سأعترف سلفاً لأقول ان البرامج والفضائيات والمحطات الإذاعية التي سيأتي ذكرها في هذا الاستطلاع هي اكثر المحطات استقطاباً لجماهير المشاهدين والمستمعين العرب... وهذه نتيجة "طبيعية" لمثل هذا النوع من الإثارة الذكية التي تشبه عمليات "القنص" في تنافس ماراثوني عجيب تتناطح فيه اربع وخمسون فضائية عربية من اصل خمسمئة فضائية تغطي فوقنا اجواء الكرة الأرضية وتحبس الأنفاس حتى في المخادع. "القمر عالباب" نبدأ مع برنامج "القمر عالباب" الذي تقدمه يمنى شري على فضائية "المستقبل" والذي يقولون عنه انه برنامج "مهضوم"... و كلمة "مهضوم" واحدة من المفردات الجديدة التي اطلقت اخيراً على البرامج، ومنها انه برنامج "بيعقّد" او انه "يجنّن" أو انه برنامج "يخبل" بحسب وصف اخواننا في الخليج. كان الفنان السوري جمال سليمان "قمر" احدى حلقات هذا البرنامج... وعلى رغم ان نجومية هذا الفنان لا تنبع من شكله فقط، بل من اهمية ادواره، ومن ثقافته الفنية الواسعة، ومن كونه مدرّساً في المعهد العالي للفنون المسرحية، فإن اسئلة وحوارات البرنامج انصبّت كلها على طلّته ورجولته وشبوبيته وحكاياته العاطفية، ومشروع الزواج الذي يؤجله منذ عشر سنوات، والذي أصرّت مقدمة البرنامج على أن ينفذ في فترة قريبة... ولما قال لها الفنان انه لا يستطيع الزواج في موعد قريب لانشغاله بتأدية دور صلاح الدين الأيوبي الذي يقوم بتصويره، ما كان منها إلا ان صاحت "يخرب بيتك يا صلاح الدين الأيوبي"... دعت على بيت القائد الكبير بالخراب وهو الذي حرر القدس وقهر الصليبيين في معركة حطين، لأنه كان السبب في تأخير زواج الفنان، قمر البرنامج. اكثر من هذا، فاجأت معدَّة البرنامج ضيفها بفقرة مسجلة قدمت فيها فنانة ناشئة لتحيي الفنان الضيف، وقد ظهرت الفنانة بوضعية الاستلقاء على الأريكة بعد ان كشفت مفاتن جسدها، وتحدثت الى الفنان بأسلوب فيه الكثير من الغنج التهريجي، وأهدته دمية بعد ان حمّلتها إليه قبلة حارة. قال لي سائق التاكسي الذي كان يستمع الى إذاعة "صوت الغد" وقد فوجئ بالمقطع الحواري الذي كان يذاع بين امرأتين في برنامج يبدو انه كان يتحدث عن مشكلات الشباب والأسرة. - هل من المعقول ان تبث الإذاعة مثل هذا الحوار؟ كانت فتاة تشكو الى صديقتها من وضعها السابق مع اهلها المحافظين المتعصبين... من ابيها وأخيها وبقية رجال العائلة ذوي العضلات المفتولة والشوارب المبرومة. كانوا يمنعونها من الخروج ومن اي نشاط... وفجأة... تنازلوا عن رجولتهم بعد ان اصبحت تحشو جيوبهم بالمال الكثير... وسألتها رفيقتها: "ومن اين اتيت بكل هذه الأموال؟ فأجابت: "من الشغل". فسألتها: وما هو هذا الشغل الذي يدر كل هذه الأموال؟ اجابت وهي تشير الى معنى معروف: اشغال حرّة... وفهمك كفاية. لم يقدم هذا المشهد الحواري في سياق التوجيه او التنبيه او الاستنكار، بل كان يوحي - هكذا فهم السائق وهكذا فهمت بدوري - بأن الحل الوحيد لتكسب المرأة الأموال الكثيرة التي تهزم عضلات وشوارب رجال العائلة هو "الأشغال الحرة" وفهمكم كفاية. انتداب... لا استعمار استنكر جورج قرداحي، صاحب برنامج المسابقات الشهير "من سيربح المليون" سؤالاً قدمه الكومبيوتر الذي يستخدمه لأحد المتسابقين حول الاستعمار الفرنسي في لبنان وقام باستبدال الجملة بأن الاستعمار الفرنسي "خطأ" ويجب ان نقول: "الانتداب" الفرنسي... ولا يزال اهل اللغة والعلوم والتاريخ يبحثون حتى الآن عن الفرق بين "الاستعمار" و"الانتداب". سأقف عند مفهوم "الثقافة" أو "التثقيف" التي يدعيها اصحاب برامج المسابقات، وهي ما يمكن ان نسميها ثقافة الحزازير، أو الفوازير كما يقولون في مصر، إذ يندر ان يجيب مشارك عن سؤال ثقافي حقيقي إلا من خلال "رمية حجر" أو الاستناد الى من يسعفه من الجمهور والأصدقاء وحتى من الكومبيوتر الذي يحذف له اجابتين خاطئتين من اصل اربع. الأسئلة الخمسة عشر التي يطرحها البرنامج على المشاركين فيه لا يصل المشاركون فيه الى اكثر من عشرة في افضل الحالات، فإذا علمنا ان سبعة منها هي مجرد اسئلة سخيفة، وليست سهلة كما يقول مقدم البرنامج، فإن الثقافة تنعدم في اكثر اسئلة البرنامج الذي لا يشارك في الحلقة الواحدة منه اكثر من ثلاثة متسابقين من اصل ثمانية استقدموا الى باريس. اما بقية الأسئلة الثقافية المهمة فهي تطلق للتعجيز بعد اقتراب المتسابق من الجائزة الكبرى، إذ يسأل المعد مثلاً عن اسم عاصمة ولاية اميركية من اصل خمسين ولاية، ونحن نسأل بدورنا عن الحكمة من وجود ان يحفظ الإنسان العربي الذي لا يعرف جميع عواصم اقطار الوطن العربي، اسماء عواصمالولاياتالمتحدة الأميركية؟ هل هذه ايضاً من بوادر "العولمة"؟ برامج الحوارات... وشهود العصر لا يزال اكثر برامج الحوارات على الفضائيات العربية، يثير الأسى في نفس المشاهد العربي، وهو يرى ابناء امته كيف "يتهاوشون" على هذه الفضائية او تلك، ونموذج ذلك برنامج "الاتجاه المعاكس" الذي يقدمه فيصل القاسم على قناة "الجزيرة"، بنوع من الصراخ الذي لا يختلف عن مبارزات الديكة او حوار الطرشان. حتى المداخلات التي تأتي من هنا وهناك للمشاركة، في البرامج الحوارية، يتم اختيار اصحابها ضمن "خطة مدروسة"، حتى كبار المحاورين، او الذين يطلق على بعضهم لقب "شهود العصر"، يفاجأ المشاهد ان عدداً منهم ابعد ما يكون عن هذه الصفة التي لا تنطبق بأبعادها الحقيقية إلا على قلة نادرة، فمنهم المأزوم، ومنهم المغرض، ومنهم الذي نسي نصف ذاكرته، ومنهم من يلوي عنق الحقيقة، من دون ان يتاح لأحد مناقشتهم او الرد عليهم في حين يجب ان تعقد ندوة في آخر لقاءات كل شاهد لتقويم أقواله واعترافاته لئلا يخدع الجيل الجديد بمعلومات سالفة حدثت قبل عقود من الزمن ولا يعرف عنها شيئاً. وقد احصى البعض - ونذكر هذا على سبيل المثال لا الحصر - في حلقات الفريق امين الحافظ مغالطات عدة ومكشوفة، ليس في تهجمه على الأشخاس، ولكن في المفاصل التاريخية والأحداث المهمة، وإلا فكيف يكون رئيساً للجمهورية السورية، ومساهماً أساسياً في إقامة القطرين السوري والمصري، وهو لا يعرف - او لا يذكر كما قال - ما إذا كانت تسمية سورية في عهد الوحدة القطر الشمالي ام الجنوبي... ثم اكد الخطأ بقوله: "يمكن اقليم جنوبي. سفيرون... لا سفراء محطة "زين عين" على فضائية المستقبل، كان المقدمون فيها وهم مجموعة من الصبايا والشباب، يجلسون "شلون ما كان" وبنوع من الاستهتار بالمشاهدين، يتحدثون بلغة عربية ركيكة نصفها بالإنكليزية. إذاع احدهم خبراً اعتبره "كتير مهم" وهو ان أحد الفنانين الأجانب - لم استطع ان ألتقط اسمه لأن مقدم البرنامج كان يبتلع نصف الأحرف - وضع حذاءه في مزاد علني خاص وقال انه سيخصص ريع المزاد لمشروع يسقي شعب افريقيا الماء. قدم الخبر وهو يكاد يوحي للمشاهدين بأن على العالم ان يقيم تمثالاً لهذا الفنان تقديراً لأريحيته ومساهمته - من خلال حذائه - في مكافحة ازمة العطش في افريقيا. وفشل مقدم آخر في البرنامج وهو يتحدث عن السفراء في ان يعرف جمع كلمة "سفير"، فلفظ الجمع هكذا: "سفيرين" بكسر حرف الباء. اما مسابقة البرنامج فقد اعلنها احد المقدمين وهو يعد طبقاً من المعكرونة - على الهواء مباشرة - وكان السؤال عن عدد "الطبخات" التي سبق ان قدمها في البرنامج، واسم كل طبخة. هذا غيض من فيض، مما تبثه الفضائيات العربية، ولا نترصده من باب تصيد العثرات او تتبع الأخطاء، بل هو - كما قلنا في موضوع سابق - اشارات سريعة الى ظاهرة مؤسفة تتفاقم على هذه الفضائيات بعد ان اصبح هناك نوع من الفلتان الإعلامي، بدءاً بالحوارات، وانتهاء بالإعلانات، ومروراً بالبرامج على خطوة وأهمية وجود مثل هذه الفضائيات، بعد ان اصبحت قناة الجزيرة - وهذه مجرد مثال - اشهر من قطر نفسها، لأن سكان قطر عشرات الآلاف، بينما نجد مشاهدي "الجزيرة" بالملايين.