} لا شك في ان اقامة الكيان الصهيوني على أرض الفلسطينيين وعلى حساب وجودهم هو المأساة الأولى في حياة هذا الشعب. لكن المآسي لا تكف عن التوالد والتفريخ وباستمرار، من بينها ما حصل في عملية "حماس" الأخيرة في رفح. جاء في الصحف الصادرة في 10/1/2002 أن الجنود الأربعة الذين قتلوا في الهجوم الذي شنه إثنان من أعضاء حركة "حماس" على مستعمرة "كيرم شالوم" بالقرب من رفح في جنوب قطاع غزة، هم من البدو العرب الفلسطينيين، الذين يعملون ضمن "وحدة الاستطلاع وتقصي الأثر البدوية" التابعة للجيش الاسرائيلي. ومن الصدف المأسوية التي تكررت كثيراً، والقابلة للتكرار دائماً، ان احد المهاجمين من أعضاء حركة "حماس" محمد أبو جاموس كان من البلدة البدوية نفسها بالقرب من مدينة بئر السبع التي ينتمي اليها أحد الجنود القتلى. علينا ألا ننسى أن اثنين من الجنود الاسرائيليين الثلاثة الذين أسرهم "حزب الله" من مزارع شبعا المحتلة في العام الماضي هما من العرب الدروز الفلسطينيين أيضاً. فما هو وضع البدو العرب الفلسطينيين في اسرائيل، وما هو عددهم، وأين يقطنون، ولماذا يعملون في الجيش الاسرائيلي، وماذا يعمل اغلبهم فيه، وما هي الظروف والتطورات التي أحاطت بهذه المجموعة منذ العام 1948 وحتى هذه المرحلة؟ أعداد وتقديرات تختلف المصادر التي كتبت عن بدو فلسطين في تقدير عددهم قبل 1948. ومن التقديرات المرجحة أنهم ربما كانوا بين 116 ألفاً و141 ألف نسمة. منهم ما بين 65000 و90000 نسمة في قضاءي بئر السبع وغزة، ونحو 34000 في فلسطين الوسطى و17000 نسمة في الجليل. أما تقديرات عدد البدو الذين ظلوا في اسرائيل بعد 1948، فتتراوح اجمالاً بين 16000 و18000 ألف نسمة. واستناداً الى "الموسوعة اليهودية" فإن 15000 بدوي مكثوا في النقب بعد 1948، في حين ان مصادر أخرى ذكرت ان حوالى خمسة آلاف بدوي بقوا في منطقة الجليل بعد النكبة. إن حراكاً دائماً وتنقلات مستمرة كانت تطغى على حياة البداوة، أضيف اليها الطرد المبرمج من جانب القوات الصهيونية الى الأردن وسورية ولبنان بداية، ثم التشتيت داخل النقب ومن منطقة الى أخرى في مراحل متفرقة منذ الخمسينات وحتى هذه المرحلة وصلت ذروتها في نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات من القرن الماضي. جاء في كتاب "كي لا ننسى" لوليد الخالدي، انه لم يبق في النقب الا 11000 بدوي في العام 1953. وجاء في "الموسوعة الفلسطينية" المجلد الأول، عن بدو فلسطين، الآتي: كان البدو يمثلون 10 في المئة من مجموع سكان فلسطين في بداية فترة الانتداب البريطاني، وبلغ عددهم في احصاء عام 1931 زهاء 150000 نسمة تقريباً . أما عدد البدو في فلسطينالمحتلة منذ عام 1948، فقد بلغ في أوائل الخمسينات وفقاً للتعداد الذي أجرته سلطات الاحتلال الصهيوني لهم نحو 22 ألف بدوي، منهم 15 ألف بدوي يعيشون في قضاء بئر السبع وينتمون الى عشرين عشيرة مثل: أبي رقيق والقديرات وأبي ربيعة والظلام والهزيل والعزازنة. ويقدر عدد البدو عام 1981 في فلسطينالمحتلة بنحو 75 ألف بدوي. وتجاوز عددهم المئة ألف نسمة في الفترة الأخيرة، أي انهم حافظوا على النسبة نفسها 10 في المئة بالنسبة الى تعداد عام الفلسطينيين في اسرائيل منذ 1948. أما التجمع الثاني من بدو فلسطين 1948 ومعظمه متمركز في منطقة الجليل، فإنه ترك حياة البداوة في معظمه وتحولت تجمعاته الى قرى مستقرة مثل: عرب الحجيرات والحججارة، وقليل من السعدية والطوقيين وعرب السمنية والعرامشة، والسواعد والهيب الذين انخرط بعض افرادهم في الجيش الاسرائيلي منذ الخمسينات. وبالنسبة الى قبائل صحراء النقب، هذه المساحة الواسعة من جنوبفلسطين وقاعدتها أو عاصمتها بئر السبع، فإن توزع اماكن سكنى هذه القبائل ومراعيهم المنتشرة في المناطق الخصبة منها، وجدته السلطات الصهيونية يتعارض مع مفهومها للأمن، خصوصاً بعد اتفاقيات كمب ديفيد بينها وبين مصر، التي حتمت نقل القواعد والمطارات العسكرية الاسرائيلية من صحراء سيناء المصرية الى صحراء النقب الفلسطينيةالمحتلة. محميات ومعازل ذكر غازي فلاح في دراسته المنشورة في مجلة "الدراسات الفلسطينية" العدد 42 ربيع 2000 تحت عنوان "اسرائيل والأرض الفلسطينية" عن الأرض في صحراء النقب، الآتي: "قامت السلطات الاسرائيلية في السنوات 1950 1953 بترحيل اثنتي عشرة قبيلة عن منطقة في الجزء الشمالي الغربي من النقب الى منطقة أخرى سُميت لاحقاً "المنطقة المغلقة" أو "المحمية"، كما هو عليه الأمر في محميات الهنود الحمر في شمال اميركا. وقد كانت عواقب هذا التجميع القسري جمة في ما يتعلق بملكية الأرض. ففي ليلة واحدة أصبح ثلثا بدو النقب بلا أرض بعد ان تم نقلهما من منطقة الأراضي الخصبة غربي بئر السبع الى منطقة الأراضي شبه الصحراوية في المنطقة المغلقة الواقعة شرق جنوبي بئر السبع. أما الثلث الباقي منهم والذي كان مقيماً في الأساس، في المنطقة المسماة "المنطقة المغلقة" فلم يسلم أيضاً من سياسة نزع الأرض منه. اذ حاولت السلطات إقامة مجمعات للسكن، من اجل أن ينتقل البدوي اليها فيستأجر أرضاً من الدولة لمدة 49 عاماً، بشكل قسائم يبني بيته عليها، بعد ان يكون قام بصفقة تصفية وتخلى عن المطالبة بملكية أرض في مكان آخر". أضاف فلاح "لعل آخر مصادرة كبيرة للأراضي في هذه المنطقة كان مصادرة أراضي تل الملح 1980، حين صودر اكثر من 65000 دونم من الأرض". وقد "كيفت" السلطات الاسرائيلية القوانين كلها وطوعتها كي تتماشى مع رغبتها في الاستيلاء ومصادرة أراضي الفلسطينيين، لاجئين من بينهم، أو مقيمين وبعضهم يحمل الجنسية الاسرائيلية، بل ويخدم في جيشها، كالدروز والشركس والبدو وغيرهم من اقليات. وتحتل "الحاجة الأمنية" رأس قائمة "القوانين" والمبررات لانتزاع الأراضي. شبكة قوانين ومصائد في دراسته المنشورة في مجلة "العربي" الكويتية العدد 489 أيار مايو 2000، وتحت عنوان "نكبة فلسطين متى يمكن أن تزول" شرح سلمان ابو ستة كيفية تعامل السلطات الاسرائيلية مع الأرض الفلسطينية، فذكر: "نسجت اسرائيل لنفسها شبكة عنكبوتية من القوانين والتشريعات لحمايتها من الشجب الدولي. بدأت أولاً بتحويل كل الأراضي العربية الى الوصاية تحت مسؤولية "القيم على أملاك الغائبين" وتمت مصادرتها كأملاك للدولة، اعتبر اللاجئ في بلد عربي المطرود من بيته بالحرب والمذابح غائباً، كأنما كان في نزهة. واعتبر الفلسطيني الذي بقي في أرضه غائباً أيضاً، اذا ذهب للاطمئنان على أقاربه في بلدة مجاورة ولو على بعد كيلومتر واحد، وإذا رغبت اسرائيل في الاستحواذ على أرض لا يزال أهلها يقيمون فيها، فإنها تعلن ان هذه المنطقة مقفلة لأسباب أمنية، وتخرج أهلها منها، وتعتبرهم غائبين". عموماً، استمر القضم الممنهج والمصادرة المبرمجة لأراضي الفلسطينيين، ومن بينهم بدو النقب. ولخص حسن عبدالقادر صالح، في كتابه "سكان فلسطين ديموغرافياً وجغرافياً" مآل هذه الشريحة من الفلسطينيين، فذكر: "في صيف عام 1953 هاجمت العصابات الصهيونية مضارب العشائر لإجبارها على الرحيل عن ديارها بالقوة. وفي 20/9/1955، دخلت قوة صهيونية الى منطقة العوجاء المنزوعة السلاح، واستولت عليها بعد ان نفذت مذبحة رهيبة في افراد قبيلة العزازمة". اضاف صالح: "وتقوم سياسة سلطات الاحتلال الصهيوني على أساس تفريغ النقب من سكانه البدو بتضييق سبل العيش امامهم، وممارسة الارهاب والضغوط النفسية عليهم لحملهم على الرحيل. وقامت قوات الاحتلال بتهجير آلاف البدو من ديارهم حول بئر السبع مرتين: الأولى منتصف الخمسينات عندما قامت بتجميع أعداد كبيرة من البدو في منطقة منعزلة وفقيرة الموارد تقع الى الغرب من البحر الميت ووادي عربة. وتهدف من وراء عزل البدو قرب الحدود الاردنية الى اجبارهم على الرحيل لقسوة الظروف الطبيعية وصعوبة الحياة في المعازل الوعرة. اما المرة الثانية فإنها حدثت في أواخر السبعينات بعد توقيع معاهدة الصلح مع مصر. وقد قامت قوات الاحتلال بطرد عدد كبير من البدو من ديارهم وألقت بهم داخل المعازل المقامة لهم في الصحراء. وتم انشاء مطارات عسكرية بمساعدة الولاياتالمتحدة الاميركية فوق اراضي القبائل العربية المصادرة من الصهيونية والبالغة مساحتها نحو 100 الف دونم". تجنيد إلزامي هذا ما تم بالنسبة الى الارض وسكانها. فكيف أُرغم افراد القبائل العربية، الفلسطينيون والبدو، على الانخراط في الجيش الاسرائيلي، الذي صادر اراضيهم وشرّدهم في ديارهم، ويمارس تجاههم حتى وهم يخدمون فيه سياسة التفرقة والتمييز العنصري. اعتباراً من عام 1955، أقرّت الحكومة الاسرائيلية قانون التجنيد الالزامي "للأقليات" في اسرائيل. وشمل الدروز والشركس والبدو، وأصبح من حق وزير الدفاع الاسرائيلي استدعاء ابناء الأقليات اولئك الذين بلغوا 18 عاماً. وكل من يرفض ذلك فإنه يتعرض الى الملاحقة والسجن ودفع الغرامات - رفض الالتحاق مئات من الشبان ونُفذت فيهم العقوبات المنصوص عنها في القانون - وأنشأ الجيش لهذا الغرض كتيبة خاصة أطلق عليها اسم "كتيبة الأقليات" زُج افرادها في كل الحروب التي خاضتها اسرائيل ضد ابناء جلدتهم من العرب الآخرين. وما زال الفلسطينيون واللبنانيون يتذكرون ويذكرون اثناء الغزو الاسرائيلي للبنان سنة 1982 وما تلاه، انهم شاهدوا عشرات الجنود العرب الفلسطينيين ضمن ذلك الجيش الغازي. بعضهم كان ينفّذ اوامر ضباطه الصهاينة كمن يريد كسب الرضا وتعليق النياشين، وبعضهم الآخر كانت دموعه لا تخفي حال الارتباك والصراع والتمزق المتأججة داخله. وهدفت الحكومة الاسرائيلية من وراء انشاء "كتيبة الاقليات" الى تسميم العلاقة وجعلها تقوم على الشك والارتياب بين عرب الداخل وعرب الخارج، فضلاً عن كونها أوجدت شرخاً بين الفلسطينيين الباقين رهائن لديها بأقلياتهم وطوائفهم وتوجهاتهم. اكتشف جنود "كتيبة الأقليات" انهم "يُعاملون كأنهم غير عرب اثناء الخدمة، وكعرب مضطهدين بعد إنهائهم فترة التجنيد" بحسب ما جاء في كتاب "دروز الوطن المحتل" لوفيق ابو حسين. ونشرت صحيفة "الحياة" في 10/1/2002 تقريراً عن الجنود الفلسطينيين البدو في الجيش الاسرائيلي نقلاً عن صحيفة "هآرتس" الاسرائيلية، جاء فيه: "ونقلت - الصحيفة - عنهم تذمرهم من التمييز اللاحق بهم، سواء في بلداتهم حيث يُنظر اليهم كمتعاونين مع السلطة، او في الحصول على عمل بعد إنهاء خدمتهم العسكرية، كما اشتكى بعضهم من التمييز في التعامل حتى اثناء تأدية خدمتهم العسكرية". ونقلت "الحياة" "مطالب" من جانب قائد كتيبة "الأقلية" البدوية علي حيل الذي "دعا فيها الحكومة الاسرائيلية الى الالتفات الأفضل لاحتياجات المواطنين البدو ومساواتهم في الحقوق تقديراً لخدمتهم العسكرية التطوعية". وأضاف التقرير: "وكان وزير الدفاع في حكومة بنيامين نتانياهو موشيه آرينز قدّم لقادة الجيش خطة تفصيلية لتشجيع الشبان البدو على الالتحاق بالجيش الاسرائيلي بعد ان تلقى معلومات افادت ان انخفاضاً كبيراً طرأ على عدد الملتحقين في العام 1998. إذ بلغ 235 جندياً فقط، ووضع آرينز هدفاً بتجنيد 400 شاب بدوي في العام 2000 و800 في العام 2002". أما عن تخصيص كتيبة للبدو في الجيش الاسرائيلي لها مهماتها الخاصة، فذكر التقرير المشار إليه الآتي: "أقيمت الكتيبة قبل 12 عاماً، جميع افرادها من العرب، وغالبيتهم العظمى من البدو، انخرطوا في صفوف الجيش بشكل تطوعي - نتيجة اسباب قهرية معروفة - وألقيت عليهم مهمات ضبط مهربي المخدرات والأسلحة من مصر وضبط متسللين الى اسرائيل. لكن طابع المهمات تغير مع اندلاع الانتفاضة الأولى والثانية، إذ أنيطت بالكتيبة مهمة حراسة الموقع العسكري للجيش الاسرائيلي "نزميت" في رفح. وتعرض الموقع الى اكبر عدد من عمليات اطلاق النار من الجانب الفلسطيني، ومن بينها عملية رفح الأخيرة".