بها الرجل المسؤول عن هذا المكان، فذكرني برجال الاستخبارات، فأنا الضحية وهو الجلاد، أقلّه أتى الى البلاد قبلي ويعرفها جيداً. بادرته على الفور بلكنة لبنانية تحمل تفاخراً وثقة: "ولكن، أنا وحدي، ورمضان كريم، لا يرد فيه صائم"، إلا أن رفضه كان قاطعًا فبدأت رحلة استجداء الكرسي، وليس الطعام، ففلوسي معي وتمكنني من إقامة وليمة كاملة لعدد كبير من الناس، ولكن على الواقف. "الله يخليك استاذ ما عندي كراسي، وعندنا شغل كثير، ابحث لك عن مكان آخر"، قلت له: "سأجلس على الرصيف ولكن أعطني إفطاراً، إنه يومي الأول هنا ولا أعرف الأماكن الجيدة التي يمكنني أن أكون صائمًا مكرمًا فيها". فرفض. "لعن الله الغربة. لو جئت قبل أيام، لتعرفت الى البلد في شكل أفضل، لكنت التقيت أحد الأصدقاء، لكنت، لكنت..."، وتضاربت الصور فلحقت بها أحشائي الفارغة وأصوات السكاكين مع الصحون وضحكات المفطرين. يشمتون بي. سأريهم جميعاً، سأشتري مطعماً الآن، سأقفل الباب خلفي، سأدعو الأخ المسؤول لكنني لن أقدم له الطعام، سأبرهن له أنني أنا المسؤول. دخلت "سوبرماركت" اشتريت أغراضاً قليلة. سأفطر لبنة وزيتوناً وخبزاً ومارتديلا، وأكون سيد نفسي، لكنني سألعن الغربة وأحمل أمتعتي وأعود الى أمي. افتقدت حساءها والجلوس الى مائدتها، وأنا أكيد أنني سأشبع، سآكل من عينيها حتى التخمة، سأكون سيد نفسي، سيد الطاولة. رنين هاتف: ألو، أهلاً ماما، كل عام وأنت بخير يا ست الكل، الإفطار كان ممتازاً وكأنني في البيت، لكنني أحن لرؤيتكم معي الى الطاولة. والله كل الأمور جيدة. ذهبت الى مطعم لبناني وتعرفت الى الشباب هناك. الطعام غير شكل، دبي حلوة، مثل بيروت، مثل برج البراجنة، الناس كلهم يعرفون بعضهم بعضاً. سلامي للجميع وقولي لهم إنني بانتظارهم في دبي، فالجو هنا ألطف". إنها رحلة الألف ميل، وأتممت الآن العامين في دبي وفي كل يوم عثرة جديدة، لكنني أتشبث بموقعي أكثر، تزوجت من فتاة إماراتية، وسأذهب الى الأخ المسؤول عن الطعام لأقول له، سأبقى هنا. لكنه سيرحل يومًا ما، سيدخل عند الإفطار الى أحد المطاعم ويجدني أجلس على الكرسي الوحيد في المطعم، فأقول له: "عفواً لا أماكن شاغرة لدينا، فأنت في الغربة، ويحق لها أن تفعل بك ما تشاء. أنت لم تعد سيد نفسك، بل مملوكاً، لمجتمع لن تصبح جزءاً منه، ولن تصبح شيئاً فيه. أهلاً بك في رمضان الغربة".