} يتابع صاحب "الاوباش" و"وكالة عطية" و"اولنا ولد" الاصغاء الى حكايات الناس في البيئات الشعبية المصرية وتدوينها بنبرته الخاصة المميزة.هذه قصة قصيرة من جديده: منذ أن هداني الله وتبت إليه توبة نصوحاً عن كل فعل أو قول يغضبه سبحانه وتعالى، ووفقني في أمور معاشي حتى راجت تجارتي كثرة فلوسي تبغدد عيالي عن حق ليقينهم بأن كل مليم يدخل دارنا إن هو إلا سبيكة من العرق والشقاء والرزق الحلال، وأكرمني بالحج وزوجتي مرتين وبالعمرة وحدي مرات عدة. منذ أن بدأت بشاير هذا التوفيق الكبير وإلى اليوم وزعلي من نفسي يتعاظم لتقصيري في حفظ المزيد من سور القرآن الكريم، من جهة لكي أصلي بها، ومن جهة أخرى لأفهم وأستعير بحكمة الله في قرآنه العظيم. وصحيح أن الله سيغفر لي ويسامحني طالما أنني أصلي وأصوم وأزكي وأفعل كل واجب فرضه عليّ سبحانه. إلا أنني كلما استمعت إلى القرآن شعرت بخسارة فادحة من عدم حفظ هذه الدرر في ذاكرتي وقلبي ولساني، والحق أنني حاولت بقدر ما أستطيع، جئت بفقيه ضرير لكي يحفّظني سوراً من القرآن يقولها أمامي وأنا أرددها وراءه مرات ومرات حتى تثبت في رأسي. والحق لله لقد تعب الفقيه معي حتى خرج عن طوره أكثر من مرة، ذلك أنني أطلع من داري في الخامسة صباحاً متوكلاً على الله إلى سوق الخضار في غمرة فأتسوق حصتي وأعود بها إلى سوق منشية ناصر لأرزق من بيعها بالقطاعي وسواء نفدت السبوبة أو بقيت منها بقايا فإنني لا بد من أن أغادر السوق إلى الدار عقب أذان العصر لأتوضأ وأصلي وأتغدى وأتكوع في الفراش إلى أن يحين أذان المغرب فأصحو وقد انمحت من ذاكرتي كل الأشياء، فما بالك بالآيات التي كنتُ حفظتها بالأمس بشق النفس، وعقب صلاة المغرب يأتيني الفقيه ليشرب الشاي معي ونراجع الآيات فيجدني قد بدأت سورة ثم خرمت على سورة أخرى، وأخيراً يئس الفقيه من مخي الضِّلم وزهقت أنا من عصبيته المتصاعدة إلى حد اتهامي بأنني سأجلب عليه الكفر والعياذ بالله من تخريمي في السور كحصان يبرطع في حقول مزروعة بالورود والبلاسم. إلا أن زعلي من نفسي كان مثمراً في الواقع، فأنا مغرم بصلاة الجماعة ألتمسها في أي مكان أذهب إليه حيث الإمام يرتل القرآن في الصلاة بصوت مسموع ورخيم فترتسم الكلمات في رأسي بأشكال صوتية من المد والغُن والتنغيم والتوقيع حتى النقطة في نهاية الجملة كنت أسمع لها وقعاً في صدري كصوت آخر نقطة تسقط من القطارة في كوب الدواء فتنقره. استطعت أن أحفظ عدداً من قصار السور يعد على أصابع اليدين، أوزعها على صلواتي، إلا أن سورتي "الفجر" و"الضحى والليل" كانتا دائماً على طرف لساني، الأولى إذا كنت أصلي الفجر والثانية إذا كنت أصلي الظهر أو العصر أو العشاء. على أن الفرصة الكبيرة جاءتني أخيراً فيما أنا اقترب من سن السبعين بصحة لا بأس بها، اذ قل نزولي إلى السوق، وطال مكثي في الدار ساعات طويلة بعد الظهر وفي الليل صرت أقضيها مع محطة القرآن الكريم فحفظتُ من تكرارها عدداً آخر من السور الطويلة إلا أنني لا أغامر بقراءتها عند الصلاة خوفاً مما يمكن أن يحدث لي من تخريم بين السور نتيجة تشابه بعض العبارات هنا أو ها هنا. فإذا ما نصبت العيال سهرتهم حول الفيلم في التلفزيون تركت لهم الطابق الأرضي كله وصعدت إلى غرفتي لأواصل السهر مع محطة القرآن الكريم أسمعه أشكالاً وألواناً من النغم الحبيب المرعش المنعش في آن. ياللحلاوة والطلاوة حينما أفتح عيني في الصبح ذي اللون القمحي على صوت الشيخ الحصري في المصحف المرتل. هو سلوتي طوال بقائي في الدار إن غاب من المحطة شغلته في شريط التسجيل عوداً على بدء. وهي متعة لا يحرمني منها سوى متعة أخرى صغيرة هيأها الله لي في شيخوختي لكي تسليني وتجدد نفسي، تلك هي مشاغبات "مود" - يعني محمود - آخر حفيد لي من ابني الصغير محمد، في الثالثة من عمره لكنه ذكي بصورة تؤكد بالفعل أن مواليد عصر التلفزيون والمسمى بالكونانت والدش والفضائيات لابد من أن يكونوا أشباهاً لمخترعات عصرهم، وطُربة أمي لست أمزح، فكثيراً ما أنظر لحفيدي محمود على أنه اختراع حديث من اختراعات العصر لأنني لم أر طفلاً يولد متواصلاً مع كل شيء حوله سوى حفيدي هذا، الذي يحاورني من دون أي مفردات من الكلام، مجرد أهأهة وفأفأة وصيحات مصحوبة بحركات فيها خبرة ثلاثة آلاف مليون سنة، ما يريد إفهامه لي يقوم بتمثيله بحركات بليغة موهوبة ذكية تزلزل الصدور من الضحك. يناديني دائماً بفرحة "ججُّه"، يعني جدي أرد عليه: نعم، فيشير إلى جهاز التلفزيون برأسه، وأصابعه الدقيقة يضغط على أزرار وهمية في يده الأخرى، فأعرف أنه يطالبني بفتح التلفزيون وأن ما يدهشني هو أنه بهذه الطريقة يحكي لي كل ما يكون قد رآه من أبيه وأمه وقد اعتاد أن يدلدل رأسه من سور السلم في الطابق الثاني ليناديني بأعلى صوت: "ججُّه" فأشعر من نبرة صوته أن في الأمر فجيعة، فما أن أصعد إليه حتى أعرف منه أن أبويه تناقشا بصوت عالٍ فظن أنها المعركة فاستنجد بي لإيقافها. الجميل فيه أنه حين يراني أصلي يقف ورائي ويفعل كل ما أفعل من ركوع وسجود، وكثيراً ما يرغمني بقوة الصياح والصراخ على أن أعيد الصلاة ثانية ظناً منه أنها لعبة نشترك فيها معاً. الأجمل أنه إذا سمع صوت الأذان في أي لحظة يندفع نحوي صائحاً: ججُّه... إه... ويرفع يديه بجوار أذنيه كأنه ينوي الصلاة مردداً: أبَّرْ أبَّرْ... يقصد الله أكبر. قبل بضعة أسابيع سمعته يناديني وهو على بسطة السلم بصوت بهيج ملهوف: "ججه".. خفت عليه أن يتدحرج على الدرج الحجر فاندفعت نحوه صائحاً: "إنزل بالراحة واحدة واحدة"، ثم تلقفته من منتصف السلم: "عايز إيه؟" فلفص حتى نزل واقفاً على الأرض وسحبني من جلبابي إلى باب الخروج. - "عايز تروح فين؟" صنع من إبهامه مبسم شيشة وصار يشفط وينفخ فيه فعرفت أنه يريد أن نذهب إلى المقهى لنشرب الشيشة والشاي لكنني بيني وبين نفسي أيقنت أنه يستدرجني لمهمة غامضة يتعين عليّ أن أكون طرفاً فيها في شكل ما، ومن ثم فيجب أن أمضي معه لملاقاة هذه المهمة خارج الدار عملاً بالقول المأثور: "خدوا فالكم من عيالكم". وقد صح ما توقعت، ما أن خرجنا من الحارة إلى الشارع حتى جذبني من الجلباب إلى اتجاه سوق منشية ناصر بعيداً من اتجاه المقهى، فرجف قلبي في الحال واضطربت خطواتي: لقد تركت أباه في السوق عند أذان العصر ليبيع بقايا السبوبة فماذا يمكن أن يكون قد حدث له يا ترى حتى يلهم الله طفله هذا ليستدرجني إلى السوق كي ألحق به، ودبّت في أوصالي حماسة وجدية، حملت الطفل على صدري، صرت على طريق الاوتوستراد، أشار لي على كوبري المشاة: - "ججه... ده. ججه... ده". صعدت إلى الكوبري، وأنا في قمة التوجس والترقب. لحظة انطلق صوت أذان المغرب محلقاً في الفضاء آتياً من كل اتجاه، قلت الله أعظم والعزة لله، ولكزت الطفل، في كثير من الحب وقليل من الغيظ: - "فوّت عليّ صلاة المغرب جماعة... ربنا يستر". عند هبوطنا الدرج أمام سوق منشية ناصر ناداني ابن أختي الذي يعمل معنا في التجارة نفسها مستقلاً بدكان منفرد: - "فين محمد يا ناجح؟". - "قاعد هناك أهه جنب نصبة الشاي". عرجت عليه مدفوعاً فرحتين: فرحة لأنني وجدت ولدي طيباً من دون مكروه حدث له، وفرحة لاكتشافي أن مسجد العشيرة المحمدية لا يفصلني عنه إلا خطوات معدودة وفي استطاعتي اللحاق بصلاة المغرب جماعة سيما وأنني متوضئ جاهز دائماًَ للصلاة. كان صحن المسجد يشفي بالمصلين، حوالى أربعمئة رجل انتهى معظمهم من تأدية ركعتي السنة وتقرفصوا متذمرين يتساءلون عن الشيخ الذي سيؤمهم للصلاة. من تعليقاتهم عرفت وأنا أعبر العتبة متأبطاً حذائي أن الشيخ الإمام لم يحضر. ما كدت أخطو بينهم بعمامتي الصعيدية وجلبابي الكشمير المعتبر والشال الكشمير أيضاً ومن فوقه العباءة مطوية، حتى صاح الكثيرون: - "أهو وصل.. الشيخ وصل.. خلاص يا جماعة"! ونهضوا جميعاً واقفين يستحثونني على الإسراع. تسمرت أنا في وقفتي محاولاً إيقاف الرعشة العنيفة في ساقي، أخيراً تمكنتُ من العثور على صوتي: - "يا جماعة! أنا لست الشيخ! فيكم ناس متعلمين! أنا راجل على باب الله و... و...". توالت التعليقات الرافضة لكلامي: - "اتكل على الله يا مولانا ماتضيعش وقت". - "إحنا عارفين إنك متواضع وطيب القلب". - "هذه طبيعة الشيوخ العلماء". - "اللهم قربنا منهم". بقوة الدفع الذاتي وجدتني في محاذاة المنبر أمامي الإيوان حيث يقف الإمام. رفعت ذراعي وطلبت إقامة الصلاة فانبرى واحد ذو صوت رخيم فأقام الصلاة. نويت، فرددوا خلفي في زئير زلزل الأرض من تحتي، قرأت الفاتحة ثم سورة "والضحى والليل" بصوت عالٍ محاكياً قراءة الشيخ الحصري بدقة وحميمية، ثم ركعت. وفي الثانية قرأت سورة "الفجر". وفي الثالثة قرأت في الخفاء سورة "قل هو الله أحد". قرأت التحيات في تأن وخشوع، ما أن سلمت ذات اليمين وذات الشمال حتى انهالت عليّ السلامات من أيدي القوم وفي نظراتهم إعجابٌ وامتنان غامضان. وأثناء عودتي للدار كنت أمشي منتشياً أحتضن محمود كأنه شهادة نجاحي في أكبر كلية في الوجود.