يتابع بول فندلي في حلقة اليوم رواية تعرفه إلى الإسلام، منتقداً التعليم الذي تلقاه في طفولته على يد معلمة تجهل الإسلام وتنقل إلى تلاميذها ببراءة ما تعلمته هي نفسها مثل بقية الأميركيين الذين تشوه التربية والصور النمطية للإعلام والمسلمين نظرتهم إلى مئات الملايين من البشر وإلى دين يتسم بالتسامح ويدعو إلى المحبة ويعترف بالديانات الأخرى. يمكن للصور النمطية المزيّفة أن تخفي الحقيقة عن الناس، مهما تكن أعمارهم. أما أنا، فكانت بداية تعرّفي إلى الإسلام سيئة. ذلك أنني ضُلّلت بشأن المسلمين والدين الإسلامي، عندما كنت أداوم في مدرسة الأحد المشيخية في مدينة جاكسونفيل في ولاية إيلينوي. واستقرّ هذا التضليل في ذهني حتى بلغتُ خريف العمر. قالت لنا معلمتنا، وهي متطوّعة عطوفة عملت بإخلاص سنوات طويلة، إن شعباً أمّيّاً وبدائيّاً وميّالاً إلى العنف يعيش في مناطق صحراوية في الأراضي المقدسة، ويعبد "إلهَاً غريباً". وما زلت أذكر، من طفولتي المبكّرة، أنها كانت تسمّيهم "محمّديين"" وتواظب على تكرار قولها "إنهم ليسوا مثلنا". وكنّا، أثناء حديثها، نلهو في صندوق رمل كبير نغرس، في مواقع مختلفة منه، أشكالاً مصغّرة لأشجار النخيل والجِمال والخِيم والبدو. انغرزت تعليقاتها في ذاكرتي. وبقيت معظم حياتي أحمل صورة عن المحمّديين غرباء جهلة، ويضمرون الأذى للآخرين. كانت معلّمتي، مثلها مثل كثير من الأميركيين اليوم، تكرّر ببراءة، الأضاليل التي اكتسبتها من آخرين يفتقرون إلى المعرفة الوافية. وكانت تردّد في صفّنا ما كانت تعتقد أنه الحقيقة، بما في ذلك التسمية المغلوطة: المحمديون. ولا أظنّها تعمدت تقديم معلومات مضلّلة، أو الافتراء على الإسلام. كانت، بكل بساطة، تفتقر إلى الحقائق، شأنها شأن المعلّمات الأخريات والقس الذي ترأّس أبرشيتنا. وأصدرت المكاتب القومية للكنيسة المشيخية في الولاياتالمتحدة، منذ ذلك الحين، وثائق تنطوي على معرفة واسعة للإسلام، وتتحدّث عن ضرورة التفاهم بين الأديان. غير أن إصلاح ضرر الأزمنة الغابرة ما زال في بدايته. وحتى الترتيلة المفضّلة "إلى الفرسان في الأيام الخوالي"، أدامت الصور المزيفة. وما زلت أذكر، بعد سبعين عاماً، أنها تقع في الصفحة 219 من كتاب التراتيل" كما أذكر لحنها وكلماتها. فقد كانت المراسم الافتتاحية تتضمّن، على الدوام، إنشاداً جماعيّاً. كنا ننشد الترتيلة 219 بحماس، إذ كانت مرحة تحتفي بالصليبيين المسيحيين في الأراضي المقدّسة: "إلى الفرسان في الأيام الخوالي الذين يحرسون المرتفعات الجبلية، جاء طيف الكأس المقدّسة وصوت عبر الليل المنتظر منادياً: اتّبعوا، اتّبعوا الضوء، الرايات المرفوعة في العالم أجمع" اتّبعوا، اتبعوا، وميض كأس القربان، إنه الكأس المقدسة". تنقل هذه الترتيلة نظرة مشوّهة إلى الإسلام، ما زال يقبلها، كنظرة تتسم بالدقّة، الكثير من المسيحيين، وربما غالبيتهم. فكلماتها، التي تصوّر الفرسان أبطالاً، لا تلمِّح إلى إقدامهم، في الواقع، على ذبح آلاف المسلمين الأبرياء، واستمتاعهم بارتكاب المجزرة. لقد تجاهل الصليبيون، الذين سمّوا أنفسهم مسيحيين، التزام دينهم التسامح والرحمة والعدل. وسلكوا، بدلاً من ذلك، سلوك المتوحشين التوّاقين إلى الانتقام، المتعطّشين للدماء. كانت الترتيلة ستفقد كل جاذبيتها، لو عرفت ما كتبه أحد الصليبيين، في 15 تموز يوليو 1099، عن المشهد الدموي في القدس: "طاف رجالنا شاهري السيوف في أرجاء المدينة" لم يبقوا على أحد، حتى أولئك الذين التمسوا الرحمة. وخاضت الخيول في الدماء حتى ركبها، بل حتى اللجام. كان ذلك حكماً عادلاً ورائعاً من الله" 1. ولم تقتصر المجزرة على القدس" فقد أقدم الصليبيون، وهم يبحثون عن الوثنيين والملحدين، على قتل مسلمينَ ويهود، وحتى مسيحيينَ آخرين في أنحاء الشرق الأوسط، ولا سيما في أنطاكية والقسطنطينية. وبالمقابل، لم تسفك أي دماء في الفترات الثلاث المنفصلة التي سيطر فيها المسلمون على القدس. لم أفقه سبب اعتراض المسلمين الشديد على التسمية المغلوطة محمّديّ إلا عام 1998، عندما بلغت السابعة والسبعين. وشرح هذا السبب أندرو باترسن، الكاتب الذي اعتنق الإسلام، قائلاً: "إنها تشي بسوء فهم عميق للإسلام، وتوحي بأن المسلمين يعبدون النبي محمداً كإله. إنهم يبجّلون محمداً ويجلّونه كآخر رسل الله، غير أنهم لا يعبدونه. وفي الحقيقة أن الإيمان بإله واحد يحتل المرتبة العليا من "أركان الإسلام الخمسة". وقال إن "الأركان" الأخرى هي أداء الصلاة خمس مرات يوميّاً، ودفع الزكاة مساعدة للمعوزين، وصيام شهر رمضان، وتأدية الحج إلى مكةالمكرمة مرّة واحدة على الأقل في الحياة، إذا سمحت بذلك حال المرء الصحية والمالية. ويُعتبر المسلمون، الذين يؤدون هذه الفرائض الخمس، أتقياء ملتزمين. ويبقى مصطلح "محمدي" المغلوط متداولاً، إلى حدّ ما، لأن معظم المسيحيين، على رغم اعتناقهم ديناً توحيدياً معترفاً به عالمياً، فإنهم يؤمنون بالثالوث الأقدس: الله الأب والله الابن والله الروح القدس. ويفترضُ بعض المسيحيين خطأً أن الله موجود في ثلاثة أشخاص في الإسلام. في حين أن الإيمان بالثالوث الأقدس قد ينشأ، بالنسبة إلى آخرين، عن تجارب الطفولة الشبيهة بتجاربي. إن الصور المزيّفة عن الإسلام، التي حملتها من مرحلة الطفولة، استمرت طويلاً في تجربتي إلى حدِّ يجعلني لا أفاجأ بوجود أميركيين آخرين يحملون أفكاراً خاطئة مماثلة. وثمة ما يثير الإحساس بحراجة الحال لدى التأمّل بهذا الكم الهائل من الصور النمطية المضلّلة عن الإسلام، الذي تدفّق، عاماً بعد آخر، من صفوف مدارس الأحد في أنحاء أميركا، من دون أن يواجه الطعن. إذ إن الملايين من الشباب القابلين للتأثّر ربما تقبّلوا هذه التضليلات كحقيقة" ونقلوها، على مرّ السنين، كما هي، بلا تصحيح، إلى ملايين آخرين من الناس. بدأت معرفتي الإسلام خلال مهمة الإنقاذ التي تولّيتها، عام 1974، في عدن، عندما تحدثت إلى موظّف المراسم صالح عبد الله، الشاب الأنيق والوسيم والمفعم بالحيوية، الذي عمل طوال خمسة أيام مرافقاً لي، وعلّمني الكثير عن الإسلام. كان التجوّل لمشاهدة معالم البلد محدوداً" وكانت البرامج الإذاعية بالعربية، اللغة التي لا أفهمها. ولحسن الحظ، كان عبدالله يتكلّم الإنكليزية بطلاقة. وبما أن البثّ التلفزيوني يكاد يكون معدوماً، رحنا نراجع، أثناء الساعات الطويلة التي قضيناها معاً، سياسات الشرق الأوسط. غير أن حديثنا غالباً ما بدا ينشدّ إلى الإسلام. ولعلّ الموضوع استهواني، لأنني أحسست بعزلة اليمن الجنوبي، وافتقاره إلى الأخبار من العالم الخارجي، وغياب الحشود، وازدحام حركة المرور، وسكون الصحراء، وخلو الشواطئ المتلألئة، واتساع خليج عدن. كانت تلك أول مرة ناقشت فيها، مع شخص ما، إيمان المسلمين. ذات يوم، ونحن نتجوّل في المدينة، أشار عبدالله إلى مبنى مطليّ بالجير، قائلاً إنه مسجد، وإنه واحد من مساجد عدة في المدينة. حضّتني ملاحظته على السؤال: هل تدخل السوفيات، المعروفون بالإلحاد والحكم الاستبدادي، في التقاليد الدينية المحلية وأغلقوا المساجد؟ أجاب بمبالغة مفهومة: "كلا، لا بدّ أن نفهم أن حكومتنا مستقلّة تماماً عن النفوذ الأجنبي. نحن نعتزّ باستقلالنا اعتزازاً عالياً جدّاً. وأنا واثق أن السوفيات، الذين ساعدوا بلادي بطرق كثيرة، لم يحاولوا التدخّل في الدين. ولن يفيدهم ذلك إذا حاولوا". ... كانت دليلة المتحف فريدة الداير فتاة في الثامنة عشرة، رشيقة ترتدي ملابس غربية جذّابة" وكانت كعبد الله تتكلم الإنكليزية بطلاقة. كانت تكمل الخدمة الحكومية المقرّرة لمدة سنة، قبل أن تشرع في دراسة الصيدلة. وفي كلمة ترحيب قصيرة، عبّرت عن اعتزازها ببلدها وحماستها للإسلام. وأضافت: "للمرأة حقوق مساوية لحقوق الرجل في بلادنا. كل الوظائف مفتوحة أمامنا" ونحن نتمتّع بالحقوق السياسية نفسها مثل الرجال. وهذه، كما تعرف على الأرجح، هي الطريقة الإسلامية". لم أكن أعرف ذلك. وعلمت، فيما بعد، أن المرأة، في بعض الدول الإسلامية، لا تتمتّع بالحقوق السياسية وحقوق العمل نفسها، كالرجل. وكنت أتصوّر، قبل أن أصل إلى عدن، أن النساء المسلمات ملزمات بالبقاء في البيت، وأنهنّ يتعرّضن للتمييز. وما إن غادرنا المتحف، حتى قال عبدالله: "إذا كان لدينا وقت لزيارة القرى في الصحراء، فستجد أن معظم النساء هناك يتّبعن تقليداً قديماً بارتداء الملابس السود من الرأس إلى أخمص القدمين" ويضعن النقاب على وجوههن، في حين أن الكثيرات في عدن، مثل فريدة، يرتدين اللباس الغربي". لم تكن المناقشات في الإسلام مع عبدالله سوى بداية ثقافتي التي استمرت عبر السنين التالية، ولم تكن غير منظّمة أودورية أو رسمية أو مخططة، أو في غرف تدريس وواجبات وامتحانات. تعلّمت عن الإسلام من طريق المراسلات، وبواسطة أحاديث امتدّت أكثر من خمسة وعشرين عاماً، مع مسلمين يعيشون في لوس أنجليس وشيكاغو وناشفيل وواشنطن ونيويورك وهيوستن وسانت لويس وأونتاريو الغربية والقاهرة وجدة وعمّان وبينانغ في ماليزيا. وفي المحكمة، كما يقال، يعتدّ بالمعلومات الشخصية، وليس بتلك التي نسمعها من الآخرين. مررت بتجربة لن تنسى في مسجد في نيوجيرسي: شاهدت، للمرة الأولى، المسلمين يؤدّون الصلاة. كان المتعبّدون، من أجناس وأعراق مختلفة، يؤدّون الشعائر، وقوفاً كتفاً لكتف. وبعد الصلاة، قالت لي زائرة شقراء من لندن: "اعتنقت الإسلام في الأربعين، ووجدت في ذلك تجربة مرضية جدّاً. وفي لوس أنجليس، اكتسبت نظرة أوسع عن المسلمين في أميركا، عندما حلت في المركز الإسلامي لكاليفورنيا الجنوبية. في هذه المدينة، رافقني سلام المرياطي، وهو ابن لمهاجرين عراقيين أصبح، في ما بعد، مديراً لمجلس الشؤون الإسلامية في لوس أنجليس الجنوبية. وهذا المركز، مثله مثل مراكز عدة أخرى كثيرة في أميركا، يوفّر مكاناً للعبادة، ويقدّم منهاجاً للدراسة لتلاميذ المرحلة الابتدائية، بالإضافة إلى قاعات اجتماعات ومكتبة كبيرة لبيع الكتب. كانت لسلام المرياطي رحلته الخاصة للاكتشاف الديني. وروى، في صحيفة "لوس أنجليس هيرالد اكزامينر"، اليقظة الدينية التي خبرها عقب دخول الكلية: "شعر قلبي بالخواء. كنت منشغلاً بمسائل إرضاء الذات التي تشكّل نقطة ضعف شائعة عند الأميركيين. استنتجت أن هدفي على هذه الأرض لا يقتصر على بناء عشّ في النظام البيئي، ولا يقتصر على التكاثر ثم الموت. وقادني طموحي إلى القرآن الكريم، وهو ملاذ عظيم للفهم الإنساني، فتعلّمت المزيد عن عالمنا وتاريخنا وأنفسنا وخالقنا" 2. اكتسب المرياطي فهماً وافياً جديداً للزواج والأبوّة في الإسلام، عندما شاركت زوجته الطبيبة ليلى، الرئيسة السابقة لرابطة المرأة المسلمة، في مؤتمر دولي عن المرأة عُقد في بكين. فقد تولى رعاية ابنيهما الصغيرين خلال غيابها. وكتب بعدها، عن تلك التجربة، ليقول "إنها ساعدته أن يفهم لماذا تقول الشريعة الإسلامية إن المرأة تستطيع الاحتفاظ باسم أسرتها بعد زواجها، وإن الزوج لا يستطيع التصرّف بدخلها الشخصي، ولماذا ينبغي أن يشارك الزوج في أعمال المنزل، أو يأتي بمدبّرة منزل تساعد زوجته". وقال إن ذلك جعله يعيّن "الانسجام والمحبة والعدل والحرية" بوصفها "أهداف الإسلام الاجتماعية الرئيسة" 3. مررت، عام 1988، بتجارب أخرى ساعدتني على فهم الإسلام، خلال رحلتي الأولى إلى الشرق الأوسط، بعد مغادرتي الكونغرس. فذات يوم، في ما كنت مارّاً في سيارة قرب الرياض، شاهدت راعياً يركع بمفرده مؤدّياً صلاة الظهر. وكنت مارّاً قرب ورشة بناء داخل العاصمة، فشاهدت رجلاً يؤدّي صلاة العصر بمفرده. ثمّ لفتني أداء الصلاة مرّة أخرى، خلال زيارة منزل على الشاطئ قرب جدة. فقد استأذنني مضيفي، التاجر المرموق حامد باغفار، وهمّ بدخول غرفة مجاورة" لكنه توقّف برهة، عندما لاحظ نظرة الحيرة على وجهي، وقال: "حان وقت الصلاة. سأغيب عشر دقائق فقط". ثم أضاف: "الصلاة تذكّرنا بالله". وعندما زرت رجل أعمال في جدّة، جلست قرب مكتبه، وانتظرته ليكمل أداء صلاة الظهر، فكان يركع على سجادة الصلاة ويلامسها بجبينه، على مسافة بضع أقدام مني. وفي وقت لاحق من السنة نفسها، وبعد عودتي إلى أميركا، قابلت مسلمين، هما زينب البري، التي تعمل ممثلة الخدمات المالية في شركة "ميت لايف" في مدينة ناشفيل، وزوجها الدكتور نور النصيري، وهو اقتصادي وباحث في الإسلام من مواليد المغرب، شغل والده في وقت من الأوقات منصب وزير الشؤون الإسلامية في عهد ملك المغرب الراحل الحسن الثاني. وبعد أن قرأت زينب البرّي، المصرية المولد، كتابي "من يجرؤ على الكلام"، رتّبت لي موعداً لإلقاء محاضرة في المدينة. ثم أصبحت، بناء على طلبي، أول عضو غير مسلم في الهيئة الإدارية لمجلس المصالح الوطنية. لقد كان التزامها حقوق الإنسان وحماستها للإسلام، فضلاً عن استعداد النصيري مشاطرتي معرفته المفصّلة بالإسلام وتاريخه، من العوامل التي جعلت ثقافتي الإسلامية تتقدم باطّراد في الأعوام اللاحقة. إن زينب البرّي سفيرة ناجحة للنيّات الطيبة، تنشط لمصلحة المسلمين والعرب الأميركيين في منطقة ناشفيل. فهي من قادة "اللجنة الدولية" المحلّية، وغيرها من المجموعات المدنية المتخصّصة في مشاريع التعاون بين الأديان والأعراق. ووصفتها صحيفة "ناشفيل تنيسيان" مرة، بأنها "سفارة من شخص واحد". وتعمل زينب في الحملات الحزبية لمساعدة المرشحين للمناصب العامة. وأدّت دوراً مهمّاً، رئيسة لمجموعة "النساء من أجل غور" في حملة الانتخابات الرئاسية عام 2000، التي خاضها نائب الرئيس آل غور. وفضلاً عن جمع التبرّعات، كانت زينب تزوّد مقر حملته القومي في ناشفيل بكميات وافرة من المعجّنات، حتى إنها أحرزت لقب "سيدة الفطيرة" في التلفزيون القومي. واتّسعت دائرة معارفي من المسلمين، خلال رحلات عدة قمت بها إلى المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. ففي عام 1988، قمت بجولة في متحف للتقنية العالية نظّمته شركة أرامكو في الإقليم الشرقي في السعودية، حيث تستعرض محطات الكومبيوتر إسهامات الإسلام في الحضارة الإنسانية. واقترحت على مدير المتحف تركيب مجموعة من المحطّات في معهد سميثونيان في واشنطن، ليتسنّى لعامة الناس مشاهدة هذه العروض، للمساعدة في تصحيح الأفكار النمطية عن الإسلام في الولاياتالمتحدة. وبعد عامين، عَقدتُ أول اجتماع في سلسلة اجتماعات مع رجل الأعمال أحمد صلاح جمجوم، المسؤول الحكومي السابق الذي يقود منظمات إسلامية عدة، وكان آنذاك المدير العام لصحيفة "المدينة" اليومية التي تصدر في جدة. وفي دبي، أصبح عيسى صلاح القرق مستشاراً وصديقاً حميماً لي. وفي بينانغ في ماليزيا، تسنّى لي، في أيلول سبتمبر 1993، أن أطّلع، بصورة أكثر شمولاً من ذي قبل، على حقيقة الأفكار الخاطئة العامة عن الإسلام. كان ذلك في حلقة دراسية استغرقت أسبوعاً كاملاً، خصّصت للبحث في الصور النمطية المعادية للمسلمين. وكان لأندرو باترسن، ابن إيلينوي الذي يدرّس الإنكليزية حالياً في إحدى جامعات الصين، التأثير الأبقى. وواظبنا على تبادل الرسائل لسنوات طويلة. وأحرزت تقدّماً سريعاً في رحلتي، التي قمت بها عام 1989، عندما أرسل إلي محمد شريف بسيوني، الأستاذ في شيكاغو، نسخة من كتابه المزخرف البديع "مقدمة إلى الإسلام". كنت قابلت بسيوني للمرة الأولى عام 1974، عندما زارني في مبنى الكابيتول، بعد أن قرأ عن مهمة الإنقاذ التي قمت بها في عدن. كان خبيراً في القانون الدولي، وكان يُنظر، حينذاك، في مسألة تعيينه مستشاراً قانونياً لوزير الخارجية الأميركي. إن كتابه، الذي عرض فيه للإسلام، من أفضل ما قرأت، سواء بإيجازه أو بتفاصيله الحيّة الجذّابة. فهو يعرّف القرآن بقوله: "إنّه، بكل بساطة، آخر الرسالات السماوية التي تصل إلى البشرية، عبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي اختاره الخالق ليحمل الوحي الأخير والشامل. وهذا ما يفسّر سبب وجود صلة وثيقة بين الإسلام والمسيحية واليهودية". ثم يورد بسيوني صلات أخرى تربط بين الأديان. يقول: "إن القرآن يشير إلى المسيحيين واليهود، بأنهم "أهل الكتاب"، لأنهم تلقّوا الرسائل من الخالق، من طريق موسى وأنبياء العهد القديم، وصولاً إلى المسيح الذي يعدّه الإسلام ثمرة ولادة معجزة لمريم العذراء المباركة" 4. كنّا ذات يوم ننطلق في سيارة على الطرقات الترابية في الريف اليمني، عندما نظر مرافقنا الأستاذ اليمني إلى ساعته، وقال: "حان موعد الصلاة، ولكن ليس ثمة مكان أتوضّأ فيه، ولذا لا بد أن أؤجّل الصلاة، فأنا لست نظيفاً على نحو كافٍ لكي أصلّي". وعندما ذكرت تعليقه مؤخّراً أمام الدكتور محمد بشار دوست، صديقي منذ كنت عضواً في الكونغرس، قال إن مرافقي كان في وسعه أداء الصلاة من دون وضوء. وأوضح أن المسلم يستطيع، عند الضرورة، تلبية شرط الطهارة بأن يلجأ إلى الرمز، فيمسح الكفّين على رمل أو حجر نظيف، أو حتى أن يضغط اليدين على جدار، ثم يمسحهما على الوجه والذراعين. تسنّى لنا أن نتزوّد من بشار دوست وعائلته، اللاجئين من أفغانستان، بلمحات عن الدين الإسلامي، عندما أصبحوا جيراننا في إحدى ضواحي واشنطن في أواخر عهدي في الكونغرس. وساعدت عائلتي بشار دوست وزوجته وأطفاله الأربعة على إكمال تكيّفهم مع الحياة الأميركية. ووسّعوا، بدورهم، معرفتنا للإسلام. وأثناء وجبة عامرة لمناسبة عيد الفطر، التي يحتفل فيها بانتهاء شهر رمضان، شرحوا لنا فريضة الصوم في الإسلام، التي تقضي بالامتناع، طوال الشهر، عن تناول الطعام أو الشراب خلال ساعات النهار. وفي وقت لاحق، وبعد ظهر يوم حار، علمتُ بمسألة الاحتشام في الملابس. فقد تجمّع عدد من سيدات الجوار للتمتّع بحمام شمس في الفناء الخلفي. وفيما كنت أتحدث مع الدكتور بشار دوست عن السياج الفاصل، أكّدت له أن زوجته ستلقى الترحيب، إذا انضمّت إلى النساء اللاتي يرتدين ملابس لا تكاد تستر الجسم. فأوضح أنها لن تفعل ذلك، لأن حمام الشمس العلني ينتهك القاعدة الإسلامية التي تدعو إلى الاحتشام في الملابس، وهي قاعدة تنطبق على الرجال والنساء معاً. وعرفت، فيما بعد، أن فريضة الصوم تسبّبت بإرباك طفل في لوس أنجليس: بدأ سلام المرياطي يؤدّي فريضة الصوم عندما كان في الصف الرابع" إلا أنه وجد صعوبة في شرح ذلك لزملائه غير المسلمين في الصف. وقد وصف حيرته بعد سنوات، قائلاً: "لمّا لم أستطع شرح فكرة الصوم لأصدقائي، قلت لهم إن والديّ يفرضان عليّ ذلك. وهذا، بالطبع، نمَّى لدى زملائي مشاعر بغيضة نحو أمي وأبي" ولكنني، ولله الحمد، استجمعت شجاعتي في ما بعد، وشرحت لهم درس الصوم بأنه يعلّم قوة الإرادة والعناية بالجانب الروحي لأجسادنا. وبعدما اطّلع أصدقائي في المدرسة الثانوية على هذا الجانب من أسلوب حياتي وفهموه، باتوا يحترمون أبويّ ويحترمونني، لأدائنا فريضة الصيام. والأهم أنهم بدأوا يكنّون الاحترام للإسلام" 8. إن قلّة من المسيحيين تتقيّد بفرائض دينية صارمة، كالفرائض التي يقبلها المسلمون. كنّا في عائلتنا نحني رؤوسنا لتلاوة صلاة قصيرة قبل الوجبات" ونذهب إلى الكنيسة، دائماً، صباح الأحد. فالذهاب إلى الكنيسة كان واجباً لا يتحدّث عنه أحد" ولكنه كان صارماً وجزءاً من حياتنا، كالأكل والنوم والتنفّس. وكان بعض حرمان النفس أمراً متوقّعاً في الأيام التي تسبق أحد الفصح. فالكاثوليك كانوا يمتنعون عن تناول اللحم يوم الجمعة. إلا أن بعض هذه الممارسات ما لبثت أن تلاشت أو اختفت. ولكنها، حتى في ذروتها، تبدو بسيطة، مقارنة بممارسات الدين الإسلامي. ويَصفَ مسلمون، أدّوا فريضة الحج إلى مكة، هذه الفريضة بأنها من أعظم تجارب الحياة. وهي، أيضاً، تجربة في المساواة، إذ يرتدي الأمراء والفقراء الملابس نفسها. وفي صباح ذات يوم قبل سنوات طويلة، حدث أنني كنت أنتظر، في بهو أحد فنادق جدّة في المملكة العربية السعودية، عندما شاهدت الحجّاج يصعدون إلى الحافلات للتوجّه إلى مكة القريبة. كانوا جميعاً يرتدون ملابس الإحرام البيض البسيطة. ولم أستطع التمييز بين الغنيّ والفقير، أو بين النبيل والعاميّ. وفي صيف 1999، كلّمني، هاتفيّاً، شاب أردني يُدعى ضيف الله الهنداوي، التقيته للمرة الأولى عندما كان يدرس في جامعة أميركية. كان الهنداوي يهاتفني من مكان عمله في دبي بعد عودته من مكةالمكرمة. لم يكن ميّالاً، بطبعه، إلى إطلاق العنان لحماسته" لكنّه قدّم إلي تقريراً ينمّ عن بهجته، إذ قال: "كانت أعمق تجارب حياتي. لقد صلّينا من أجل البشر جميعاً، وليس من أجل أنفسنا وحدنا، وليس من أجل المسلمين وحدهم" 9. ويُفرض على المسلمين، علاوة على فرائض الصلاة والصوم والزكاة، التزام عفّة اللسان والتسامح واحترام الأديان الأخرى. وتبدّى لي هذا التحفّظ في انتقاد الآخرين، خلال مقابلة أجريتها مع نثانيال هام، المسلم الأفرو أميركي البارز في الحزب الجمهوري في مدينة نيويورك. سألته، حينذاك، عن رأيه في لويس فرخان، الزعيم المثير للجدل لمنظمة أمة الإسلام، الأفرو أميركية، التي طعن التيّار المسلم السائد، آنذاك، بتفسيرها القرآن. ولما كانت الملاحظات التي دوّنتها أثناء المقابلة غير مكتملة، فقد اتّصلت به هاتفيّاً للاستيضاح. قلت له: "عندما تحدثت إليك في المركز الإسلامي في كوينز، انتقدت لويس فرخان. وأردت بهذا الاتصال، أن أتأكّد من صحة اقتباسي لانتقادك". فأجابني نثانيال: "أنا مسرور جدّاً لأنك اتّصلت. إذ لم تكن ملاحظتي انتقاداً شخصيّاً للسيد فرخان، أنا أهتمّ دائماً بتحاشي الانتقاد الشخصي لأيّ كان". قد يكون المسلمون متقدّمين كثيراً على المسيحيين، في دراسة الكتب الدينية. فما زلت أذكر، من تجربتي في مدرسة الأحد، كيف كان الأولاد، في الصفوف الابتدائية، يحفظون، عن ظهر قلب، بعض المقاطع والمزامير من الكتاب المقدس. وكانت، من أسعد لحظات فتوّتي، تلك اللحظة من فترة المراسم التي كنا نستهلّ بها يومنا، عندما كنت أقف أمام ما كان يبدو لي حشداً ضخماً، لأتلو من الذاكرة أسماء أناجيل الكتاب المقدس. كنت أسرع في تلاوة الأسماء إلى درجة أن التلاوة لا تكاد تتجاوز الدقيقة الواحدة. لكنّني، حالما أنتهي، كنت أتصوّر أنني قد تسلّقت جبلاً. ومقارنة بمنجزات المسلمين الذين يحفظون القرآن بأكمله عن ظهر قلب، كان أدائي متواضعاً حقّاً. ربما كان للمسلمين ميزة على بعض المسيحيين في قبولهم الحرفي لنص كتابهم المقدس. ففي اجتماع بين ممثّلي الأديان المختلفة، عقده زعماء دينيون قبل بضعة أعوام في كلكتا، طُلب من القس مونكيور كونوي، وهو مسيحي من الطائفة التوحيدية، أن يعلّق على ميلاد المسيح العجائبي، كما يُروى في الكتاب المقدس. فردّ كونوي مقدّماً للمجتمعين وصفاً لميلاد المسيح، باعتباره "قصة ذات أهمية أسطورية وشعرية، ولا ينبغي اعتبارها تاريخية". وعندما طُلب من المسلمين الحاضرين ذوي المكانة المرموقة، وكان عددهم 12 شخصاً أو أكثر، أن يبدوا وجهة نظرهم، تشاوروا في ما بينهم. ثم قال ناطق باسمهم إنهم جميعاً يشعرون بأنهم "ملزمون بقبول القصة تماماً، كما هي في العهد الجديد". وهذا ما دفع كونوي إلى الاستنتاج، ممتعضاً، أن المسلمين هم وحدهم، المسيحيّون الأرثوذوكس حقّاً بين الحاضرين في الاجتماع. وكتب، في ما بعد، يقول: "المسلمون ليسوا مسيحيين إلا أنهم الوحيدون في الشرق الذين يؤكّدون، حرفيّاً، صحّة المعجزات كافة التي تنسب إلى المسيح في الأناجيل، أو في فقرات من الكتاب المقدس لها صلة بميلاده. ومن النادر أن تجد متشكّكاً بينهم" 10. والنسب المسيحي الإسلامي يمتدّ عميقاً في التاريخ. فكلتا الديانتين، المسيحية والإسلام، تمجّد الكتب المقدّسة الأساسية، باعتبارها كلام الله. إنه الكتاب المقدس العهد القديم والعهد الجديد لدى المسيحيين، والقرآن لدى المسلمين. كما أن لدى الديانتين أدبيات ثانوية يعتقد عناية لالاني، وهو طبيب في تكساس، أن تقبّلها تعاظم، ثم تضاءل عبر السنين. وأسهم، أحياناً، في إحداث نكسات في كلتا الديانتين. يقول في رسالة له: "تشمل هذه الأدبيات، لدى المسيحيين، مؤلفات أوغسطين والاقويني ودانتي ولوثر وكالفن وميلانتشون. وتشمل لدى المسلمين الحديث روايات عن النبي محمد وأقواله ومآثره" والسنّة، وهي عادات النبي وتقاليده" والشريعة، أي القوانين الإسلامية المُستَمدة من القرآن والسنّة. إن المرونة، التي يجدها لالاني في القرآن، ينبغي أن تشجّع غير المسلمين على رفض الصور النمطية الواسعة الانتشار التي تعرض الإسلام ديناً متّصفاً بالدوغمائية والتصلّب والانتقامية والقساوة. والتسامح من المبادئ الأولى في المسيحية والإسلام" غير أنه يُفتَقد في بعض الأزمنة والأماكن" ويصبح إدراك صلة القربى بين الديانتين غير ممكن. وأعتقد، عموماً، أن المسلمين أكثر اعترافاً من المسيحيين بصلة القربى بين الأديان. وهذا واضح في حقيقة أن الإسلام يقبل المسيحية واليهودية كديانتين تقومان على أساس الوحي الإلهي. وعندما يصبح المسيحيون أكثر إدراكاً لهذه العلاقة، سيشرعون بالتحدّث عن التراث اليهودي المسيحي الإسلامي، وهو مصطلح أدقّ من تعبير اليهودي المسيحي المستخدم في معظم الأحيان 13. إن ظهور الأدّلة القوية على وجود صلة قربى وثيقة بين المسيحية والإسلام، ولا سيما في الآثار الأساسية المدونة، كان هو الأكثر مدعاة للذهول والرضى، ممّا تكشّف لي في رحلتي الإسلامية. إنه كشف مذهل، لأنه، بالضبط، نقيض لمعظم ما يؤمن به المسيحيّون الأميركيون. وهو أمر يبعث على الرضى، بسبب ما يتيحه من ضمان لقيام تعاون عظيم بين الأديان، ما إن يعرف كلٌّ من المسيحيين والمسلمين الحقيقة عن أنفسهم. وهو يطعن بما كانت تردّده، تكراراً، المعلّمة في مدرسة الأحد، من أن المسلمين، الذين كانت تخطئ في تسميتهم ب"المحمّديين" "ليسوا مثلنا". ... ويعتقد الأمير تشارلز، وريث العرش البريطاني الذي يجعله منصبه هذا رئيساً فخريّاً لكنيسة إنكلترا، أنّ بوسع المسيحيين تعلّم أمور كثيرة من المسلمين. وفي خطاب متلفز ألقاه، عام 1993 في جامعة أوكسفورد، لحظ تشارلز مآثر الإسلام في الحضارة الغربية، حين قال: "يمكن للإسلام أن يعلّمنا اليوم طريقة للفهم والعيش في عالم كانت المسيحية هي الخاسرة عندما فقدته. ذلك أنّنا نجد في جوهر الإسلام محافظته على نظرة متكاملة إلى الكون. فهو يرفض الفصل بين الإنسان والطبيعة، وبين الدين والعلوم، وبين العقل والمادة. وقد حافظ على نظرة ميتافيزيقية وموحّدة عن أنفسنا، وعن العالم من حولنا" 14. وعبّر إبراهيم أبو ربيع، المدير المشارك لمركز دنكان بلاك مكدونالد لدراسة الإسلام والعلاقات المسيحية الإسلامية، عن وجهة نظر موازية، في محاضرة ألقاها في نيسان أبريل 1999، في معهد هارتفورد اللاهوتي في ولاية كونيكتيكت. فقد أعرب عن اعتقاده أن الإسلام يسعى إلى بقاء "الوعي بالمقدسات" سليماً. وأضاف قائلاً: "تأمّلوا برهة في موسم الحج الكبير، عندما يتوجّه الرجال والنساء، من شرائح المجتمع كافّة: أغنياء وفقراء، عرباً وغير عرب، إلى مكّة المكرمة، يسجدون لربّ العالمين، ويلتمسون الرحمة والشفقة". ودعا أبو ربيع إلى التعاون بين الأديان، قائلاً: "من المهمّ التركيز على بناء صلات لاهوتية وفكرية جديدة بين تقاليدنا الثلاثة، أي اليهودية والمسيحية والإسلام" وهي صلات ضاعت، على ما يبدو، في مراحل معيّنة من التاريخ البشري… ذلك أننا، لن نتمكّن، إلا بإعادة اكتشاف ذلك المَعِين الهائل لدعامتنا الروحية، من إحياء تلك الصلات من أجلنا ومن أجل أبنائنا" 15. هوامش 1Hassan Hathout, Reading the Muslim Mind, p.38-39. 2 LA Herald Examinder, 2-26-1989, p.F-11. 3 Los Angeles Times, 3-8-1996 p.A15. 4 M. Cherif Bassiouni, Introduction to Islam, p.28. 5 Bill Baker, More in Common Than You Think, p.43. 6 Bassiouni, An Introduction to Islam, p.42-44. 7 Ibid., p.32. 8 Lِ Herald Examiner, 2-26-1989 p.F-1. 9 Letter, 8-1-2000. 10 Ralph Braibanti, The Nature and Structure of the Islamic World, p.76. 11 Ibid., p.86. 12 Letter, 5-27-2000. 13 Ibid., p.16. 14 Ibid., p.38. 15 Hartford Seminary, Praxis, April 1999, p.3. * يصدر الكتاب عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر- بيروت