في الظاهر، يبدو أغلب دول العالم مع أميركا في ما أعلنته من "حرب ضد الإرهاب"، لكن في الحقيقة أغلب دول العالم ليس مع أميركا في تلك الحرب عموماً، أو في حربها ضد أفغانستان خصوصاً. فقد تشكلت هذه الازدواجية، وربما الانفصام، من جهة بسبب فداحة الضربة التي نزلت بها في الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001. الأمر الذي وضع تلك الدول، على تفاوت، في موقع التعاطف معها لهول الضحايا المدنية البريئة. وفرض على معظمها عرض خدماتها للتعاون في محاربة الإرهاب. لكن الإدارة الأميركية، من جهة أخرى، اتهمت من دون دليل مقنع يقدم لمن يطلبه. ووضعت أفغانستان هدفاً للحرب، وأسمتها منذ البداية "حرباً عالمية" من دون أن تشرك المعنيين بتحديد أهدافها أو كيفية عملها، أو دور الواحد منهم، إن كان في صوغ القرار، أو الاستشارة. وبدا، في الواقع، ان المطلوب هو التأييد وتقديم ما يطلب من قبل كل طرف وحده. وهذا كله لم يحمل معنى التحالف بالمضمون المتعارف عليه في تشكيل الأحلاف، ومن ثم وجدت كل دولة نفسها عدا بريطانيا واستراليا وقلة من الدول غيرهما، مؤيدة وغير مؤيدة في الآن ذاته. وجاء التطبيق العملي في إدارة الحرب ضد أفغانستان لينزع عنها الشرعية الدولية، ولتأخذ شكل عدوان سافر على دولة ذات سيادة. وقُلب مفهوم حق الدفاع عن النفس ليتحول إلى حق احتلال الدول الأخرى، وشن حروب متسلسلة، لا علاقة لها بالحادث الذي أريد تطبيق مبدأ حق الدفاع عن النفس بسببه. وهكذا راحت أميركا تُدوّر تلك الازدواجية في التأييد وعدم التأييد لدى أغلب دول العالم وتُفاقمها كلما توغلت أكثر في حربها ضد أفغانستان، وتكشف ما تبطنه من أهداف. الأمر الذي يسمح بالقول، بداية، إن أميركا تتحرك ضمن "تحالف" هلامي مظهري هش، بلا طعم ولا رائحة ولا لون. ولكنها هي التي ارادته كذلك. فأربكت العالم كله، لأنها لا تريد أن تتفق مع الدول الأخرى على تعريف للإرهاب وكيف يعالج، بل لا تريد ان تلزم نفسها بأي تعريف للإرهاب حتى لو كان خالصاً من عندها. وبهذا أجهضت، بيديها، تشكّل تحالف عالمي ضد الإرهاب. أما من جهة أخرى، فإن الحرب التي شنتها على أفغانستان لم تحدد لها هدفاً بعينه، وإنما راحت تطرح هدفاً بعد آخر. ولم تتكشف عن موهبة عسكرية، وتقدير صحيح للموقف، يستطيعان وضع خطة أو استراتيجية وتكتيك عسكريين يتسمان بالبراعة والعمق وسعة الخيال، وإنما مجرد الاعتماد على القوة التدميرية، والحرب النفسية. وهذا حين يوضع ضمن المقاييس المعتبرة لعلم الحرب يهبط إلى الدرك الأسفل بمستوى الذكاء والخطة الاستراتيجية والتكتيك. فليس هناك تصور أميركي دقيق متتابع متماسك من الناحية العسكرية والإعلامية والسياسية لإدارة الحرب، وظهر هذا من خلال التقلب والتردد والارتباك في التصريحات اليومية لوزير الدفاع دونالد رامسفليد والناطقين العسكريين الرسميين. فمن جهة تحدثوا عن مرحلة أولى مدتها أسبوع، ثم مددت لتليها مرحلة اطلاق القوات الخاصة التي سرعان ما سحبت لتمتد المرحلة الأولى. والمشكلة من تدمير ثم تدمير ثم تدمير، آخذة في طريقها إلى مدارس ومستشفيات ومساجد ومراكز تموين للصليب الأحمر ومواقع لهيئات الاغاثة وأحياء سكنية، فأثخنت في الأطفال والنساء والشيوخ والآمنين عموماً. وإذا قيل أن ذلك كله جاء عن طريق الخطأ، فليس بمقنع مطلقاً. لأن تكرار الخطأ يوماً بعد يوم، ومرات كثيرة، يكون توجهاً وسياسة ولا مناص. إن الاستراتيجية العسكرية التي تعتمد على القصف الاستراتيجي، أي الضرب في العمق وفي البنى التحتية يدخل في الحرب النفسية ضد المدنيين، وفي الضغط على الإرادة لدى القيادات. لكنه غير مؤثر مثل القصف التكتيكي الذي يأتي مقدمة لتحرك القوات البرية وحسم المعركة مع القوات العسكرية المقابلة، فإذا تحمل الشعب الخسائر المدنية والضغط النفسي، وإذا لم تُفل ارادة القيادة العسكرية والسياسية، تصبح الحرب تدميراً من أجل التدمير ولا تصل إلى قرار، ما لم تغير الاستراتيجية والتكتيك لمخاطبة القوات العسكرية من خلال القوات البرية بمساعدة الطيران والصواريخ. ولهذا، وبعد ثلاثة أسابيع ويزيد من القصف في العمق الأفغاني، ومن دون استسلام شعبي أو قيادي، أو تزعزع في وحدة "طالبان"، ومع انتشار فضائح المجازر ضد المدنيين والمواقع المدنية، اكتشف قادة الحرب في أميركا ان "طالبان" "تجيد القتال"، ودهش نائب رئيس هيئة الأركان من "شدة تمسك طالبان بالحكم لأنها لم تستسلم بعد". وصدرت، أخيراً، تصريحات وتعليقات صحافية أميركية بدت عليها حال من القلق والزعزعة وعدم الثقة بالنفس حتى أصبح الخروج من الورطة يقتضي الدخول في ورطة أخرى أشد. ليس أمام قادة الحرب في أميركا إلا الاستمرار في استراتيجية التدمير وايذاء المدنيين اصراراً على خطة تحطيم معنويات الشعب وكسر إرادة قيادة "طالبان"، الأمر الذي سيزيد من عزلة أميركا عالمياً، ومن غضب الشارع العربي والإسلامي، ومن الاحتجاجات في الغرب نفسه. وإذا ما استمر الصمود ولم تحقق تلك الاستراتيجية النتيجة المتوخاة، فستنقلب إلى نقيضها لتضرب في معنويات الشعب الأميركي، وفي إرادة القيادة الأميركية ذاتها. لكن الخيار الآخر المتاح، والذي كان في أسفل الخيارات الأميركية، هو دعم قوات المعارضة في الشمال للتقدم إلى مزار شريف وكابول. وبهذا ستكون أميركا عززت نفوذ قوى أفغانية ليست موالية لها، مما يتطلب الحاقها بالقوات الأميركية والبريطانية، وربما اشراك قوات أخرى، وهناك لا بد من أن يتدخل الروس بقواتهم أيضاً، أو بقوات موالية طاجيكية وسواها، أو الاعتراض على الوجود العسكري الأميركي فوق الأرض الأفغانية، من حيث أتى. سيكون الموقف الصيني أشد قلقاً عندما تأخذ التطورات هذا الاتجاه. وسيهتز الموقف الباكستاني إذا أصبحت كابول بيد قوات تحالف الشمال. وهنا سيختلف الوضع في حال وجود أميركي على الأرض مع تلك القوات، أو وجودها وحدها في كابول من دون الأميركيين. الأمر الذي سيدخل المنطقة في مرحلة جديدة من الصراعات الاقليمية والدولية، بمجرد بدء العمليات البرية من جهة قوات تحالف الشمال. فبينما يمكن اعتبار الوضع عملياً، وإلى حد ما، ضمن معادلته السابقة للحرب إذا استمرت "طالبان" على وضعها الحالي واستمر القصف من الجو أو من صواريخ بعيدة أو متوسطة المدى، ولم يقع التغير الذي راهنت عليه القيادة الأميركية من خلال "طالبان" نفسها، فأي تغير آخر في استراتيجية الحرب سيقلب المعادلات من حول أفغانستان رأساً على عقب، وسيخرج عن الحسابات الأميركية التي أخذت تقوم على أساس رؤية لا تتعدى ما يظهر في اللحظة الراهنة والتي حكمت الخطوة الأولى، كما ستحكم كل خطوة لاحقة، كأن العالم ازاء ديناصور ضعف بصره حتى لم يعد يرى أكثر من ذراع أمامه، ومع ذلك يصر على التقدم وسط الدمار الذي يحدثه. على أن هذا الوصف للاستراتيجية العسكرية والسياسية الأميركية، وما يعتريها من نقاط ضعف أساسية يُجبه بالسؤال: ولكن من قال إن أميركا حريصة على أن تنتهي حربها في أفغانستان إلى نهاية سعيدة، أو إلى سلام يخيم على أفغانستان وما حولها، أو على من أبعد منها وصولاً إلى دولنا العربية؟ فلماذا لا يكون الهدف الأساسي إحداث اختراق عسكري أميركي من خلال الرد التدميري على أفغانستان التي تؤوي المتهمين بعمليات نيويورك وواشنطن، ولا بأس لو تحقق هذا الهدف الجانبي جزئياً فقط حتى وإن كان الهدف المعلن للحرب، أو على الأصح، الهدف الذريعة للحرب. فزرع نمط جديد من الصراع الدولي والاقليمي في أفغانستان والمنطقة المجاورة ليس بالأمر السيء بالنسبة إلى أميركا ما دامت قد أصبحت طرفاً مباشراً فيها بعدما كانت قواتها العسكرية ونفوذها السياسي خارجها. ومن ثم ما أهمية ألا تصبح، عندئذ، منطقة حرب ممتدة وانقسامات وصراعات دولية واقليمية حتى لو هددت السلم العالمي تهديداً جدياً، لأن من يريد أن يسيطر على العالم، ويفرض نظاماً أحادي القطبية عليه، لا يستطيع أن يتجنب اقتحام الفناء الروسي، والمضي في تطويق الصين، والعودة العسكرية على باكستان ومحاصرة إيران. ومن ثم لماذا يسأل إن كان الطريق إلى ذلك محفوفاً بالحرب والفوضى والاضطراب والمخاطر؟ بل ‘ ينبغي له أن يعبأ بخسائره البشرية عند الاضطرار. وهذا ما ساعدت عليه عمليات نيويورك وواشنطن، وأخذت تصب الحب في طاحونته المبالغة في حالة الرعب من "الجمرة الخبيثة" - الانثراكس. فالمهم ان تكرس أميركا وجوداً عسكرياً وولاء سياسياً في آسيا الوسطى، وليس مهماً ما يحدث من تخبط في الحرب ضد أفغانستان، وكيف سيؤول وضعها مدمرة محترقة مقسمة تتخطفها التدخلات الدولية والاقليمية من كل جانب. فالقانون الحاكم هنا: نفوذ أميركي ووجود عسكري أميركي وسط فوضى ودمار واضطراب وحروب خير من حال سلام وهدوء، بلا ذلك النفوذ والوجود حتى لو بلا أسامة بن لادن والمنظمات المتهمة بالإرهاب. وهذا كله يدخل ضمن البديهي إذ لو لم تفكر القيادة الأميركية وفقاً لهذا القانون، فكيف يمكنها أن تتحول إلى دولة كبرى تضع هدفها الهيمنة على أوسع رقعة ممكنة من الكرة الأرضية وازاحة المنافسين، أو محاصرتهم، او حتواءهم أو وضعهم تحت التهديد والحرب. ولعل تجاهل هذه الحقيقة أو نسيانها دفع الكثيرين ليحملوا أوهاماً في فهم السياسات الأميركية بعد انتهاء الحرب الباردة، في أوائل التسعينات، فحسبوها سياسات اطفاء الحرائق واغلاق الأزمات، وتحقيق التسويات، واحلال السلام، من دون أن يُدخلوا في حسابهم ان تلك السياسات ستنقلب إلى نقيضها، وبأيدي أميركا نفسها، إذا لم تتحقق على أساس فرض "السلام الأميركي"، وفي بلادنا فرض "السلام الإسرائيلي"، وهو ما أكدته التجربة عندنا خلال العشر سنوات الماضية. فإذا لم يتحقق "السلام الأميركي" في أية منطقة من مناطق العالم، وإذا لم يتحقق "السلام الإسرائيلي" بالكامل في منطقتنا، فإن لسان حال البيت الأبيض ينقلب إلى الترحيب بتصعيد الأزمات ونشر الحرائق مروراً بالضغوط والتهديد، وتغطية باراك وموفاز وشارون، وانتهاء بإعلان "حرب عالمية" تُستَهل في أفغانستان، وتنتقل إلى أماكن أخرى، وتتجلى باشكال متعددة في مقدمها المصالح والحقوق الأساسية لدول العالم وشعوبه، لأن الاذعان لا يصنع سلاماً ولا أمناً، ويؤدي بالضرورة إلى هدر الحقوق وإلى تدهور اقتصادي واجتماعي وثقافي وإنساني، وسيكون ذلك حتى لو قبلت به الدول - وهذا ضد السنن وطبيعة الأشياء - سبباً لانفلات فوضى عالمية وداخلية في كل بلد، بما في ذلك التوسع في القمع وانتهاكات حقوق الإنسان والحد من الحريات الأساسية، وانتشار العنف والعنف المضاد، وتغذية اتجاهات الارهاب، ناهيك عن المظالم والفتن. بكلمة، ان أميركا هي مشكلة العالم الأولى، وليس هنالك من أمل في عالم سلامي تعددي يكون أكثر تعاوناً وتوازناً، ويحقق مستوى أكبر من العدالة في حل مشاكله وقضاياه، ما لم تُواجَه الغطرسة والهيمنة الأميركية المتغولة عزلة وفشلاً، وما لم يُفرض عليها أن تأخذ ببعض الرشد في علاقاتها بالدول الأخرى، وفي حل أزمات العالم ومشكلاته من قضايا البيئة إلى العولمة إلى المعضلة الموغلة بافريقيا جنوبي الصحراء في ما يشبه الابادة، إلى إلغاء الديون ومقاومة الفقر والمرض وردم الهوة بين بلدان الشمال والجنوب، إلى مناهضة العنصرية ووقف سباق التسلح ومعالجة الأزمات التي تندلع بسببها الحروب. ولا نذكر فلسطين لأن أميركا هنا تفكر بعقل صهيوني ولا شفاء.