} الانترنت أو حيازة جهاز كومبيوتر أو ملاحقة آخر صيحات الموضة وصرعاتها في الملابس والعطور، لا تأخذ مكاناً لها في هواجس شريحة من شباب الريف السوري المحاذي للحدود مع لبنان. ولا تعني لهم أخبار الفنانين والموسيقى شيئاً، ولا يؤسفهم عدم توافر دور للسينما او مسارح او مطاعم وجبات سريعة في قراهم. هم يكتفون بالتلفزيون نافذة يطلون منها على العالم الآخر، يتابعون من خلاله ما يرضي حاجاتهم المعيشية والخيالية. ولا يعبأون بأخبار سورية الداخلية أو البلدان المجاورة، ولا بأسامة بن لادن أو الحرب على أفغانستان، ولا يستوقفهم الحديث عن العولمة والغزو الثقافي ولا التحالف ضد الإرهاب. كل ذلك لا يهمهم. يتابعون فقط برامج المسابقات، ويراقبون بشغف ربح الملايين فتتضاعف أحلامهم بهبوط ثروة مفاجئة تمكنهم من الوصول إلى فتيات أحلامهم اللواتي يشبهن بنات التلفزيون الرشيقات، الأنيقات والدلوعات. وفي ظل هذه الحياة الهامشية يغرقون في الجريمة ... وتبدأ مسيرتهم غالباً في تهريب حاجيات منزلية لتصل الى المخدرات والعملة المزورة لدى البعض. والمؤسف ان شبان مجتمعات نائية مثل هذه يرتضون بمقاييس متواضعة لسلطة القانون، ان لم تكن معدومة، في ظل التفاخر بجرائم الشرف وما يشبهها من "بطولات" تشرعنها الصلات العائلية والمحسوبيات. المال والنساء جلَّ ما يفكر فيه هؤلاء الشبان، وهم في مجتمع منغلق على نفسه ومنفتح على القاع. حسان 35 عاماً يعمل في التجارة ويسكن في القصير الحدودية القريبة من الهرمل، يثيره "الدور التخريبي" الذي يلعبه التلفزيون لدى الشبان في مدينته الصغيرة، فيقول: "واقعنا يعاني التخلف والجهل، ومع هذا يستخدم الشبان أحدث التقنيات ليس لتغيير الواقع، وإنما لتكريسه، والتلفزيون للأسف يشكل عاملاً مساعداً". وفي العقد الأخير، اضطرت مجموعات من الشبان الأميين والعاطلين عن العمل إلى الانخراط في التهريب عبر حدود البلدين لتأمين الحد المعيشي الأدنى ، وباتوا أيضاً لا يتوانون عن ارتكاب أي شيء لتأمين ثمن الاتصال ببرامج المسابقات على أمل الفوز بجائزة. ولا يتورعون عن سرقة خطوط هاتفية ليتصلوا على الأرقام الساخنة. غالبية هؤلاء الشبان تتراوح أعمارهم بين 15 و25 عاماً، وهي السن التي يفترض أن يكونوا فيها إما في المدارس أو في الجامعات. أحد العاملين في مؤسسة الهاتف والبريد في القصير، أشار إلى حجم الاتصالات المتنامي الذي تشهده المناطق الحدودية المفتقرة إلى نشاط اقتصادي تجاري أو صناعي وحتى زراعي واسع أو متطور يستدعي هذا الكم من الاتصالات التي تزايدت عشرات المرات بعد عام 1995 مع تحول الهاتف فيها إلى الخدمة الآلية. قبل ذلك لم تكن واردات الهاتف تغطي أجور العاملين في المقسم، بينما تضاعفت اليوم. ومعظم الاتصالات يفرضها واقع الكبت الاجتماعي الذي يعيشه الشبان والشابات، الذين يلجأون إلى الهاتف وسيلة للتعارف. وحدّ ظهور جهاز الكاشف الرقمي من المعاكسات الهاتفية، لكن مشكلة العلاقة مع الهاتف كمتنفس وحيد لم تحد، بل أضيفت إليها ظاهرة سرقة الخطوط للاتصال ببرامج المسابقات في الإذاعة والتلفزيون، بسبب عدم قدرة كثير من الأسر ذات الدخل المحدود على تغطية نفقات المخابرات المحلية الزائدة فما بالك بالدولية. يعلق عمر 27 عاماً وهو جامعي ويعمل في متجر صغير على هذا التساؤل بالقول: "إذا أردت أن تعرف من أين تعيش تلك الأسر فما عليك إلا القيام بجولة عند الخامسة صباحاً على محطات الوقود، لتشاهد الشبان والفتيان المصطفين لشراء المازوت، والذهاب به إلى وراء الحدود ليربحوا قرشين، وإذا لم يحالفك الحظ برؤية هذا المشهد فعليك انتظار مواسم البطاطا والشمندر والمشمش والتفاح لترى عدد العاملين بالفعالة، أما إذا لم تقتنع فما عليك سوى السؤال عن أعداد الشباب الوافدين إلى عالم الجريمة شهرياً من خلال جولة ميدانية على مقاسم الشرطة ... ومع هذا، ألا يمتلك هؤلاء الحق بأن يحلموا بثراء مباغت من برامج االمسابقات"؟! امتناع عن التعليم ويبدو من متابعة هذه الشريحة ضمن المجموعات السكانية التي تقطن المناطق الحدودية المحاذية للحدود الشمالية الشرقيةللبنان، مثل مدينة القصير الصغيرة 50 ألف نسمة والقرى التابعة لها مثل زيتا والقرنية والناعم والعقربية وعرجون والنزارية وربله وقرى أخرى كثيرة يتجاوز عدد سكانها مجتمعة 150 ألف نسمة، أن هناك أعداداً كبيرة من الشبان يعزفون عن التعليم لما يمثله لهم من عبء لا طائل منه، خصوصاً ان المعلمين بؤساء أيضاً، فهم يعملون في التدريس صباحاً وفي الزراعة أو التهريب بعد الظهر. فواقع المعلمين لا يبدو أفضل حالاً من واقع الطلبة، وهناك معلمون يعملون في القرى ضمن الشريط الحدودي يحملون معهم مواد مهربة إلى مدنهم، معتمدين على الطلبة في التبضع لهم من القرى اللبنانية. أحد معلمي الابتدائي 30 عاماً ضحك عندما سألناه، هل تجلب معك بضاعة من القرية التي تعمل في مدرستها؟ وأجابنا باستخفاف: "ما هذا السؤال، هل تعتقدون أن الراتب يكفي أجور مواصلات إلى تلك الضيعة، وما أحمله معي من بضائع، بالكاد يعادل ثمنه قيمة ما نأكله من خبز يومياً، أنا وأطفالي الأربعة". ومشكلة التسرب من التعليم الابتدائي ظاهرة بشكل واضح في هذه المناطق. ويقول أحدهم: "نسمع كثيراً عن تزايد عدد الطلاب في سورية في مختلف المراحل التعليمية، بينما أجدها في مدينتنا تتناقص". "روبن هود" رضوان 20 عاماً يتمتع بصحة ورشاقة، يقول أقرانه عنه، أنه حين لا يعمل بالتهريب، يمارس السرقة والاحتيال. ويتميز في أنه لا يحرم أصدقاءه متعة، فإذا اشتهى أحدهم شيئاً أمّنه له عن طريق السرقة. أحد رفاقه يقول: "أذهلني في إحدى المرات عندما شكوت له شخصاً أنكر أنه استدان مني خمسة الاف ليرة سورية مئة دولار أميركي، فتركني مدة ساعة تقريباً، ليعود إلي ببقرة سرقها من عند الشخص الذي حدثته عنه، وطلب مني بيعها لاسترد مبلغي وأعطيه ما يتبقى". لكن رضوان ينكر ما يشاع عنه مع ان تردده على السجن أمر ثابت. وهو يقول أنه لا يحب العمل في الحرام، ويكسب معيشته من عرق جبينه، وفي كل يوم يتكبد عناء عبور الحدود ليبيع بضعة ليترات من المازوت ثم يعود وفي جيبه قدر قليل من المال. وكان واضحاً على رضوان ما يتمتع به من ذكاء، فسألناه، لماذا لم تتابع تعليمك؟ فقال: "لماذا أتابع تعليمي، لأصبح أستاذ مدرسة يسخر منه الطلاب. ما الفائدة من تعليم لا يوفر لي المال. حال الأساتذة أعرفها، يبقون طوال عمرهم يكررون الدروس ذاتها متنشقين غبار الطبشور؟!". ولعل التعليم الذي يحتاج الى التزام سنوات طويلة من التحصيل، لا يضمن مستقبل أي شاب ما لم يكن من المتفوقين، وسيتخرج في الجامعة عاطلاً عن العمل، لتتلقفه بعدها خدمة العلم. ولن يبدأ التفكير في بناء منزل وتكوين أسرة قبل عشر سنوات على الأقل. بداية مُهرب هذا المنطق يحكم تطلعات غالبية الشبان في المناطق الحدودية التي يتشكل وعي أبنائها الفقراء من دخول معترك الحياة منذ الطفولة، فتبتلعهم منافذ التهريب. وتحت تأثير غواية المال يبدأ الصغار باللعب برؤوس أموال بخسة جداً تبدأ بتهريب 50 ليتر مازوت أو أسطوانة غاز بواسطة دراجة عادية من سورية إلى لبنان، مقابل جلب أدوات منزلية وأوان زجاجية أو سلع استهلاكية. هذه الجولات مهما طالت تنتهي عادة في السجن، ومن ثم الجنوح إلى الجريمة، وفي أحسن الحالات تبخر الأموال المكتسبة على طاولات القمار التي تشكل بدورها ظاهرة بين الشبان المذكورين. ولا يتجاوز دخل الأولاد والمراهقين من عمليات التهريب البسيطة يومياً ال300 ليرة سورية 6 دولارات، ومع تقدم السن وتمرسهم بالمهنة يصبحون من المحترفين في تجاوز الجمارك والهروب من نقاط التفتيش، وفي حال ربطتهم علاقات مع بعض رجال الأمن والجمارك، فسوف يراعونهم مقابل رشوة، لأنهم أولاً وأخيراً لا يختلفون عنهم ويبحثون مثلهم عن رزق. خالد18 عاماً يعاني مرضاً عصبياً، ولم يتابع دراسته الابتدائية يقرأ بصعوبة، لذلك لم يكن سهلاً أن يجد عملاً في أي مجال حتى كمستخدم بسيط، عاهته لم تترك له مجالاً سوى العمل في التهريب الذي أتقنه منذ الطفولة، ولا يبدو عليه أي تذمر في عمله. ويقول: "حاولت أن أعمل بالفاعل أجير لكن حالتي الصحية لم تساعدني، وأجبرني والدي على الزواج، قبل أن أمتلك أثاث غرفة أسكن فيها، حالياً أجلب أدوات مطبخية من لبنان، وتبيعها زوجتي في الحارة حتى نأكل خبزاً لا أكثر". ويتمنى شاهر 19 عاماً لو أن والده يجبره على الزواج فهو يعمل بتهريب المازوت والغاز وأشياء أخرى ويملك 15 ألف ليرة سورية 300 دولار تمكنه حسب تعبيره من "جرّ زوجة". وهذا المبلغ الذي يبدو بخساً، يعتبر بالنسبة لشاهر ثروة طائلة كونها تكفي لشراء فراش وشوية "طراريح" ومساند قش لتأثيث غرفة في منزل أهله. مهربات شابات التعيش من التهريب لا يقتصر على الذكور فقط، فهناك شابات يعملن في هذه المهنة، سوريات ولبنانيات أو من القرى التي يتمتع أهلها بالجنسيتين معاً. زهرة 35 عاماً من هؤلاء، تنقل من ضيعتها اللبنانية كيساً صغيراً فيه بضع أواني منزلية، وتحمل على رأسها أسطوانة غاز فارغة تستبدلها، بعدما تبيع بضاعتها إلى زبائن، لتحصل على ما يعادل 200 ليرة سورية 4 دولارت، وإذا كانت همتها عالية فتكرر الذهاب والإياب. هي خجولة جداً، طبيعتها إنطوائية لا تنسجم مع عملها الذي يتطلب جرأة وربما وقاحة عالية. توقفنا للحديث معها من دون نجاح. ولا يمكن للمتحدث إليها سوى رثاء حالها، فهي لا تجيد النطق بوضوح، وتخشى الكلام الى الآخرين. لكن الناس تعودوا عليها، تنسل بهدوء حاملة بضائعها، بل هناك كثيرون ممن يساعدونها لأنها مسكينة. وتؤكد لنا امرأة أخرى ممن يعملن في المجال ذاته، لكن بتهريب الملابس الأجنبية الرخيصة، أن زهرة ليست سهلة مثلما نظن ولا ضعيفة، و"هي تلجأ الى هذا الأسلوب لكي لا يعترض طريقها أحد، وشهدتها في أكثر من موقف تتصرف على إنها أخت رجال على رغم قصر قامتها وضآلة حجمها". خصوصية المكان موقع المناطق الحدودية الجغرافي أسهم في تكوين مجتمع له سمات تميزه عن بقية المجتمعات الريفية في الداخل السوري أو الساحل. ومجرد وجود فرصة لتحصيل كسب سريع في منطقة زراعية تعاني في العقد الأخير شح المياه، يجعل الكثير من سكانها يتوجهون الى العمل في التهريب، مستفيدين من فارق العملة والمعيشة بين البلدين. ويؤسس لقيم سلبية أقلها الكذب والاحتيال، وأكثرها قسوة امتهان الكرامة، فالشاب الذي ينشأ على التزلف الوضيع لعناصر الأمن لا يهتم كثيراً بما يتعرض له من إهانات. مأمون 16 عاماً يقول ان من الصعب التحايل على التجار اللبنانيين "فإذا أخذنا منهم بضاعة على الثقة ولم نسددهم ثمنها لا يمكننا العودة ثانية إلى لبنان، فالدائن يعمم الخبر على جميع التجار، وحدث معي مرة، أن صودرت البضائع التي أحملها، فلم أستطع العودة إلى لبنان إلا متنكراً لأتمكن من شراء غيرها وتعويض خسارتي، واحتجزوني مع البهائم مدة أسبوع، ريثما أبلغ رفاقي أهلي الذين استدانوا المبلغ". والمشكلة ان المؤسسات الاجتماعية لا تقارب تلك المناطق بعناية، على رغم ارتفاع الظواهر غير الشرعية فيها.وتروي طبيبة نسائية 33 عاماً تجربتها في المنطقة، تقول: "عانيت أزمة نفسية بداية عملي، مع أنني ابنة المنطقة، لأنني صرت على تماس مع واقع كنت أسمع عنه إشاعات، فإذا بي أواجهها، فجرائم الاغتصاب والاعتداءات وغشيان المحارم، تكاد تكون مألوفة، على رغم التكتم عليها إلا في حالات قليلة، كتلك التي تنتهي بجريمة أو تعلم السلطات بها جراء مشاجرات. وعادة، ما يتم امتصاص تلك التجاوزات، وهي بحكم القانون جرائم منصوص عليها، عبر المصالحة أو التزويج بهدف السترة عبر تبويس اللحى. وربما يكون في حلول من هذا النوع جانب إنساني لتدارك جرائم الشرف، لكن هذا لا ينفي أن معدلات الجريمة إلى ازدياد". ويبرر جمال أكاديمي 40 عاماً، ما أوردته الطبيبة بالقول ان "لا مناص من انحراف شباب مهمش ومحروم من فرص معيشية معقولة، وجل آماله أن يتحول مهرباً يكسب الملايين، أو رجل جمارك يطارد المهربين؟ وكأن الحياة أموال ومطاردات، وإلا من أين يستقون أحلامهم، غير هذا الواقع المتاح؟! المؤسف، أنهم أحياناً يدفعون حياتهم ثمن أحلامهم التي نراها هزيلة، فبين فترة وأخرى نسمع عن مقتل شاب في المطاردات نتيجة للسرعة الزائدة، أو يقتلون برصاص طائش عندما يُشك بتورط بعض المهربين الصغار - وهذا نادر - في عمليات تهريب كبرى، أو عند تهريب مواد خطيرة كالعملة المزورة أو المخدرات، أو اللحوم المشكوك في صلاحيتها". لكن المشكلة الأخطر في رأي فارس 34 عاماً هي "في تحول الشبان العاملين في التهريب إلى الجريمة والسرقة حال تشديد الرقابة على الحدود، فمنذ فترة ليست بعيدة اعتقلت عصابة سرقة تضم اكثر من ثلاثين شاباً من قرى مختلفة، نفذت عمليات ناجحة. ونحن لم نكن نسمع في المنطقة عن وجود عصابات كبيرة مثل هذه". ولعل المعضلة الأهم التي أشار إليها أكثر من شخص من أهالي المنطقة من أصحاب المنشآت الصغيرة هي عزوف الشباب عن العمل حتى لو توافرت لهم الفرص، أحدهم أخبرنا عن الجهد الكبير الذي يبذله لإقناع شاب بالعمل لديه، "لكنه تحجج بأن العمل مضن والأجر قليل فيومية العامل 100 ليرة سورية". ويضيف صاحب المنشأة إن كلامي عن "الكرامة والعمل الشريف والآمن يبدو لهؤلاء الشباب سخيفاً وأحياناً مضحكاً". وتحذرالطبيبة النسائية، من تشكل طبقة اجتماعية تمثل بؤراً موبوءة تشهد تنامياً، وبدأت تكتسب شرعيتها الاجتماعية، فلا يشتكي من وجودها أحد طالما أن المصالح الشخصية لا تتضرر، وطالما هناك إمكانية لتجاهلها بدافع العلاقات الاجتماعية التي تربط بين الناس. أما فارس فيعتقد أن المجتمعات الحدودية بدأت تجني الثمار المرة، لتشكل هذه الطبقة الشابة والعاصية. ويقول ان تفكيكها وتأهيلها بات يحتاج إلى أكثر من الشرطة والسجون، و"إنما إلى تدارك شرور الظلم الاجتماعي وإهمال مناطق بأسرها، وإعادة النظر في التنمية غير المتوازنة".