} رواية شريف حتاتة الجديدة تختصر تجارب كثيرة. علاقة الفرد بالجماعة وبحثه الدؤوب عن التوازن الشخصي وسط تعقيدات العلاقات الإنسانية ومعمعة الحرب والسلام،في بلاد تعيش الاضطراب سرا" وعلنا": "نبض الاشياء الضائعة" دار الآداب، بيروت، 2001 وكما جاء في كلمة الغلاف، هي الرواية السابعة للكاتب شريف حتاتة، بعد روايات، "العين ذات الجفن المعدني" و"الهزيمة" و"الشبكة" و"قصة حب عصرية" و"كريمة" و"الرئيسة" يعني هذا اننا أمام كاتب متمرس بكتابة الروايات، له رؤية خاصة في النظر إلى العالم والمتغيرات التي لا تنتهي. يجدر بنا قبل أن نلج عالم هذه الرواية، أن نذكر، أن شريف حتاتة، طبيب وكاتب مصري. انضم الى "الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني" اليسارية سنة 1946، وقضى خمس عشرة سنة في السجون والمنافي ودرس كأستاذ زائر في جامعة ديوك في اميركا منهجاً خاصاً اسمه "التمرد والإبداع". هذا التعريف تناقض واضح، بين الالتزام السياسي والايديولوجي وبين التمرد والإبداع. هل أتعسف لو قلت إن هذا الملمح، أظهر ما يميز هذه الرواية "نبض الاشياء الضائعة"، أي ثنائية الالتزام والتمرد أو الحرية. الراوي ابراهيم مصطفى سالم، طفل عاش في مناخ قروي فقير، محاطاً بعدد من النساء اللائي لعبن دوراً كبيراً في حياته: الأم، الخالة العشيقة، الزوجة، الرئيسة في العمل، الصديقة. معظمها شخصيات نسائية قوية، ساهمت في تطوير شخصية الراوي. الأم ، امرأة صارمة، صامتة، كأنها مغلقة على أسرار حياتها لا تريد أن يصل اليها أحد. مع ذلك كانت من بعض النواحي أماً مثالية تعطي كل ما عندها وإن كان قليلاً وتكاد تحرم نفسها من كل شيء، تشقى طوال النهار في الغيط وعندما تعود لا تكف عن جهودها لتجميل الدار. الخالة فاطمة، والراوي لا يعرف على وجه التحديد، ما اذا كانت خالته أم لا. لكنه أقام معها علاقة عاطفية وجسدية. كان الراوي وفاطمة يحاولان التغلب على الوحدة والصرامة التي تمارسها الأم. فاطمة محفوظ، صحافية، الراوي التقاها بعد أن ترك القاهرة وسافر الى الاسكندرية. تزوجا وأنجبا طفلة "عزة"، تم اعتقالها سياسياً، فترك الراوي المدينة وعاد الى القاهرة تاركاً ابنته الوحيدة. كان هناك ايحاء من الراوي، بأنه التقى هذه الشخصية من قبل "عندما تحتضنه يحس انه عرف جسدها قبل ذلك" ص 119، ربما التشابه في الاسم مع الخالة فاطمة أدى الى ذلك. هناك شخصيات نسائية أخرى مثل: اعتدال عاشور، نهاد الجبري، كل منهما ساعد الراوي في مرحلة من مراحل حياته. الأولى جعلته يعمل في الصحافة حتى فُصل منها بعد تحقيق كتبه بعد هزيمة 1967. والثانية، جعلته رئيساً لدار نشر كبيرة. ثم هناك شخصية "عزة" الفتاة التي التقاها في أيامه الاخيرة. يربط بين هذه الشخصيات النسائية أشياء عدة، فكرة الاختفاء أو الرحيل وترك الراوي وحيداً. الأم ماتت وتركته، الخالة فاطمة هربت بعد أن شكّت في شيء ما داخلها. الزوجة فاطمة محفوظ قُبض عليها واعتقلت. ثم ان هذه الشخصيات، قوية مسيطرة أو كما قال الراوي وهو يتحدث عن شخصية "نهاد الجبري"، "غريبة الأطوار تعشق السيطرة على الرجال، والتلاعب بهم وفق مزاجها" ص 24. يمكن سحب هذا الوصف التحليلي على معظم الشخصيات النسائية. وهذه الشخصيات النسائية، كانت اكبر سناً من الراوي. الخالة فاطمة، كانت تكبره بخمس سنوات. اعتدال عاشور، الاستاذة المساعدة في القسم، كانت هي الاخرى اكبر منه. كأنما الراوي يبحث فيهن عن أم حنون، يحتمي بها من قسوة الأيام والظروف. إذا انتقلت من شخصيات النساء الى الرجال، أجد أن شخصيات الرجل أقل سطوة وسيطرة بل إنها تظهر في الرواية في عدد قليل من الصفحات. الأب مثلاً، لم يعد من حرب فلسطين، فسجل اسمه في كشف المفقودين بعد أن عجز عن الاهتداء الى اسمه بين القتلى أو الاسرى. وحتى قبل رحيله كانت الأم هي المسيطرة. كذلك شخصية الخال عبدالرحيم والذي تقلص دوره تماماً حتى اقتصر على مساعدة اخته في اعمال الغيط. كذلك زوج نهاد الجبري والخواجه "أسادوريان" شخصيات رجالية ظهرت في استحياء واختفت بلا جلبة كبيرة. يجدر بنا الآن التمهل عند تكنيك الرواية، بالطبع لا أحد يمكن أن يفرض على كاتب كيفية كتابة روايته أو أي عمل أدبي، مهما كانت درجة هذا العمل من الجودة أو حتى اذا كان يمتلئ بالأخطاء الفنية والاسلوبية. لكن توجد بعض المآخذ النقدية والتي دخلت في باب التمني. مثلاً، تمنيت أن تنتهي الرواية عند صفحة 99، فهي بذلك تكون أكثر إحكاماً وتماسكاً وأكثر منطقية ايضاً. ولماذا جعلنا الراوي نصطدم بمفاجآت من قبيل ظهور أحداث وشخصيات غير منطقية أو غير مبررة فنياً، مثلاً شخصية الشيخ وحدث الاغتصاب في صفحات 271، 272. ثم الشيء الأهم وهو الحوار، في الحقيقة الحوار في الرواية مضطرب بين العربية الفصحى والعامية. ومن خصائص هذه الرواية تكرار الاسماء، خصوصاً الاسماء الانثوية: فاطمة، عزة، كأن الشخصيات تعود من جديد وتتجسد في شخصيات لها ملامح وتركيبات مختلفة. ونلاحظ بروز الهمّ الانثوي، ففي الرواية صفحات تتحدث عن قهر الانثى ورغبة الانثى في السيطرة على الرجل وأخذ حقها من المجتمع الذي يمتلئ بالقيود التي تحدّ من حرية المرأة، فالراوي يتحدث عن الوحوش الذكرية المستعدة للانقضاض. ص 192، أو نجده يتحدث على لسان "عزة": "عندما ترقص تشعر أن جسمها ينطلق من القيود التي احاطت بها منذ أن ولدت طفلة أنثى" ص 201. والملاحظ ايضاً متابعة التواريخ. توقفت الرواية عند تواريخ مهمة، 1948، 1967، 1973، وأحداث كانون الثاني يناير 1977 وتراوحت وقفات الرواي عند هذه التواريخ بين الوقفات السريعة والطويلة. لكن حدث الهزيمة 1967 أخذ مساحة أكبر، لأن الراوي كلف من الجريدة بالسفر إلى بورسعيد. والموت من الافكار البارزة في الرواية، فقد مات الأب ومن بعده الأم، والخواجه "اسادوريان"، والخال عبدالرحيم، والراوي الذي عثر على جثته بعد أن تعفنت. وكذلك الجنس، أو تجربة الراوي الجنسية، مع الخالة "فاطمة" والتي لم نعرف ولم يعرف الراوي، هل هي خالته بالفعل أم لا؟ والتراوح ما بين رغبة الراوي والشخوص في العيش بهدوء ووفق نظم وقواعد ومؤسسات المجتمع وبين التمرد والخروج على القواعد والقيود وسائر الأشياء التي تعوق الانطلاق، هذا التراوح الصعب يصنع أرق الرواية وأرق القارئ معاً.