اكتشاف المسلمين أميركا، حسبما يروي بول فندلي في هذه الحلقة سبق اكتشاف كولومبوس لها بثلاثة قرون، كما أنهم شاركوه في رحلته مشاركة فعالة، لكن وجودهم الفعلي بدأ في عهد العبودية إذ أنهم كانوا في معظمهم من السود الذين استرقوا وبلغ مجموعهم السود عشرة ملايين نسمة. وعلى رغم هذا القدم للوجود الاسلامي في القارة الأميركية إلا أن المسلمين ما زالوا، حتى اليوم، يعيشون غرباء بالنسبة الى جيرانهم المسيحيين الذين عملت المدارس الدينية والآلة الاعلامية الضخمة لترسيخ صورة المسلم الهمجي المتخلف في أذهانهم. لما أبلغت جاري أن أحدث مشاريعي تأليف كتاب عن المسلمين الأميركيين، قال مذهولاً: "ماذا تفعل؟". وصدرت ردود فعل مشابهة عن أصدقاء آخرين في جاكسونفيل في ولاية إيلينوي وهي مدينة جامعية يبلغ تعداد سكانها 25 ألف نسمة ونقطن فيها منذ 1984. لقد أصيبوا بالحيرة. إلا أنّ أحداً منهم لم يتابع الموضوع، ربما لأنهم لا يعرفون أحداً من المسلمين، وكانوا يفضلون الحديث عن موضوعات يعتبرونها مناسبة وأكثر صلة بحياتهم اليومية. ربما لم يدركوا حقّاً مدى قرب المسلمين الأميركيين منهم. وإذا كان هناك مسلمون كثيرون يعيشون في مدينة سانت لويس القريبة في ولاية شيكاغو وفي مدينة سبرنغفيلد، إلا أن عدد المسلمين الذين يقطنون في مقاطعتنا لا يزيد على 12 مسلماً. إنهم المحامي ألن ياو وزوجته رشا المتخصّصة في الاقتصاد وابنهما الصغير، وسليم محمود، وهو طبيب، مع زوجته وولديهما، وشاهناز راو وهي طبيبة وزوجها عليم وابنهما الصغير، وجيل فوربك، وهي زوجة فلاح وبستاني، ودان كلارك، وهو يملك شركة خدمات لأجهزة الترشيح. وثلاثة منهم، ألين ياو وفوربك وكلارك، اعتنقوا الإسلام، في حين أن السيد ياو تولى هو وزوجته إدارة مناقشات عن الإسلام في كنائس محلية. منذ أجيال وأميركا موطن مئات الآلاف من المسلمين. وفي حين أن العدد الدقيق غير معروف، إلاَّ أن التقديرات في الدراسات الإحصائية الحديثة تقول إن المجموع يزيد عن ستة ملايين عام 1999، وتكهنت بأن يبلغ سبعة ملايين عام 2000. وحدّدت منشورات المجلس الإسلامي الأميركي العدد بخمسة ملايين عام 1992، وسبعة ملايين عام 1996، وثمانية ملايين عام 19991، في حين أن تقريراً لوكالة "أسوشيتد برس" نُشر في صحيفة "شيكاغو تربيون" في 17 آذار مارس 2000 قدّر عددهم بعشرة ملايين نسمة. إن الرقم الإجمالي الدقيق لا يمكن ضبطه لثلاثة أسباب رئيسة: لا يُحتفظ بسجلات في مصدر واحد2، ولا يُسمح لمكتب إحصاء السكان الأميركي أن يَطْلب من المواطنين تحديد انتمائهم الديني، ولا يحتفظ المسؤولون في المساجد عادة بسجلات عن المؤمنين. قَدِمَ معظم المسلمين الأوائل إلى أميركا مكبَّلين بالسلاسل. كانوا سوداً بيعوا أرقاء ابتداءً من عام 1530 في غرب إفريقيا إلى تجَّار بيض، وشُحِنُوا عبر المحيط إلى البرازيل ثم إلى منطقة الكاريبي، وبعدئذٍ إلى المستعمرات البريطانية التي أصبحت في ما بعد الولاياتالمتحدة. ويُقدَّر أنه، عبر السنين وفي أحد أسوأ الفصول المخزية في تاريخنا، استُرِقَّ في الولاياتالمتحدة حوالى عشرة ملايين إنسان، كان زهاء 25 في المئة منهم من المسلمين، أرغموا على التخلِّي عن دينهم. لقد اشترطت إحدى مواد الدستور الأميركي إنهاء استيراد الرقيق عام 1808، إلا أنَّ الرقَّ نفسه لم ينته إلا في أواخر عام 1865، أي بعد 26 عاماً من تحريم البريطانيين ممارسة الرق12. وقَدِم المسلمون الآخرون إلى شواطئنا طواعية، وكان بعضهم بين أوائل النازلين في أميركا الشمالية. وتشير وثيقة قديمة إلى أن البحّارة المسلمين قَدِموا إلى أميركا الشمالية عام 1178، أي قبل ثلاثة قرون من رحلة كولمبوس الأولى. وكان بعضهم من الصين وآخرون من غرب أفريقيا13. وفي 1312 كان مسلمون من منطقة مالي في افريقيا، أوّل من استكشف المناطق الداخلية التي أصبحت، في ما بعد، الولاياتالمتحدة، مستخدمين نهر المسيسبي طريقاً لهم. وفي 1492 كان بحارة مسلمون بين بحارة كريستوفر كولمبوس خلال رحلته الناجحة إلى العالم الجديد. وحمل معه أيضاً وثيقة يشير فيها العالِمُ العربي الإدريسي إلى أن ثمانية مستكشفين مسلمين اكتشفوا قارة جديدة قبل ذلك بسنوات14. كان بين المهاجرين المتأخرين مسلمون من إسبانيا وشمال أفريقيا هربوا من محاكم التفتيش الكاثوليكية بالانضمام إلى المستكشفين الإسبان. استقر بعضهم في فلوريداوجنوب غربي الولاياتالمتحدة. وكان ثمة مسلمون بين الصينيين الذين ساعدوا في بناء شبكة السكك الحديد عبر القارة. وبدأت أضخم هجرة للمسلمين في أواخر ستينات القرن العشرين معظمهم من جنوب آسيا والدول العربية. وكانت هجرات المسلمين الرئيسية بدأت عقب الحرب الأهلية الأميركية، وتزامنت الزيادات الأخرى مع الحروب وفترات الركود الاقتصادي15. وبحلول 1995 أصبح بالإمكان تقسيم المسلمين الأميركيين بالتساوي بين مهاجرين ومولودين، ممثلين في خمسين مجموعة إثنية مختلفة. وعلى رغم أن الأميركيين الأفارقة يمثلون حالياً 25 في المئة فقط من مجموع السكان المسلمين في الولاياتالمتحدة، إلا أنهم يبقون جزءاً مهمّاً من هذه الجماعة الدينية. وبين المسلمين الأميركيين الأفارقة الذين يبرزون من طريق الإنجازات الرياضية، عزَّز اثنان مكانتهما بالتحدث صراحة عن مسائل غير رياضية. يعد محمد علي أشهر المسلمين الأميركيين الأحياء في العالم وأكثرهم حظوة بالإعجاب. فقد احتل بطل الملاكمة الأسبق الذي منحته مجلة "يو إس أي توداي" لقب "رياضي القرن"، مرتبة متقدمة في قائمة اختيارات القرن للإنجاز الرياضي. غير أنه يشتهر أكثر من ذلك بشجاعته الهادئة في ظل الضغط السياسي. يلقى محمد علي تقديراً كبيراً لصراحته المتَّسمة بالشجاعة، عندما يتحدث في المسائل العامة، ولتمسكه بقناعاته، وكلفه ذلك غالياً في مهنته كرياضي. اعتنق محمد علي الإسلام في البداية من طريق منظمة أمة الإسلام، غير أنه أصبح مسلماً معتدلاً، يرفض العقائد الانفصالية العنصرية التي كانت تدعو إليها حينذاك منظمة أمة الإسلام. واعتزل حلبة الملاكمة منذ زمن بعيد. وهو يقضي معظم وقته وينفق معظم دخله في دعم قضايا تعزز حقوق الإنسان والسلام العالمي. ويُعتبر أنه يمتلك أفضل اسم ووجه يميِّزانه بين الأميركيين كافة في أنحاء العالم، سواء في الماضي أو في الحاضر، وله مكانة فريدة كبطل ثقافي للناس في أرجاء العالم الثالث، خصوصاً بين الأميركيين الأفارقة. أعلن كاتب السِّيَر ماكس والاس في صحيفة "نيويورك تايمز" أن محمد علي "غيّر فعليّاً عالم الرياضة إلى الأبد" عندما وضع حدّاً ل"التسامح المتّسم بحسّ التفوّق نحو السود" في عالم الرياضة، وهو ممارسة عنصرية شاعت في أيام بطل الملاكمة الأميركي الأفريقي الأسبق جو لويس. فقد كان لويس يحظى بإطراء الكتّاب الرياضيين بوصفه "مفخرة لبني جنسه"، لأنه حافظ، في العلن، على مسلك يتّسم بالطواعية والاستكانة والتواضع. يقول والاس: "كان محمد علي، أيضاً، مصمِّماً على أن يكون مفخرة بني جنسه. إلاَّ أن لتلك الكلمات مغزًى مختلفاً جدّاً عمَّا كانت تعنيه لجو لويس". ويقول عالم الاجتماع الرياضي هاري إدواردز: "قبْل محمد علي كان الرياضيون السود مجرد مقاتلين في القرن العشرين سخَّروا أنفسهم لخدمة المجتمع الأبيض". في شباط فبراير 1964، وفي اليوم الذي أعقب فوزه الأول ببطولة الوزن الثقيل، أذهل محمد علي عالم الرياضة بإعلان اعتناقه الإسلام. وردَّ في مؤتمر صحافي على أسئلة عدائية بتصريح غالباً ما يُستشهد به: "لا يتوجب عليّ أن أكون ما تريدني أن أكون". وغيَّر، بعدها بفترة قصيرة، اسمه من كاسيوس كلاي، الذي وصفه بأنّه "اسم عبد"، إلى محمد علي. إلاَّ أنّ كتَّاباً رياضيين كثيرين، أزعجهم أن يجرؤ ملاكم على الإدلاء بتصريحات سياسية، ورفضوا الاعتراف بتغيير اسمه عدة أشهر. وفي 1967، كان محمد علي معارضاً بقوة لحرب فييتنام. رفض الالتحاق بالجيش، على رغم أن وزارة الدفاع أكَّدت له أنه، مثل جو لويس في الحرب العالمية الثانية، لن يقترب من ميدان معركة، ويستطيع مثل جو لويس في الحرب السابقة، الاحتفاظ بلقب بطل الوزن الثقيل، وتقديم عروض في الملاكمة للترفيه عن الجنود. رفض كلاي مفسِّراً: "سأكون مذنباً مثل الذين يقترفون أعمال القتل". ويشير والاس الى أن لجنة الملاكمة في نيويورك جرَّدت محمد علي من لقبه، على رغم أنها منحت الرخص لأكثر من مئتي مجرم محكوم على مر السنين، "في حين أن أخطر إثم ارتكبه محمد علي كان مخالفة مرور قبل عامين". ودين بتهمة التهرّب من الخدمة العسكرية، غير أنه لم يَشْكُ يوماً أثناء المعركة القضائية التي كلَّفته مبالغ طائلة، واستمرت أربع سنوات، وانتهت عندما نقضت الحكمَ المحكمةُ العليا في الولاياتالمتحدة. وقال: "مبادئي أهم من المال أو من لقبي... كنت أعرف أنني على صواب. كان لا بد أن أتخذ موقفاً". وها هو يعلن عقيدته الدينية، إذ قال ل"مجلة بلاي بوي" عام 1975: "لو لم أعتنق الإسلام لما أصبحت ما أنا عليه اليوم". وأضاف انه يود أن يتذكَّره الناس بوصفه "رجلاً حاول أن يوحِّد شعبه من طريق عقيدة الإسلام". أما رامزي كلارك، الذي كان يشغل منصب وزير العدل عندما قاضى موظفوه محمد علي بتهمة التهرّب من الخدمة العسكرية، فإنه يعتبره الآن منار أمل على نطاق عالمي. "انه يعني للجميع أنك تستطيع أن تكون وديعاً وقويّاً في آن... فعلى رغم قوّته البدنية، فإنه يثير الرقّة والحبّ دائماً. وأهم شيء ينقله إلى الآخرين هو حبّه ورغبته في عمل الخير". باستثناء الملاحظات المهينة، التي كان يوجّهها عادة إلى خصومه في الملاكمة، وهي تعليقات لا يعتبرها سوى "مبالغة دعائية" لبيع تذاكر المباريات، فإن محمد علي يتجنَّب انتقاد الآخرين استجابةً للمعايير الإسلامية. ويقول الصحافي الرياضي جون ساراسينو: "بمرور الزمن استغل كثيرون طبيعة محمد علي المتّسمة بالمحبة. لقد خدعوه وسرقوه وأساؤوا إليه ولا يزالون كذلك حتى يومنا هذا. إن محمد علي يعرف من هم، إلاَّ أنه لن يتفوّه أبداً بكلمة بذيئة بحقهم"20. واختير أسطورة كرة السلة كريم عبدالجبار، وهو مسلم أميركي أفريقي آخر غيرُ نجم كرة القدم الذي يحمل الاسم نفسه، ليحتلّ مكاناً في عالم الشهرة عام 1995، باعتباره أحد أعظم لاعبي كرة السلة في التاريخ. عندما كان عبدالجبار طالباً في المدرسة الثانوية، وطوله سبعة أقدام وبوصتان، قاد فريقه إلى الفوز ب95 مباراة مقابل 6 هزائم فقط. وفي جامعة كاليفورنيا في لوس انجليس، قاد فريقها إلى 88 انتصاراً مقابل خسارتين في ثلاث سنوات. وخلال احتراف كريم عبدالجبار لعبة كرة السلة طوال عشرين عاماً، اختير كأثمن لاعب في كل من المرّات الست التي حقَّق فيها فريقه البطولة الوطنية. وعندما اعتزل اللعبة عام 1989 كان سجّل أرقاماً قياسية جديدة في 9 فئات إحصائية في "اتحاد كرة السلة الوطني". وأضاف عبدالجبار عام 1996 شهرة جديدة إلى اسمه، عندما ألّف كتاباً بعنوان "صور جانبية سوداء في الشجاعة" كان من الكتب الرائجة، وعزَّز احترام الأميركيين الأفارقة الذاتي لأنه تناول، أيضاً، منجزات بطولية حققها السود في مجالات تتجاوز عالم الرياضة. وفي أيلول سبتمبر 2000، أصبح شريف عبدالرحيم، وهو مسلم أميركي أفريقي آخر وأحد ألمع نجوم اتحاد كرة السلة الوطني NBA، محسناً، عندما تبرّع بمئة ألف دولار لمدارس المسلمين في أتلانتا21. يقود لويس فرخان أمّة الإسلام، وهي منظمة للأميركيين الأفارقة تبنَّت سابقاً النزعة الانفصالية، وكانت لها، حتى وقت قريب، اختلافات عقائدية مع الإسلام المعتدل. ويزيد عدد أتباع المنظمة على خمسين ألفاً. وهي تدير أكثر من مئة وخمسين مسجداً وخمسين مؤسسة، باسم مدارس الأخت كلارا محمد22. وعلى رغم أنّ أتباع فرخان يمثلون مجموعة صغيرة نسبيّاً من الأميركيين الأفارقة الذين يعتنقون الإسلام، إلا أن شهرته على المستوى القومي واسعة، وكذلك نفوذه. فهو شخصية تلفزيونية تتميّز بالبلاغة. ويعزى إليه الفضل في منح الشباب الأميركي الأفريقي ثقتهم بأنفسهم. وكسب الإطراء عام 1995، بتنظيمه مسيرة المليون شخص إلى واشنطن، التي اجتذبت أكثر من مليون مواطن أميركي أفريقي. وفي عام 2000، رعى مسيرة العائلة التي اجتذبت زهاء نصف مليون شخص، بمن فيهم كثيرون من غير السود، إلى عاصمة البلاد. وحتى وقت قريب، عارض فرخان الدمج العنصري. وناضل من أجل أهداف كانت، على وجه الحصر، تخصّ الأميركيين الأفارقة. وعبَّر أحياناً عن نقد شديد لليهود والمسيحيين، وعن أفكار يعتبرها المسلمون المعتدلون انتهاكات لعالمية المعتقدات الإسلامية ولتسامح الإسلام الذي لا يعترف بالفروق العرقية. وفي شباط فبراير 2000، وخلال الصلاة العامة السنوية لأمة الإسلام في شيكاغو، وحَّد فرخان موقفه مع الإمام دين محمد، وهو زعيم الجمعية الأميركية الإسلامية المعتدلة الذي يلقى احتراماً واسعاً. وأعلن ليونارد محمد، رئيس أركان فرخان، أمام المصلّين، أن أتباع منظمة أمة الإسلام كافة متمسكون بالعقيدة الإسلامية: "لا إله إلا الله محمد رسول الله". أقيمت الصلاة في الذكرى الخامسة والعشرين لموت إلايجا محمد، الذي قاد أمة الإسلام سنوات كثيرة. وبعد وفاته، قاد ابنه دين محمد عملية انسحاب واسعة من المنظمة، وأصبح زعيماً من زعماء التيار الإسلامي المعتدل. تضمّ منظمته زهاء سبعين ألف عضو، لهم مساجد في مراكز المدن المهمَّة. وله أتباع خارج نطاق العضوية الرسمية في المنظمة. ويشير أحد التقديرات إلى أن عددهم يتجاوز المئتي ألف23. ومن منجزاته أنه أول مسلم يؤدي الصلاة خلال انعقاد دورة مجلس الشيوخ الأميركي. ووجّه المسلم المعتدل البارز سيّد م. سعيد، الأمين العام للجمعية الإسلامية لأميركا الشمالية، تحية إلى فرخان على التصريح الذي أدلى به في اجتماع شيكاغو، وقال: "كانت تلك مناسبة تاريخية. لقد انتظرنا حلول هذه اللحظة أكثر من سبعين عاماً. إنها خطوة كبيرة نحو الوحدة الإسلامية...". إنه يعتقد أن قرار فرخان سيضع حدّاً لنقطة خلاف طويل ومربك بين المسلمين، ويوسّع في الوقت نفسه جماعة المسلمين المعتدلين، التي يمثل الأميركيون الأفارقة ربع مجموع أعضائها24. تدلّ دراسات جمعها بايونس وصدّيقي أنه، خلافاً للأفكار النمطية الشائعة، تتكوّن الجماعة الإسلامية في الولاياتالمتحدة من منتمين إلى أعراق وقوميات مختلفة، على مستوى ثقافي جيّد، وهم مجتهدون في عملهم وناجحون ومطيعون للقانون. وحقَّق المسلمون منجزات بارزة في التعليم العالي. ويلخّص بايونس دراسة غير منشورة، تظهر أنَّ معدّل سنوات الدراسة الجامعية يبلغ ثلاث سنوات، أي أكثر بسنتين من المعدل على الصعيد القطري، بين المسلمين العاملين في الفئة العمرية بين عشرين وأربعين عاماً" وأنّ معدل الدخل الشخصي السنوي لهذه المجموعة يراوح بين الفئة المتوسطة والفئة العليا، وأن المتوسط يبلغ 39700 دولار، وهو معدل وسطي مرتفع بالنسبة إلى مجموعة تضم مهاجرين، وصلوا حديثاً. وتعكس هذه التقديرات جزئيّاً آثار السياسات الأميركية التي تفضّل المهاجرين حاملي الشهادات الجامعية. في المقابل، يعيش غالبية المسلمين خارج الولاياتالمتحدة في فقر. وأظهرت دراسات عينيّة عام 1994 أن معدل البطالة بين المسلمين لا يزيد على 2 في المئة، أي نصف المعدل القومي25. وأما نسبة الجرائم فهي متدنِّية أيضاً. وتدلّ دراسة غير منشورة، أجراها بايونس في مدينة نيويورك عام 1995، أن نسبة المراهقين من المسلمين المحليين الذين اعتقلوا ضئيلة، فقد بلَغت 0,001 في المئة من مجموع الأحداث، أي أقل كثيراً من المعدل القومي البالغ 15 في المئة. ويتوصل بايونس وصدِّيقي إلى الاستنتاج التالي: "لا شك في أن المسلمين في أميركا الشمالية لا يشبهون، في أي حال، الصورة التقليدية لأقلية فقيرة، مدقعة، غير متعلمة وغير مستقرة، يعاني الأميركيون الكوابيس بسببها"26. ويبرز المسلمون الأميركيون، أيضاً، في الهندسة وإدارة الأعمال والطب والتمويل والشؤون المالية، والمحاسبة والهندسة الإلكترونية والعلوم والتعليم، فضلاً عن مؤسسات البيع بالمفرَّق. وأذكر من هؤلاء الأستاذ في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا في لوس أنجليس، أحمد زويل المصري المولد، 53 عاماً، الذي نال جائزة نوبل في الكيمياء عام 1999 لتطويره آلة تصوير فائقة السرعة، تستطيع رصد التفاعلات الكيمياوية في كسر واحد من كوادرليون من الثانية وتسجّل حركة الذرات، وفتح إنجازه آفاقاً تكنولوجية جديدة. وزويل أستاذ في معهد كاليفورنيا للثقافة في لوس أنجليس. وأذكر أيضاً، من المسؤولين التنفيذيين المسلمين في الصناعات الرئيسية، صافي قرشي من شركة "آ.س. ت. كمبيوترز"، وراي إيراني من شركة "أوكسدنتال" النفطية، وفاروق كاثواري من شركة "إيثان ألِن" للأثاث. وبين مشاهير الأميركيين المسلمين ستة أساتذة هم: علي أ. مازروي المولود في كينيا، والمتخصص في العلوم السياسية وذو الشهرة الدولية، وآلبرت شفايتزر، الأستاذ في العلوم الإنسانية ومدير معهد الدراسات الثقافية العالمية في جامعة بنغهامبتون في نيويورك، وإبراهيم أبو لُغُدْ، رئيس دائرة العلوم السياسية في جامعة "نورث ويسترن" في إيفانستون في ولاية إيلينوي" وشريف بسيوني من جامعة دي بول في شيكاغو" ورشيد الخالدي الأستاذ في جامعة شيكاغو، وهشام شرابي من جامعة جورجتاون ومدير مركز تحليل السياسات في واشنطن العاصمة" وم.ق صدّيقّي من كلية الطب في جامعة ولاية نيويورك. ومن المسلمين الآخرين الذين حقَّقوا مكانة بارزة على الصعيد القومي، مصطفى العقّاد وأسعد قلادة، مخرجا الأفلام السينمائية والتلفزيونية، وإمام و. دين محمد، والشاعر أمير بركة أو ليروي جونز سابقاً، والموسيقيان أحمد جمال ويوسف لطيف" فضلاً عن الراحل آرت بليكي وآخرين كثيرين. وبرز المسلمون في القوات المسلحة بعد فترة قصيرة من حرب الخليج عام 1991. وتشير الإعلانات الشخصية عن الانتماء الديني إلى أن زهاء ألفي مسلم كانوا يخدمون في القوات المسلحة عام 199227. وقدَّر الإمام يحيى الهندي أن المجموع بلغ، عام 1999، سبعة آلاف28. وفُتح أول مسجد في قاعدة بحرية في نورفولك في ولاية فيرجينيا عام 2000. وبسبب الهجرة المتواصلة ومعدّل الولادة الذي يبلغ 3,5 في المئة، وهو أكثر من ضعف المعدل القومي، يُعتبر المسلمون الجماعة الدينية الأسرع نموّاً في أميركا. وإذا استمرت معدلات الهجرة والولادة الحالية، فإن مجموع السكان المسلمين في الولاياتالمتحدة سيتضاعف بحلول عام 202729. إنَّ معدل الولادة، الذي يفوق المعدَّل الوسطي، عامل مهم في هذا الاتجاه، لأنَّ الانتماء الديني لدى معظم الناس تحدده مصادفة الولادة، وليس نتيجة الدراسة المقارنة للأديان. ومثل المسيحيين واليهود والهندوس والبوذيين وأتباع الديانات الأخرى، يرث معظم المسلمين هويّتهم الدينية. لقد أصبحتُ مسيحياً مشيخيَّاً، وأصبحت زوجتي لوسيل كاثوليكية في الطفولة، بسبب انتماء الأبوين إلى هاتين العقيدتين. ولا يتعمد سوى قلّة من الأميركيين اختيار دينهم، حيث يفضّلون ديناً على الأديان الأخرى، بعد تمحيص دقيق. والدراسة المقارنة تحصل عادةً في الأعوام التي تلي مرحلة الدراسة الثانوية، وبعد مرور وقت طويل على انتماء الشخص إلى ديانة معينة. ونادراً ما تؤدي مثل هذه الدراسة إلى تغيير الانتماء الديني، لكن توجد استثناءات. كما أن حالات التحوُّل إلى الإسلام، الذي يدعوه المسلمون في معظم الأحيان، "اهتداءً"، كثيرة ومتزايدة، ولكن لا تتوافر لديّ إحصائيات. غير أن خبرتي مع المسلمين، في السنوات الخمس والعشرين الماضية، تدعوني إلى الاعتقاد أن العدد كبير. وتخلَّى بعض الأميركيين الأفارقة عن انتمائهم المسيحي، واختاروا اعتناق الإسلام الواسع الانتشار بين أجدادهم المجلوبين من غرب إفريقيا الذين أرغموا على حياة العبودية. وفي هذه العملية، اختار بعضهم، مثل محمد علي، أسماء عربية، وتخلَّوا عن أسماء الرقيق التي أطلقها السادة البيض على أجدادهم. إلا أنَّ عمليات اعتناق الدين الإسلامي هذه في رأيي لا تمثّل سوى جزء صغير من المجموع. وفّرت لي مناسبات إلقاء المحاضرات في متشيغان والعراق الفرص لفهم قيم المجتمع والعائلة التي يؤمن بها المسلمون. وكانت زيارتي دير بورن في ولاية متشيغان، في نيسان ابريل 1998، مناسبة اكتسبت خلالها الكثير من المعلومات المفيدة. وقبل أن أتحدث في مسجد محليّ، زرت منزل رمزي البزِّي، مستورد البضائع من الشرق الأوسط. وتسنّى لي أن القي نظرة على أسلوب عيش عائلته الكبيرة المؤلَّفة من زوجته وردة وأبناء أربعة وثلاث بنات، وصهر واحد، بالإضافة إلى أخت زوجته، التي يعيش أفرادها جميعاً سعداء في بيت واحد. وتضم عائلة البزِّي عمليّاً أشخاصاً آخرين لا تربطهم بها صلة نسب. وبإجماع ضمني، أصبح رمزي البزِّي مستشاراً شخصيّاً يُرشد العشرات من الجيران، وبات مسكنه مكان التقائهم المعتاد. فقد يتجاوز عدد الحاضرين أحياناً الخمسين في آن، كما كان عصرَ يوم زيارتي. ويلقى الضيوف الترحيب في أيِّ وقت تقريباً من ساعات النهار أو الليل، للحديث ولتناول الشاي والقهوة. وتستعمل العربية، كلغة مفضَّلة، وتتنوع مواضيع المناقشة. وأعيد تصميم منزل عائلة البزِّي، المكوّن من طابق واحد، لإيواء سيل الزوار المستمر. وبنقل المطبخ وغرفة الطعام إلى الدور السفلي، ضاعف البزِّي مساحة غرفة الجلوس ثلاث مرات. وأقام في الدور السفلي مجلساً احتياطيّاً ينقلب غرفةَ طعامٍ، عندما لا تكفي الطاولة في المطبخ المجاور لجميع المدعوين. وفي عام 1997، ازداد عدد الضيوف إلى حدّ اضطر البزِّي إلى تحويل المرآب الذي يتّسع لسيارتين، إلى غرفة جلوس ثالثة. وتتعاون زوجته معه، مرتدية القمطة الإسلامية التقليدية واللباس الطويل، في إكرام وفادة الضيوف. وتنتشر العائلات الكبيرة كالعائلات في ديربورن وبغداد حيثما يعيش المسلمون. وقد أعلمني محمد الخفاجي أن المسلمين المتقدمين في السن نادراً ما يضطرون للعيش وحدهم، بل يعيشون، عادةً، مع أحد أبنائهم، أو مع قريب آخر، أو مع صديق. ولفت انتباهنا هذا التقليد قبل سنوات، عندما زارنا طالب كويتي. وحين تحوّل الحديث إلى الاتجاه الأميركي بإيواء كبار السن في بيوت التقاعد، عبّر ضيفنا عن القلق الشديد. وقال، مشدداً على فكرته، وربما كان مبالغاً في ما قال: "الناس في الكويت يجافون أي شخص يودع أباه في دار رعاية. ولا يخالط أي كويتي محترم مثل هذا الشخص". في زيارتي الأولى لدبيّ عام 1988، عبّر عيسى القرق عن مشاعر مشابهة. وعيسى هذا رجل أعمال أصبح، في ما بعد، صديقاً حميماً لي. فعندما قدّمني الى والدته، قال إنه أصَّر على أن تعيش معه خلال سنواتها الباقية. وعندما قلت له إن والدتي الأرملة أعلنت أنها تنوي العيش في دارٍ للرعاية، قرب عائلتَيْ ابنتها وحفيدتها، بعدما عاشت سنوات مع إحدى شقيقاتي، اعترض قائلاً: "لا تدعها تفعل ذلك، وإلا نَدِمتَ طُولَ عمرك. ينبغي أن تصرّ على أن تقضي والدتك بقية حياتها مع أحد أبنائها". وفيما هو يتحدّث، تذكرتُ، لأوفيلا جيم، والِد لوسيل، تعليقاً، في مناسبة سابقة، أدلى به في سياق تفكيره المَلِيّ المتِّجه إلى إيداع الآباء المسنِّين دور الرِّعاية، قال: "تستطيع الأم أن ترعى عشرة أبناء، غير أن عشرة أبناء لا يستطيعون رعاية أم واحدة!" على رغم توصيتي، أصرّت والدتي أن تعيش في دار رعاية المسنين. ومنذ ذلك الحين ينتابني شعور بالذنب، ولم أنس تعليقات القرق ووالد زوجتي. كان تقليد العائلة الموسّعة شائعاً في وقت ما في أميركا. وكان ذلك القاعدة وليس الاستثناء قبل أقل من قرن واحد. وفي صباي، عاشت جدتي لأبي مع عائلتنا التي يبلغ عدد أفرادها سبعة في بيت صغير من طابق واحد. وفي مدينة أخرى، رعت إحدى عماتي أبويها حتى توفيا. وعلى رغم الاتجاه القوي لإيداع المسنين دور الرعاية أو التقاعد، لا يزال أميركيون كثيرون يقبلون مسؤولية رعاية الآباء المُقعَدين أو المسنين المنزلية. علم الطبيب المسلم عنايت لالاني أن إحدى مريضاته المسنّات، وهي غير مسلمة، تصر على العيش وحدها: "رفضت هذه المريضة النشيطة في عامها الرابع والسبعين، رفضت اقتراحي بأن من واجب أبنائها دعوتها للبقاء معهم. قالت لي بحدّة: إن ذلك يقيّد حياتها الاجتماعية، بما في ذلك حريتها الجنسية، وإنها لا تهتم بإخفاء أهوائها هذه عن أي كان". وبعدما روى لالاني ذلك تساءل: "ما الأهم للإنسان: الأمن والإسناد، أم الحرية" أجل، حتى حرية إساءة السلوك أحياناً، ما دام ذلك لا يؤذي أحداً؟" يبدو أن المسلمين في ديربورن نجحوا في المحافظة على التقليد الإسلامي للعائلة الموسّعة، إلا أنهم يواجهون تحدّيات مزعجة. وعلى رغم الزيادة السريعة في عدد السكان المسلمين، فإن جيران رمزي البزِّي غير المسلمين لا يعرفون سوى القليل عن الإسلام، ولا يخوضون إلا قليلاً في نقاشات حول التفاهم بين الأديان، أو بين الجماعات. تسهم عوامل عدة في هذا الافتقار إلى التواصل" ومسلمون كثيرون، كعائلة البزّي، هم مواطنو الجيل الأول أو الثاني، ويتّبعون تقليد الجماعات الدينية والعرقية الأخرى التي قّدِمت إلى أميركا، في العقود الأخيرة. إذ يتجمع معظمهم في جماعات متلاحمة ومنعزلة فعلياً عن الطوائف الأخرى. فما يجعلهم متلاحمين يميل أيضاً إلى فصلهم عن غير المسلمين. إنه خليط من اللغة والثقافة والملابس والدين. أستطيع أن أورد حالة واحدة لمهاجرين اختاروا مغادرة أميركا. انها عائلة مسلمة، مؤلفة من طبيب وزوجته وثلاثة أطفال، اختارت العودة إلى باكستان بعدما تمتعت بالعيش خمس سنوات في أميركا. كانت هذه العائلة تقيم في مدينة صغيرة في الغرب الأوسط، حيث نشأت صداقة بينها وبين عائلة هندوسية تتألّف أيضاً من طبيب وزوجته وثلاثة أطفال في أعمار مقاربة لأعمار الأطفال في العائلة المسلمة. ... هوامش 1 AMC. Our First Five Years, p.8. 2 Ibid., p.12. 3 Abdurahman Alamoudi interview, 1-18-2000. 4 The Oxford Encyclopedia of the Modern Islamic World, vol.. 4, p.278. 5 CAMRI, Muslim Population in the U.S.A., 1998, p.7-8. 6 Interview, Sulayman Nyang on 1-19-2000. 7 Dr. Musa Qutub e-mail, 3-22-1999. 8 Page 692. 9 Page 684. 10 The Oxford Encyclopedia of the Modern Islamic World, vol.. 3, p.277. 11 CAMRI, Muslim Population in the U.S.A., p.19, and AMC, Muslim Population in the United States, p.15. 12 CAMRI, Muslim Population in the U.S.A., p.16. 13 AMC, The Muslim Population in the United States, p.19, 1992. 14 Amir Nashid Ali Muhammad, Muslims in America Amana Publications, p.3. 15 CAMRI, Muslim Population in the U.S.A., p.18. 16 AMC, Our First Five Years, p.8. 17 CAMRI, Muslim Population in the U.S.A., p.13. 18 AMC, Muslim Population in the United States, p.13. 19 A Profile of Islam Melbourne: Islamic Publications, p.95. 20 USA Today, 12-10-99, pp.A1-2 and C11, 13; and New York Times, 4-3-2000, p.9. 21 Muslim Journal, 9-29-2000, p.1. 22 Amber Haque, Muslims and Islamization, Beltsville, Amana Publications, 274. 23 USA Today, 2-28-00, p.3A; AP2-28-2000, p.5, Journal-Courier, Jacksonville, LL., and Chicago Tribune, 9-3-2000, p.34. 24 Sayyid M. Syeed interview, 3-1-2000. 25 CAMRI, Muslim Population in the U.S.A., p.34. 26 Ibid., p.35. 27 AMC, Our First Five Years, p.17. 28 Interview, 5-19-1999. 29 CAMRI, Muslim Population in the U.S.A., p.35. * يصدر الكتاب عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر- بيروت