يقول مؤرخو سيرة كارل ماركس مؤسس المادية التاريخية وصاحب "رأس المال" إنه لم يستمتع خلال حياته بتأليف كتاب قدر استمتاعه بكتابة "بؤس الفلسفة"، مضيفين انه كان يحدث له في بعض المرات ان يغرق ضحكاً وهو يقرأ سطوراً كان انتهى لتوه من كتابتها. ليس هذا لأن الكتاب، في حد ذاته، مضحك او هزلي، بل لأن ماركس - وحسبما كان يقال - كان لا يفتأ يتخيل غريمه الفكري، الفرنسي برودون، وقد استبد به الغضب الشديد وهو يقرأ فقرات لا تكف عن السخرية من بعض اقوى صفحات كتاب كان، برودون، قد نشره بعنوان "فلسفة البؤس". وواضح ان كتاب ماركس انما كان رداً على كتاب برودون، علماً أن الخلاف الفكري بين مؤسسي الاشتراكية المعاصرة في ذلك الحين هذين، كان بدأ قبل ذلك بكثير، وأدى الى شق الصفوف الأممية. بل يقال ان برودون وماركس، حين التقيا للمرة الأولى في باريس في العام 1844، لم يشعر اي منهما بأي انجذاب تجاه الآخر، بل أسفرت نقاشاتهما عن خلاف كبير، من المؤكد ان برودون، رغب من كتابه "فلسفة البؤس" ان يعبر عنه وأن ينسف في طريقه كلاسيكية معاصره الألماني الشاب. ولئن كان كتاب برودون قد عرف باسم "فلسفة البؤس" فإنه كان يحمل ايضاً عنواناً أكثر دلالة في تصديه لماركس وهو "التناقضات الاقتصادية". وهذه التناقضات كان برودون يلحظها، في كتابه، لدى ماركس ومشايعيه، اكثر مما يلحظها لدى مفكرين آخرين. بالنسبة الى برودون كانت خطيئة "الاقتصاد السياسي الكلاسيكي" الأولى والقاتلة تكمن في انه "يتجاهل واقع ان الاقتصاد ليس سوى جزء من علم الاجتماع، اي انه ليس ممكناً إلا وصفه سوسيولوجياً". ومن الواضح ان نظرة برودون هذه، ستؤثر لاحقاً في كارل ماركس على رغم ادانته لها ضمنياً في رده الذي حمل عنوان "بؤس الفلسفة". وإذ يقول برودون في كتابه "إن علم الاجتماع هو المعرفة المعقلنة او الممنهجة لما يكونه المجتمع في كل حياته، وفي جميع مبادئه وفي شمولية وجوده" فالسوسيولوجيا هي، في رأي برودون "الوحيدة القادرة على الكشف عن المعنى الحقيقي لكل التناقضات الاقتصادية من طريق وضعها ضمن اطرها الاجتماعية" حيث ان "علم الاجتماع" يدرس، وفي الوقت نفسه، القوى الاجتماعية والوعي الجماعي، وهو يدرس، بشكل خاص، التفسيرات الديالكتيكية المعقدة المرتبطة بسيرورة حياة كل مجتمع. و"المجتمع، بالنسبة الى الاقتصادي الحقيقي، كائن حي يتمتع بذكاء ونشاط خاصين به، وتسيّره قوانين خاصة لا يمكن كشفها إلا من طريق الرصد". أما وجود ذلك كله فلا يبرز في شكل مادي بل، "من طريق العمل الجماعي البروموسيوسي" وهذا العمل الجماعي ما هو سوى رمز المجتمع المتحرك وفي شكل اكثر خصوصية "رمز العمل، العمل الذي يحرر العامل من الاستلاب، إذ يتوصل عبر تجاوزه لنفسه على الدوام، الى الإنجاز المتكامل للنشاط الجماعي الخلاّق". ومن هنا فإن العمل بالنسبة الى برودون "موجود من طريق وحدة العمل الجماعي التي تشمل الحياة والعمل والوعي الفردي والجماعي والروح والعدالة". وضع برودون كتابه هذا في العام 1846 ونشره في جزءين. وكان من الواضح منذ البداية ان مراده الأساس منه هو نسف النظريات الاقتصادية الميكانيكية التي كان يرى ان كتابات ماركس وأشياعه تعبر عنها. فبرودون، كان يأخذ على هؤلاء ما اعتبره هو "إهمالاً للعامل البشري" ول"قوة الخلق الجماعية" وأكثر من هذا ل"حضور الروح في العالم وفي القيم". فبالنسبة الى برودون كانت مشكلة الماديين الأولى تكمن في عدم اهتمامهم بالثنائيات الماثلة في حياتنا: ولا سيما ثنائية الخير والشر. وبرودون يرى اننا اذ ندرس التاريخ متفحصين، ولا سيما تاريخ المجتمعات، سنلاحظ ان في كل مرحلة وفي كل فكرة جانباً خيّراً وجانباً شريراً... ومن الضروري، اذاً، الاحتفاظ بما هو خيّر والابتعاد عما هو شرير أو سيئ. في هذا الإطار كان مراد برودون، ان يصل الى صوغ الأطروحة ونقيضها، للانطلاق الى صوغ التوليفة المطلوبة على النمط الهيغلي. لكن المشكلة ان برودون كان، في ذلك الحين، يستهدي بنظرية هيغل الثلاثية هذه من دون ان يكون قد قرأه. وزاد برودون انه ينطلق من هذه النظرية الثلاثية ليكتب تاريخاً للبشرية لا يقسم هذا التاريخ الى مراحل زمنية بل الى مراحل فكرية. "إنه هيغل مقلوباً رأساً على عقب" كما سيقول ناقدو برودون ومنهم ماركس الذي، اذ يطري على بعض افكار برودون يسارع على الفور الى القول إنه في مسار التاريخ الفكري، لن يكون لهذا العمل أية مكانة. لكن الحقيقة هي ان "فلسفة البؤس" عاش ولا يزال يعتبر واحداً من اهم كتب برودون، بل ان كبار مجددي الماركسية في القرن العشرين، ومنهم مثلاً أقطاب مدرسة فرانكفورت، لم يفتهم ان يستفيدوا من الجانب الروحي المثالي! الذي ركز عليه برودون. هذا الجانب الروحي يلخصه برودون، في الجزء الأول من كتابه الذي ينقسم، اصلاً، الى جزءين، بأن "معظم الفلاسفة، بوصفهم فقهاء لغويين، لا يرون في المجتمع سوى كائن عقلاني، أو بشكل اكثر تحديداً، اسماً مجرداً يستخدم لوصف مجموعة من البشر. وإنه لحكم مسبق وصلنا كثيراً منذ طفولتنا، من طريق دروس القواعد الأولية التي تقول ان الأسماء الجماعية، اي أسماء الأنواع والأصناف، لا تشير ابداً الى حقائق، بل الى مجردات .... ولكن في نظر اي شخص سبق له ان امعن الفكر حول قوانين العمل والتبادل نجد ان واقع وأكاد أقول شخصية الإنسان الجماعي ]المجتمع[ هو شيء مؤكد الوجود، مثل واقع وشخصية الإنسان الفرد. وكل الفارق يكمن في ان الفرد يقدم نفسه على شكل جهاز عضوي تعيش اجزاؤه تلاحماً مادياً في ما بينها - وهذا البعد هو الوحيد الذي لا نجده في الإنسان الجماعي -. اما الأمور الأخرى مثل الذكاء والعفوية والتطور والحياة - اي كل ما يشكل وعلى أرفع المستويات - جوهر حقيقة الكائن، فيجب اعتباره اموراً جوهرية بالنسبة الى المجتمع كما بالنسبة الى الفرد". وفي الجزء الثاني من الكتاب نفسه يتساءل برودون "ما هو العمل؟" ليجيب: "حتى الآن ليس ثمة ما يحدده. فالعمل هو رسالة الروح. ان نعمل معناه ان ننفق حياتنا. ان نعمل معناه بكلمة واحدة ان نضحي بأنفسنا. أن نموت ... فالإنسان يموت من جراء العمل، ومن جراء التضحية بالنفس. انه لا يموت لأنه يعمل بالطبع، بل هو مائت وفان لا محالة لأنه ولد عاملاً .... إن العمل هو عملية الخلق نفسها، مأخوذة في واقعها ... اما هذا العالم المحيط بنا، المتغلغل فينا يحركنا، من دون ان نراه إلا من طريق بصيرتنا، ومن دون ان نلمسه ولا ندركه إلا بواسطة دلالاته، هذا العالم الغريب هو المجتمع... هو نحن". بيار - جوزف برودون الذي ولد العام 1809 في مدينة بيزانسون الفرنسية، اعتبر دائماً من كبار المؤلفين المؤسسين للنظرية الجذرية الفوضوية، وإن كان هو لم ينظر الى كتاباته على ذلك النحو، بل كان يعتبر نفسه واحداً من مؤسسي الاشتراكية المعاصرة. مهما يكن فإن برودون الذي شكلت كتاباته واحداً من جذور الماركسية، وإن كان ماركس قد عاداه طويلاً، اهتم خصوصاً بمسائل التنظيم الاقتصادي المتبادل، وبمعارضة كل نوع من انواع التنظيم السياسي المركزي ومن هنا ربطه بالنزعة الفوضوية التي كانت تقف ضد كل تنظيم ومركزية. تحدر برودون من أسرة فلاحية فقيرة، وحين شب عن الطوق اشتغل في مطبعة عاملاً. ثم تمكن من الحصول على منحة مكنته من الدراسة في باريس. وهناك نشر كتابه الأول "ما هي الملكية؟" 1840 وفيه اعلن اولى بوادر معارضته لاستخدام الملكية، وسيلة لاستغلال الذين لا يملكون شيئاً، داعياً الى إضفاء طابع انساني على المُلكية يمكن العمال من ان يمتلكوا ادوات انتاج خاصة بهم. وفي العام 1843 ذهب برودون ليعمل في ليون حيث التقى أنصار مذهب التعاونيات التبادلية، ولدى عودته الى باريس راح ينشر صحيفة "ممثل الشعب". وسجن بين 1849 و1852 بسبب انتقاده لويس نابوليون. وتتالت كتبه ومن أبرزها "الفكرة الثورية العامة في القرن التاسع عشر" و"عن العدالة في الثورة وفي الكنيسة". وحين مات في العام 1865 كان يشتغل على كتابه الأخير "عن القدرة السياسية للطبقة العاملة".