كما لو ان الأمر أكثر من عادي كي يشار اليه، صار التفكك الذي يعانيه المشهد التشكيلي في بلد ما مظهراً طبيعياً. صرنا نعترف بحضور التجربة الفردية على حساب الحركة الجماعية، لا مدارس ولا اتجاهات ولا تيارات فنية. صار الأسلوب في معناه الفردي هو الأهم بالنسبة لجموع المتذوقين والأشد إغراء بالنسبة للفنانين في خوض مغامراتهم الشكلية. فهو الدافع للتلقي وللابداع في الوقت نفسه. هناك نوع من الانحياز للصوت الشخصي النافر بكل ما ينطوي من ارتداد وعزوف عن التآمر الجماعي. كانت التجارب الفنية بالأمس تشكل الرصيد الذي تستند اليه الظاهرة التشكيلية، أما اليوم فإن تلك التجارب انما تشكل شروخاً في جدار تلك الظاهرة التي لم يعد بإمكاننا ان نراها متماسكة مثلما كانت من قبل. غادر الرسامون ولع أسلافهم الأسلوبي من جهة مراميهم الشكلية ليعيدوا الرسم الى ضلالته، كونه هدفاً في حد ذاته. ولذلك لم يعد ممكناً الحديث اليوم عن صفات فن في بلد ما أو في مرحلة ما. فما يفرق اليوم هو أكبر مما يجمع. أحدث هذا التحول سعة في حدود المكان والزمان على حد سواء. وما نراه من وقائع تشكيلية في قطر لا يبتعد كثيراً عن هذا التوصيف. يمكننا الحديث عن تجارب فردية متحاشين الحديث عن اتجاهات أو تيارات أو مدارس جماعية. يمكننا الرهان على ابداع شخصي من غير ان نغامر بالحديث عن ظاهرة تشكيلية. وقد يمثل الفنان عيسى الغانم يقيم الآن معرضاً جديداً لرسومه في الدوحة وهو من بين الفنانين القطريين حسن الملا، سلمان مالك، علي حسن وسواهم هذا التعارض بين ما هو فردي وما هو جماعي. فهو من بين كل الرسامين القطريين يعتبر الأشد نفوراً من الأسلوب. بمعنى عزوفه عن تكريس عالمه الجمالي اسلوبياً، هذا التكريس الذي يعني بالنسبة لرسام من نوعه قيداً يمكن تفادي الوقوع في حبائله. ففي كل لوحة يقدمها الغانم يكشف عن لحظة جمالية جديدة هي مزيج من العلاقات الشكلية والكشوفات التقنية. غريب حتى عن ذاته فلا يضيق الرسام بهذا التنوع بل انه يعتمده مصدراً مهماً من مصادر تميزه. ذلك لأنه ينطوي على شساعة مؤكدة في الفضاء التخيلي الذي يتحرك فيه بعين خبيرة ويد مدربة على ايقاع لا يحضر الا في شكل مفاجئ. خبرة المفاجأة هذه والتي يتماهى الغانم معها في صنع عوالمه انما صارت تشكل علامة فارقة لوجوده المميز في المعارض الجماعية. تبحث عن لوحته لتجدها بيسر لا لأنها تعيدك الى واحدة من لوحاته كنت رأيتها من قبل بل لأنها تفصح عن خبرته التقنية التي تميزه عن بقية الرسامين القطريين. فالغانم رسام حرفي بحجم موهبة لا تسعها الحرفة. انه صانع لا تقيده القوانين الخارجية للصنعة، يقدر ما يتخذ من الصنعة سلماً للوصول الى غايات جمالية مفرطة في أناقتها. ان المفاجأة هي إلهامه الذي لا يكف عن الإيحاء بحيويته. انه يغرف من نبع لا يكف عن التدفق. في رسومه ميل واضح الى التجريب: تجريب العناصر التي تصنع التكوين وتجريب المواد التي يصنع منها السطوح. في الحالة الأولى فإنه ينطلق من رغبة جارفة في هدم البنى الشكلية المؤسسة على قاعدة من القناعات الجمالية المألوفة لينشئ بحطامها بنى شكلية جديدة. انه يعيد تأثيث عالمه بالمواد ذاتها التي تشكل منها العالم القديم لكن في صياغات جديدة. اما في الحالة الثانية فإنه يفصح عن ولعه التأليفي للأبعاد. ذلك لأنه لا يرى من السطح التصويري إلا تراكم أبعاده، هذه الأبعاد التي لا يمكن ان يحتويها سطح واحد، بل ان عالمه هو مجموعة السطوح التي تتجاوز وتتقاطع ويقدم بعضها البعض الآخر. وحين يحذف هذا الرسام من السطح بقعة ويضيف في مكان آخر بقعة جديدة فلا يحدث ذلك الا تعبيراً عن نزعة استغراقية تلم به وهو ينصت الى حوار الأبعاد الداخلية للسطوح. وإذا كنا نتحدث عن رسام تجريبي، فإن ما ينبغي ان لا ننساه ان عيسى الغانم لم ينتقل الى التجريب كما لو انه يقفز في الهواء. فهو رسام مؤسس على مهارات أكاديمية جيدة معرضه الأول يعود الى عام 1984 بل ان لوحاته التجريدية تكشف عن خبرة دراسية عميقة في عالم العناصر والإنشاء بل وحتى المنظور الذي لم يعد مشكلة في الفن الحديث. وكما أرى فإن انطلاق الرسام من هذه الأرضية المدرسية الرصينة ضمن له سبل السيطرة الأولية على حركة اللوحة، ان على مستوى الايقاع اللوني أو على مستوى التأليف البصري. فلوحات الغانم بغض النظر عن العالم التخيلي الذي تنشئه أو تصبو الى انشائه هي مشاريع جمالية لا تقبل الخطأ على المستوى الدراسي إذا جاز لنا التعبير. فهي تكشف عن مهارة في النسج وقوة في الأداء وهما صفتان لا غنى عنهما في تكوين أي فنان. ولأن عيسى الغانم يقصد الذهاب الى أبعد من حدود هذين الصفتين فإن حضورهما لا يتم في شكل استعراضي إذ ان الرسام يبدي عدم اكتراثه بهما، بل انهما يحضران في شكل تلقائي في كل ارتجافة خط وتمدد لون على سطح اللوحة. تبدو رسوم عيسى الغانم عازفة عن الإفاضة في الشرح. فهي لا تصف بقدر ما تعبر عن استمتاعها بالإشارة. انها تومئ الى ما يحد ولا تصوره. تعتني بالعابر واليومي والمهمل من اللحظات الجمالية في محاولة للثناء عليها في مقابل عدم اكتراثها بالمكرس والمألوف والجاذب. هذا الرسام يطرد من لوحاته كل ما يعده مصدر اغراء للمتلقي من أجل الاستمرار في النظر. انه لا يزوق ولا يزين سطوحه، بل يتركها عارية لتعبر عن العالم الخلوي الذي تجتازه الروح في هذياناتها. يقيم عالمه في الجهة المقابلة دائماً لما نتوقعه بصرياً. رسومه متوترة. مشدودة الى ذاتها وكأنها لا تنشد الذهاب الى المتلقي. هي نسيج هلعها وغاية سبلها المتفرقة. فوسط هذا الغموض التعبيري لا تكف رسوم الغانم عن الايحاء بحساسية مثيرة للمتعة، هي ما يمكن ان اسميه بحساسية البوح. هذه الرسوم تقوى على الصمت من أجل ان تزيح القول عن تفرده بسلطة التعبير، انها أشبه بالوشوشة التي توحي بانتقال التعبير من مرحلة القول الصريح الى معرفة الايحاء الداخلي بالقول. بهذا المعنى فإن رسوم الغانم ايحائية، لكنها لا تذهب مذهباً رمزياً. فهي تصنع عالمها الجمالي ببداهة تلقائيتها من غير ان تتخذ من العالم الخارجي، كلياً أو جزئياً، رمزاً اشارياً لواقعة نفسية.