في واحدٍ من الملتقيات الفكرية حول مستقبل الاستيطان في الاراضي العربية المحتلة، جادلنا بأن لا أمل في اطمئنان المستوطنين الى حياة آمنة مستقرة، لا سيما في الضفة وغزة والقدس، على أي مدى زمني. وقلنا إن استشعارهم للقلق والتوجس والنوم بنصف عين، سيظل خصيصة ملازمة لهم، حتى في حال التوصل الى تسوية سلمية تضمن عدم اقتلاع المستوطنات. ومضينا على سبيل السخرية الى إنه قد يتعين على الحكومة الاسرائيلية ذات يوم تخصيص دبابة لكل مستوطن، ومع ذلك فلن يهدّئ هذا من روعهم، لأن للإحساس بالأمن شروطاً باطنية لا تتوافر لهذه الشريحة من المستعمرين. كان ذلك قبل عام من اندلاع انتفاضة الأقصى. وما حدث ان تعرُّض المنتفضين بعد ذلك للمستوطنين رداً على وجودهم أولاً ثم اعتداءاتهم ثانياً، أدى بالجيش الاسرائيلي لفرز قوات إضافية محمولة بعربات مجنزرة، لمصاحبتهم في الغدو والرواح وحمايتهم. وفي وقت تال، تقرر تزويد المستوطنين بعدد آخر من الأسلحة الشخصية علاوة على تلك التي تُثقل كواهلهم على مدار الساعة. هذه الاجراءات بدت عاجزة عن وقف مظاهر الخوف. وبدلاً من أن يمارس المستوطنون دور الحصون المتقدمة والريادية في حماية الدولة اليهودية، كما هو الزعم التقليدي، بات هؤلاء عبئاً على الدولة التي بحثت عن خيارات أخرى لتسكين ثائرتهم. واهتدت قيادة الجيش بعد لأي ل"تقديم سيارات مصفحة الى عائلات المستوطنين الذين قُتل بعض أفرادها خلال الانتفاضة". ولأنه ليس ثمة مستوطنون أحسن من مستوطنين، فالجيش الاسرائيلي- طبقاً لإذاعته في 8/7/2001 - يدرس ايضاً نظام تصفيح جديد صممته شركة اميركية لحماية السيارات الأخرى، كلفة واحدة منها 10 آلاف دولار. يتجه المستوطنون اذاً الى الحياة داخل دبابات. ولنا أن نلاحظ ان الدولة اليهودية كلها تمثل بمعنى ما دبابة كبيرة. ولم يكن توقعنا بهذا الشأن، الذي تُعجل التطورات بتصديقه عملياً، بلا أساس. فاسرائيل لن تخرج عن سن الكيانان الاستيطانية، وأهمها أن هاجس الأمن الذاتي هو أبرز محددات تعاملها مع "الآخر" المحيط بها داخلياً وإقليمياً، وبخاصة اذا كان هذا الآخر هم سكان البلاد الأصليين. ولا يصعب تعليل هذا المحدد، الذي يلازم مستوطني هذه الكيانات الى أمن غير معلوم. فهؤلاء يعيشون مطولاً مطاردين بشبح جريمتهم الأولى، وخشيتهم الدفينة من استنفار المجتمعات الأصلية التي ساموها العذاب للانتقام واسترداد الحقوق. والثابت من النماذج التاريخية، أن عقدة الذنب والمخاوف تلاحق المستوطنين جيلاً بعد جيل بالتوارث، وبخاصة إن بقيت المجتمعات الأصل على قيد الحياة واحتفظت بذاكرة قوية، أو كان المحيط الاقليمي للمستوطنين يرتبط بأرومة واضحة مع هذه المجتمعات. وهذا هو الوضع بين المستوطنين الصهاينة مع الفلسطينيين والعرب. في التجارب الأخرى، حل المستوطنون الاشكالية الأمنية المزمنة بطرق ثلاث. فبالنسبة الى أميركا الشمالية واستراليا تم استئصال المجتمعات الأصل بالابادة الكاملة تقريباً. وفي اميركا الجنوبية، كاد السكان الأصليون يختفون عبر عمليات التهجين والتزاوج مع المستوطنين. وتوصل مستوطنو جنوب افريقيا لتقاسم السلطة مع الأصليين ديموقراطياً. الكيان الصهيوني غير مؤهل لأي من هذه الحلول. فحملات الإبادة والتشريد لم تقض على الشعب الفلسطيني الأصل. وهو شعب ينتمي الى قومية أمّ ترفده بعمق حضاري وسكاني، تعز السيطرة عليه من المستوطنين اليهود المضغوطين بسقف عقيدي وسكاني مرن، وذلك يحول دون تكرار نموذج الهنود الحمر وسكان استراليا الأصليين. من جهة ثانية، فإن الانعزالية الصهيونية اليهودية تمنع المستوطنين من الاختلاط، ناهيك عن الإندماج، مع المجتمع الأصل أو الاقليم المحيط، مما يعقّد حل الذوبان والتصاهر على غرار تجربة اميركا الجنوبية. ثم إن الرغبة المشبوبة للاستئثار بفلسطين - معظمها أو كلها إن أمكن - كدولة لليهود فقط، تعطل احتمال التسوية الديموقراطية التي عرفتها التجربة الافريقية. هذه المعضلات تدفع المستوطن الصهيوني الى منطق التفوق العسكري بلا بديل وبهوس لا سابقة له. ويتفاقم الهاجس الأمني على نحو عصابي في اسرائيل، كلما تذكر مستوطنوها قدرة المنطقة العربية على دحر الاستيطان الافرنكي ذات تاريخ، في إطار معطيات سياسية وأمنية عسكرية معينة ربما تكررت ولو بعد حين. على أن الاستقواء بالسلاح لا يوفر الأمن النفسي والسكينة الداخلية بالمطلق. ويقيننا أن سباق التسلح ومراكمة العتاد لا بد لهما من سقف وقاع، وبخاصة مع سياق اقليمي لم يستنفد طاقاته، بل ولم يوظف ما استخدمه منها بشكل مناسب بعد. لهذا ولغيره مما يضيق المقام بالتطرق اليه، كان تصورنا وما زال، أنه حتى لو وفرت اسرائيل دبابة لكل مستوطن، فإنها تأخذ بحل موقت وسطحي ينطلق من عقل مريض. فيما يقوم الحل الأكثر جذرية لأمنها على سلم تعاقدي، ىُعيد الى المجتمع الفلسطيني الأصل ولأمته معه، ومن ورائه حقوقهم، على الأقل في حدود ما يرضي الشرعية الدولية بهذا الخصوص. ولكن أين اسرائيل من حل كهذا وهي التي يبعدها صلف القوة يوماً تلو يوم عن مجرد التفكير فيه؟ * كاتب فلسطيني.