جاء المؤتمر العالمي لهيئة الأممالمتحدة لمناهضة العنصرية في ديربان ليرسم مشهداً كاد يكون شاملاً لتوزع مواقف الدول والمنظمات غير الحكومية في العالم من الصهيونية، وخصوصاً من سياسات الدولة العبرية وممارساتها، أو من التعامل والمطالب الفلسطينية والعربية والاسلامية التي حُملت الى المؤتمر، فضلاً عن توزّع المواقف ازاء قضية "الرق" ومن خلالها، عملياً، ازاء القضايا الدولية الراهنة بالنسبة الى علاقات دول الشمال بدول الجنوب وشعوبه. ومن ثم النظام الاقتصادي والسياسي العالمي نفسه. يفترض بوزراء الخارجية العرب ومعهم وزراء الاعلام العرب، أو في الأدق، بصانعي القرار، ان يضعوا خريطة توزُّع القوى والمواقف في مؤتمر ديربان امامهم ليخرجوا منها بالاستراتيجية المناسبة في ما يتعلق بالعمل الديبلوماسي والسياسي والاعلامي، للخمس سنوات المقبلة، دولياً. بل المباشرة فوراً في سباق جاد مع ما سيخرج به صانعو القرار في اميركا والدولة العبرية من استراتيجية، وهم يقلّبون العبر من تجربة مؤتمر ديربان. ومن ثم يُعدّون خطط الهجوم المضاد. فمؤتمر ديربان شكّل، ويفترض به أن يشكل، بوتقة اختبار للسياسات الدولية التي سبقته ولتلك التي ستأتي بعده. فالدرس القاسي الذي تلقته الادارة الاميركية والصهيونية والدولة العبرية في مؤتمر ديربان سيكون له ما بعده بالنسبة الى ما يجب أن يُعمل حتى لا يتكرر، أو تتفاقم الورطة أكثر. وهذا ما يجب أن تفعله الدول العربية في الاتجاه المعاكس حتى يتكرر، ولكن بطريقة أفضل تنظيماً واعداداً تتلافى ما اعترى الموقف الفلسطيني من ضعف في بعض اللحظات، وتحول دون ما حدث من اختلال في وحدة الموقف العربي والاسلامي في عدد من المواقف والمنعطفات في المؤتمر، وتصحح مدى الاهتمام الذي يوضع للعلاقات بافريقيا وآسيا واميركا اللاتينية وبروسيا والصين، ليس على المستوى الرسمي فحسب، وإنما أيضاً، ببذل جهود مضاعفة في مجال الرأي العام والقوى السياسية والمنظمات الشعبية والأهلية والمدنية في تلك البلدان. عندما اجتمع وزراء الاعلام العرب قبيل مؤتمر ديربان بأسابيع، وضعوا خطة اعلامية، ورصدوا لها الأموال البعض انتقدها باعتبارها "متواضعة". وقد اتجهت في جوهرها الى جعل مخاطبة الرأي العام الغربي، وبالخصوص الأميركي، أولويتها، ونقطة تركيزها، واختيرت لذلك السبب حنان عشراوي، خريجة هارفارد، والتي استقبلت في العقد الماضي، في أثناء عملها الديبلوماسي الفلسطيني، من قبل اجهزة الاعلام الاميركية والأوروبية استقبالاً حسناً. لكن السؤال: أين موقع العالم الاسلامي وافريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، وروسيا والصين في تلك الخطة، أو بعبارة أخرى: أين موقع الذين وقفوا الى جانبنا في المؤتمر العالمي لمناهضة العنصرية في ديربان؟ وأين موقع الذين وقفوا بين بين، أو ترددوا، أو تخاذلوا وكان بالامكان كسبهم لولا الاستراتيجية الفلسطينية والعربية ديبلوماسياً وسياسياً واعلامياً في التعامل واياهم الى حد الاهمال التام أحياناً؟ الجواب يكمن في الفرضية الخاطئة التي عوملت معاملة المسلّمة، والتي تقول ما دامت اميركا والغرب هما المصدر الأساسي لقوة الدولة العبرية، وهما القوتان الوحيدتان القادرتان على الضغط عليها وفرض تسوية "معقولة" وإن جاءت منحازة ثمانين في المائة أو أكثر للموقف الاسرائيلي، فإن كل الجهود الديبلوماسية والسياسية والاعلامية يجب أن تركز على "اقناع" المسؤولين في الولاياتالمتحدة، أولاً، نظرية ال99 في المئة من الأوراق في يد أميركا والدول الأوروبية ثانياً، وليس هنالك من "ثالث". وقد أضاف البعض في حُميّا عملية التسوية الدولة العبرية والرأي العام فيها. ولم يُسأل الى أي حد يمكن تحقيق هذا "الاقناع"، وهل هو ضمن الممكن أم يكاد يكون ضمن المحال في حدود ما هو منظور؟ ولم تراجع هذه الفرضية بعد الفشل تلو الفشل، وعلى رغم ما قدم من تنازلات واغراءات في سبيل ذلك، وعلى مستويات عدة. وكانت المكافأة التراجع الاميركي - الأوروبي حتى عن القرارات الدولية التي روَّجت لمؤتمر مدريد باعتبارها مرجعيته. وكانت نصوصها قد خُطت بأقلام المسؤولين الاميركيين والأوروبيين أنفسهم. ولما تعثرت السياسات النابعة من تلك الفرضية الخاطئة حتى أصبحت سمتها الأساسية التعثر، راحت من قبل البعض تحاول تعويض خسارتها، مثل المقامر، بالمزيد من الخسائر - التنازلات والاغراءات، وبلا جدوى كذلك. وهنا تم اللجوء، بدلاً من اعادة التقويم، الى فرضية أخرى من الجنس نفسه، أو هي الوجه الآخر للعملة نفسها. وهي التوجه الاعلامي لكسب الرأي العام الاميركي والغربي عموماً. واذا ما تحقق هذا، ولأن تلك البلدان ديموقراطية، فسيُضطر الساسة في أميركا وأوروبا الى أخذ ضغوط الرأي العام في الاعتبار، ليكون ذلك الطريق الى تحقيق الفرضية الأولى. فمن هذا المنطلق خرجت قرارات مؤتمر وزراء الاعلام العرب ومنه أُعطيت المسؤولية الأولى في تنفيذها للديبلوماسية الاعلامية الفلسطينية حنان عشراوي. وهكذا بدلاً من اعادة قراءة لأولويات العمل الديبلوماسي والسياسي والاعلامي دولياً تم الايغال في الاتجاه نفسه وتكرار المُجرَّب. ومن دون التساؤل الى أي مدى يمكن التأثير في رأي عام، وفي مراكز التأثير في ذلك الرأي العام، وهو ما ليس في متناول اليد، ويكاد يكون من المحال أن يصبح في متناول اليد في حدود ما هو منظور. ان نظرة مدققة في المشهد الذي عكسه مؤتمر ديربان لمناهضة العنصرية تفترض اعادة النظر بالفرضيتين على مستوى الأولوية في أين يجب أن تكرس الجهود الفلسطينية والعربية ديبلوماسياً وسياسياً واعلامياً. وذلك من خلال وضع سلّم الأولويات، أولاً وقبل كل شيء، حيث الأرض صالحة للفلاحة والزرع، ومستعدة لاستقبال الموقف العربي والفلسطيني ليس في حده الأدنى فحسب وإنما أيضاً في حدود أعلى، وهي المجال الاسلامي والافريقي والآسيوي والاميركي اللاتيني. أي في البلدان التي وقف ممثلوها، وعلى رغم الضغوط والاغراءات التي تعرضوا لها، الى جانب الموقف الفلسطيني العربي الاسلامي في ديربان، كما في البلدان التي ترددت أو تخاذلت وكان من الممكن كسبها لو بُذلت معها جهود دؤوبة من قبل. على أن تجربة مؤتمر مكافحة العنصرية في ديربان لم تكشف عن خلل في تحديد الأولويات من زاوية العمل الديبلوماسي والسياسي والاعلامي فحسب ولم تفترض، بالتالي، اعادة تحديد لتلك الأولويات على مستوى العمل مع دول العالم ومخاطبة الرأي العام العالمي فحسب، وانما أيضاً أكدت على أهمية ايلاء اهتمام متزايد للعلاقات بالقوى السياسية والمنظمات الشعبية والأهلية وبعضها يسمي نفسه المنظمات غير الحكومية حيث خرجت عنها وثيقة وصمت الصهيونية بالعنصرية، والدولة العبرية بنظام الميز العنصري الابارتايد، وممارساتها وسياساتها بالعنصرية كذلك. وهذه يجب أن تكون مسؤولية القوى السياسية والمنظمات الشعبية والأهلية المقابلة فلسطينياً وعربياً واسلامياً. فهذه الأرض أكثر خصوبة بالنسبة الينا، وان احتاجت الى جهود أكبر، وتشجيع غير مباشر، من قبل الجامعة العربية اذا لم تشأ التعبير عن الموقف الشعبي الى حد ما. أما المجال هنا فخصب في أميركا وأوروبا حين يصار الى التوجه للقوى التي تجمعها مناهضة العولمة أو تلك التي تعنيها قضايا البيئة والعنصرية وحقوق الانسان. وهي التي لا مكان لها عند التركيز على مخاطبة الدول والرأي العام "الرسمي" في الغرب. ويمكن في هذا الصدد أن يشار الى ضرورة ايلاء اهتمام خاص بالقوى السياسية والنخب والمنظمات غير الحكومية في روسيا وبلدان أوروبا الشرقية. فلهذه مستقبل في الضغوط علي حكوماتها، بل وبعضها في الوصول الى السلطة، إذ لم تستقر في تلك البلدان اتجاهات الرأي العام ومراكز النفوذ الاعلامي وأحزاب التداول على السلطة بعد. بكلمة، ان دروس المؤتمر العالمي لمناهضة العنصرية في ديربان تؤكد الحاجة الى أن تتجه الاستراتيجية الديبلوماسية والسياسية والاعلامية الى تركيز وحدة الموقف العربي ومنه الى وحدة الموقف الاسلامي فالتضامن مع دول العالم الثالث، خصوصاً، افريقيا. أما على المستوى الشعبي فتحقيق التقاء عالمي واسع مع القوى السياسية والشعبية والفكرية والثقافية والفنية وتلك التي تعمل ضمن منظمات أهلية ومدنية ولا حكومية وصولاً الى هدف وضع الادارة الاميركية والدولة العبرية، بالدرجة الأولى، تحت الحصار، ووضع أوروبا وروسيا والصين واليابان، حينما تتخذ مواقف أقرب للدولة العبرية والادارة الاميركية بالنسبة الى الانتفاضة، تحت الاحراج والارتباك. وهذا هو الطريق الأفعل، والأكثر امكاناً للتحقق، في الرأي العام الرسمي في تلك البلدان، وقبله، ربما، في مواقف الدول نفسها. فالذي حدث في ديربان يوجب ان يكون الدرس لما يجب أن يُعمل وإلا كان حالنا حال الذي جُنّ بليلى، وليلى جُنّت بغيره، وغير ليلى مجنونة به لا يريدها.