تشهد الولاياتالمتحدة مرحلة تأقلم تدريجي مع الواقع الجديد الذي خلفته اعتداءات الحادي عشر من أيلول سبتمبر. وفيما تستمر جهود تضميد الجراح المادية والمعنوية، تنشط الأجهزة الأمنية في محاولة كشف خلايا الإرهابيين، وتعيد الإدارات الرسمية تقويم الاجراءات المتبعة كافة على كل صعيد لتجنب أي استغلال إرهابي مستقبلي لنقاط الضعف فيها. وثمن هذه الجهود لتوّه هو تبدل خطير في سير الحياة اليومية للمواطنين الأميركيين العاديين، في سفرهم وتجوالهم وعملهم وفي المواضيع التي تستقطب اهتمامهم. ويبدو بشكل عام أن المواطنين الأميركيين مستعدون لتحمل أعباء هذا التبدل لإستعادة بعض ما فقدوه من الامان والاطمئنان، على رغم أنه يمكن تصنيف العديد من الاجراءات المتخذة في خانة معالجة المريض بعد وفاته. ففائدتها تقتصر على تبديد بعض القلق الذي يستوطن نفوس عموم المواطنين ووجوههم. ولا شك أن الصدمة تلازم معظم الأميركيين، وهول الصدمة يعود بالتأكيد إلى أن الجريمة جاءت لتتجاوز أي تصور، سواء من حيث الدقة في التخطيط والتنفيذ، أو استهدافها لأبرياء، أو من حيث استهتار الخاطفين بأرواحهم. والسؤال الأول الذي رافق الحدث كان: لماذا؟ ماذا يريد الإرهابيون من الولاياتالمتحدة؟ إذ لم يصدر عنهم تهديد سابق أو بيان لاحق يعلن المسؤولية أو يفصّل المطالب. وإذا كان بعض العرب أخطأ في التفسير والتعبير والتوقيت عند محاولته الإشارة إلى دافع تتحمل وزره في نهاية المطاف الولاياتالمتحدة نفسها، فإن الأصوات الإسرائيلية والمؤيدة لإسرائيل في الولاياتالمتحدة سارعت إلى تحديد خطوط التماس في المواجهة المرتقبة على أساس "صراع حضارات" بين "الديموقراطية والحرية والحضارة"، أي الغرب بما فيه إسرائيل المرابطة عند ثغوره، و"الإرهاب" ذي الرقعة القابلة للتوسيع والتضييق، والذي يشمل كامل العام الإسلامي لدى نتانياهو مثلاً أو بعضه لدى بيريز، وفق حدة صاحب الموقف. وكان معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، وهو أهم مراكز الدراسات المؤيدة لإسرائيل في العاصمة، عقد في اليوم التالي للاعتداء لقاء خاصاً للباحثين التابعين له والمتعاطفين معه من ذوي الحضور الإعلامي، حضره المبعوث الأميركي السابق إلى الشرق الأوسط دنيس روس، للتشديد على أهمية فصل العملية الإرهابية عن أي موقف إسرائيلي أو أميركي ازاء القضية الفلسطينية. وحسم الرئيس بوش الموضوع في كلمته أمام الكونغرس لصالح "صراع حضارات" يقف فيه "العالم المتحضر" في مواجهة الهامش الإرهابي للعالم الإسلامي. وعلى رغم التلطيف الذي تضمنته الكلمة في التأكيد على أن العدو ليس "الإسلام"، فإنها تشكل لدى الجمهور الأميركي تكريساً لمقولة صراع الحضارات. يلاحظ هنا أن هذه الكلمة كانت موجهة إلى جهتين مختلفتين، إحداهما الرأي العام العالمي والذي عليه أن يأخذ بمعناها الظاهر الجامع للحزم والاعتدال والدعوة إلى الاتحاد، والآخر الجمهور الأميركي والذي بوسعه أن يقرأ هوية الحلفاء الدائمين في مقابل الحلفاء المرحليين من خلال اختيار الرئيس للكلمات أو اهماله لها. فالاعتداء، كما أكد بوش، هو اعتداء على "الحرية" والجمهور الأميركي يعلم أن "الحرية" تقتصر على الغرب. وإجابة بوش المتكررة على سؤال "لماذا الاعتداء؟" هي أن الارهابيين حاقدون على الولاياتالمتحدة لما تجسده من حرية، وليس نتيجة لأية ممارسات أقدمت عليها أو سياسة تلتزمها، وان هدفهم من الاعتداء هو تدمير القيم التي تقوم عليها الولاياتالمتحدة من الحرية والتعددية والحق بالاختلاف والشفافية والتزام الاصول الدستورية والأحكام القانونية. وفيما يؤكد بوش دوماً أن الاعتداء مني بالفشل الذريع، فإن ثمة دلائل مقلقة على أن نتائج الاعتداء لا تقتصر على آلاف الضحايا وبلايين الدولارات وإلزام الولاياتالمتحدة مراجعة أوجه الانفاق، وربما التراجع عن التخفيض الضريبي، ودفع الجمهور الأميركي إلى الرضوخ لبعض تقييد الحريات، بل إلى المطالبة به، وإقحام الرئيس وحكومته بمعركة لم تكن في الوارد، وإظهار التناقضات في صفوف هذهت الحكومة، بل قد تطال كذلك صلب التجربة السياسية والاجتماعية الأميركية. وقد تكون الظاهرة الأكثر إثارة للقلق الخطاب الذي يعتمده كبار المسؤولين من "الصقور" في حكومة الرئيس بوش ازاء "الحرب" المرتقبة، إذ يؤكدون أنها حرب من طراز جديد تتطلب أساليب غير معتادة. فيشيرون بإصرار إلى أن الجمهور الأميركي يتفهم من دون شك الحاجة إلى التعتيم الإعلامي، وأن المعارك قد تكون غير مرئية، وأن الانتصارات قد لا يعلن عنها، وأن الحرب قد تدوم أعواماً عدة، فالمطلوب من الجمهور تعبئة دائمة واطمئنان إلى صواب النهج القيادي للرئيس بوش. فلو أن صقور بوش جاؤوا بهذا الطرح قبل 11 أيلول، لاعترضتهم الاتهامات بأنهم يشنون حرباً وهمية على عدو نظري مبالغ به لتبرير انفاقٍ البلادُ والعالمُ بغنى عنه. ولكن أميركا ما بعد الحادي عشر من أيلول تختلف اختلافاً خطيراً عنها قبله. فالصقور اليوم يدعون، ووسائل الإعلام تستجيب، إلى توخي الحذر في نقل المعلومات، وتحت شعار الوطنية، تتجاوز الممارسة الإعلامية الرقابة الذاتية لتشارك في مناخ التعبئة والتحفيز والعسكرة والرضوخ المطلق لتصريحات المصادر الرسمية، من دون نقد أو اعتراض أو تشكيك. والمقلق أيضاً ان الإعلام المرئي والمسموع والمطبوع على حد سواء، أساء تصوير ردود الفعل على الفاجعة التي ألمت بالولاياتالمتحدة عبر الاقتضاب حيناً والتشكيك بصدق النيات أحياناً، وعبر اغراق الشاشات بصور الابتهاج في فلسطين، وهو اليوم يبالغ في رسم معالم "العدو" كماً ونوعاً، ليصبح دولاً عدة، جميعها إسلامية. وتأتي هذه المبالغة لتضاعف من المأزق الذي يجد العرب والمسلمون أنفسهم فيه في الولاياتالمتحدة. فالأجهزة الأمنية الأميركية انقضّت من دون هوادة على العرب في مختلف أنحاء العالم، واعتقلت المئات منهم وأودعتهم السجون رهن التحقيق، فيما لا تزال تطارد المئات غيرهم. ولا يمكن الاعتراض بالطبع على مسعى السلطات الأميركية لاكتشاف المتآمرين ولا يمكن الإنكار، على أساس التحقيقات، ان الخاطفين عرب، وأنه على الأجهزة الأمنية منع حدوث عملية إرهابية أخرى. لكن صرامة الاسلوب الذي تلجأ إليه هذه الأجهزة يتجاوز روح الأعراف المتبعة، وإن تقيّد في معظم الأحيان بشكلها. إذ يجري التوقيف مثلاً لمخالفة سير أو عدم انتظام الأوراق الثبوتية أو لتشابه في الأسماء، فيما يفسح المجال أمام وسائل الإعلام لترويج خبر الاعتقال وكأن السلطات نجحت بتفكيك الشبكة الإرهابية. وازاء الشحن الإعلامي المتواصل، يكفي العربي أن يكون قد تغيب عن عمله يوم الاعتداء أو في الأيام التي تلته ليصبح موضوع شبهة واتهام، فيلقى القبض عليه وتتداول وسائل الإعلام اسمه وصورته ويهرع زملاؤه إلى التبرؤ منه ومراجعة ما بدر منه من تصرفات "مريبة". وفي حين أن نبأ إلقاء القبض يتصدر الصحف ونشرات الأخبار، فإن نبأ اخلاء السبيل يضيع في زحمة الأنباء. إذاً، وبعد سنوات طويلة من التحضير الذي ساهمت فيه الثقافة الشعبية التي وضعت العربي المسلم في خانة "الآخر" البغيض، لا سيما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، باتت النتيجة أن العداء للعرب والاعتداء عليهم وعلى من شابههم من الهنود والهيسبان يكاد أن يصبح آفة واسعة الانتشار. وقرابة النصف من الأميركيين يحبذ الزام العرب والمسلمين من المقيمين والمواطنين على حد سواء، من دون غيرهم، حمل أوراق ثبوتية رسمية لتأكيد عدم ضلوعهم بالإرهاب، هذا فيما البرامج الاذاعية التي تقدم للمستمعين فرصة التعبير عن آرائهم أصبحت مرتعاً للمبالغات والاشاعات والدعوات إلى اجتثاث هذا الشر المتربص بالأميركيين "والذي يقيم بيننا ويرتدي ملابسنا ويتظاهر باللطف والمودة، فيما يضمر لنا الموت والأذية". وتكشف هذه البرامج أن الجمهور بشكل عام ليس في وارد الاستماع إلى الرأي والرأي الآخر، بل تنشط الحملات لمعاقبة الأطراف الإعلامية التي تفسح المجال أمام هذا الرأي الآخر.لكن لا بد من التنويه بأن الأصوات العاقلة ليست غائبة على رغم استفحال هذا الهلع الطائش. وفيما هامة معظم الأميركيين تنادي "اسقوني اسقوني"، تنقل بعض وسائل الإعلام دعوات سلام عن بعض المفجوعين، مثل والد شاب سقط ضحية الاعتداء وزوجة رجل جعل منه الخاطفون الانتحاريون جزءاً من قذيفتهم الحية، يأملون فيها أن لا تتكرر فاجعتهم في بلاد أخرى ارواء لظمأ الثأر. كما أن الجامعات تشهد نشاطاً طلابياً يدعو إلى اعتماد الحلول السلمية ويؤكد رفض التجنيد الاجباري، إلا أن هذه الأصوات ما زالت قليلة. يعاني الخطاب الفكري في الولاياتالمتحدة في مرحلة ما بعد الحادي عشر من أيلول من اشكالية خطيرة عائدة إلى تفاوت بين المبادئ التي يؤكد هذا الخطاب أن الولاياتالمتحدة وجدت لتجسدها، وبين الممارسة الفعلية التي تنحدر نتيجة للاعتداء والمخاوف المترتبة عنه. وتكشف التجربة التاريخية الأميركية أن الجمهور الأميركي يتوجه في الأوقات العصيبة إلى رئيسه لاستلهام المواقف، فلا يفيد الخطاب الفكري اليوم أن الرئيس الحالي، على رغم الإثناء الالزامي الذي يغدقه عليه الجميع، توصل إلى صيغة خطابية متكاملة تقاوم التحول التدريجي الطارئ الذي تشهده الثقافة السياسية الأميركية من الانفتاح والاعتدال إلى الصورة القاتمة التي تنسبها هذه الثقافة إلى أعدائها. فعلى رغم الضرر الفادح الذي ألحقه الهجوم الارهابي باميركا، فإن هزيمتها ليست بأعداد الضحايا ولا بالأموال المهدورة وحسب، بل أيضاً بأن يتبدل خطابها السياسي ليصبح مرآة للخطاب السياسي المتزمت المعادي. فالمجتمع الأميركي يشهد اليوم محنة لا سابق لها. وخروجه منها رهن باستيعاب مخلفات الهجوم وتجاوزها مع تقليل الضرر الناجم عنها إلى أدنى حد. واستقرار العالم أجمع رهن بخروجه منها.