1 - مَطْلع: "في قريتنا فقط ما زال في إمكاننا أن نرى الماء ينساب في حنجرة: أي قوس قزح أحمد أبو دهمان - الحزام - دار الساقي ص 75. 2 - الاستعانة على الذاكرة بالشعر: لا يستعيد أحمد أبو دهمان قريته المتسربة، من كتب التاريخ، ولا من ذاكرة حديد، بل يستعيدها من ذاكرته التي غلفت كل ما فيها القرية بغلالة بيضاء، لا تبصر من خلالها الأشياء بل تموجات الأشياء. لقد استعان على قريته الضائعة، المتفلتة من ذاكرته، بالشعر، حتى يجوز له ما لا يجوز لغيره في وصفها، لتكون القرية/ الانثى، التي تقف على قمة جبل، فاردة شعرها للريح، تغتسل بالمطر، وتعرض جسدها العاري - حتى تجفّ - للشمس الدافئة على قمم السروات، غير آبهة بعيون العابرين... انبث الشعر في جسد الرواية، ليوالف بين متنافراتها، ويسوِّغ ما بدا غريباً عن عالم القرية هنا، وليجعله أليفاً، بل ومطلوباً في القرية/ المجاز، منظوراً اليها، بمنظار شعري، لا يرى المعالم، بل يرى انعكاساتها، وظلالها الخارجة عبر ثقوب ذاكرة ضاقت بما تحمل... مرَّ الراوي/ الشاعر بقريتين: قرية، على سبيل الحقيقة، عاشها، وعاشته، طفلاً... وقرية، على سبيل المجاز، كتبها، وكتبته، كبيراً... قرية أطلقته من شرفة من شرفاتها... وقرية استدعاها من مخيلته، وأعاد صوغها - شعراً لتتلاءم مع مكانه، وزمانه الجديدين، الباحثين عن الغرابة، والدهشة هناك هنا حيث الشرق الذي لا يزال يزداد كل يوم غموضاً وشعراً... كيف يمكن أن تكون المدرسة حرية، وهو لم يشتك أبداً من ظلم الحقول، ومن قسوة الجبال؟! ثم كيف - وقد أحب المدرسة - أن يحب "حزام" الذي يكره المدرسة؟! كيف يستطيع أن يكتب عن "قلم" صديقه، بكل تلك الحرارة، ذلك "القلم" الذي قادهما الى النجاح، "القلم" الذي أغدق عليهما، اثناء دراستهما، لينجحا، وليخفق صاحبه... فيما هو لا يستطيع أن يعير صديقه الذي جفّ قلمه القليل من الحبر، ولماذا؟ فقط لأنه يريد أن يلتزم بنصيحة حزام: "شرف الرجل في حفظه لذكره وماله، وشرفكم شرفنا كلنا" ص 99. من يكون "حزام" هذا الذي يمنع شاباً في مقتبل عمره، من الكتابة بقلمه، وهو في أشد الحاجة اليها؟!! "حزام" لا بد من أن يكون صورة شعرية... لا بد من أن يكون مجازاً، حتى لو كان له نسبٌ أصلي في الحياة... لذلك كان "حزام" الأصلي يحتضر حين كان الكاتب يصحح بروفات روايته... وحين أطلّ حزام / الصورة... حزام/ المجاز، وأصبح حقيقة كائنة في كتاب، كان حزام الأصلي قد مات... ليترك لحزام الآخر الفرصة في أن يحيا... فيما لا يمكن أن يعيشا معاً في اللحظة نفسها!! ندخل الى الرواية، الى قرية "أحمد أبو دهمان"، لا لكي نبحث عن الشجرة، بل عن ظلالها! لا لنصل الى المرأة الحقيقية، بل المرأة الأغنية:"أختك أغنية، كيف يمكن أحداً أن يضرب أغنية؟" ص 50. لا لنتعرف على "حزام" بل لنرى انعكاس صورته على سطح مياه "السّين" المتحركة!! لا لكي نجد القرية، بل تشكيلاتها في خيال شاعر مجنون، علّقها فوق الغيم حتى "لا يسقط المطر كعادته، بل يصعد"!! بعد أن تحدث عن "حزام" تحدث عن أمه، قائلاً: "كانت تقول إن احدى مآسي الانسان الكبرى هي انه لا يمتلك عنقاً طويلاً مثل عنق البعير، يسمح له بمراقبة الكلمات وتنظيفها قبل أن تخرج من فمه لكن بعضها أكثر خطورة من الرصاص" ص 54. وفي المقطع الذي يلي هذا المقطع مباشرة يستدعي إحدى أساطير القرية: "إحدى اساطير القرية التي يتداولونها الى اليوم، تقوم على أن الشاعر الحقيقي هو الذي يوقظه الجن في عز النوم ثم يسقونه حليباً ممزوجاً بالشعر فيصبح شاعراً" ص 54. ان الراوي هنا يستعير تقنية شعرية ربما بوصفه بدا شاعراً ليكتب المقطعين، فإذا كانت العلاقة المنطقية تنتفي هنا، بين المقطعين المتتاليين، فإن العلاقة الشعرية باقية... العلاقة هي علاقة شاعر بكلماته، أكثر منها علاقة راوي بشخوص وأمكنة وأزمنة... وهمُّه الشاعر في ذلك أن يعثر على أكبر قدر ممكن من النُّصُب لكي يعزز بها الحضور الخرافي للبشر والحجر في الرواية... هَمُّهُ - أيضاً - أن يوقظ القرية النائمة في كهوف ذاكرته، ولن يستطيع ذلك إلا بالشعر... لذلك لم يكن يكتب عن القرية حين كتَبَ عنها!!! بل كان يكتبها، أو بالأحرى، يعيد كتابتها، أسوة بأسلافه: "عدت الى قريتي، تلك القصيدة التي كتبوها عبر آلاف السنين" ص 158. 4 - يموت "حزام"، ليحيا "حزام": ومن هذا الباب: باب الشعر فقط، يمكن الدخول الى عالم الرواية... وإذا لم نستطع أن ندخل من هذا الباب، كيف يمكننا أن نفسر بعض المتناقضات؟!... كيف يمكن أن يتشرّب الكاتب من الطبيعة: حجراً وبشراً، سماء وأرضاً تماماً مثل شجرة كل تلك الحكايات والأساطير... ثم يحتفل بالمدرسة، التي ليس لها فضل إلا أنها أعطته القدرة على الكتابة، كتابة القرية على الأوراق، وليس على الجبال كما كتبها الأسلاف؟!! وكما هو - على حد تعبيره - نُصُبْ أثري في فرنسا، عُمره أكثر من ألفين وخمسمئة عام: "كنت على يقين من أن الآثار التي أحملها على جسدي تفوق في عمرها وقيمتها العلمية كثيراً من آثارهم" ص 10. فهي - أي القرية - كذلك لا بد من أن تكون اسطورة، أن تحضر من الخرافة، مجللة ببهاء الشعر وخروقاته... لا بد من أن تعود، لا كما هي حقيقة، ولكن كما يجب أن تكون خيالاً وشعراً وغناء!! إذا لم تكن القرية صالحة للسكنى، فلتكن صالحة للكتابة... اذا كان علينا ألا نمر عليها إلا عابرين، فلا أقلّ من أن نقرأها، أو نكتبها... نمشي بمحاذاتها الى حدود الشعر والأغاني، نعيد خلط عناصرها: نأخذ أغصان الأشجار، ونحرضها كي تنمو على أكف النساء... نختلس قدود النساء، ونتوسل اليها كي تكون جذوعاً للأشجار... هكذا يعيد الراوي/ الشاعر القبض على قريته... لقد فَرّت، ولم يكن في وسعه الحصول عليها إلا بالخيال، الخيال الذي ينتقي، ويضخّم بعض الأجزاء، ويخفي بعضها الآخر... بالخيال الذي يجنح أحياناً، ولكنه الخيال/ الضرورة حتى نعيد ما انقطع من حبل سري ربطنا بالجبال، بالبيوت المتناثرة على قممها وأطرافها، تلك التي نسميها: القرى!! 5 - تقويض السرد: اختار الراوي، وهو ينظر الى القرية، زاوية الشعر... لذلك حين كتبها اعتمد على الدفقات الشعورية، لا على التسلسل المنطقي للأحداث ومسيرة الشخوص من خلالها... الفصول مجتمعة، وكذلك المقاطع داخل الفصول، تعتمد غالباً على الومض الشعري الذي يرتفع أحياناً، وينخفض أحياناً... والذي - قَدْ - يجعلك تفصل فصلاً على فصل، أو مقطعاً على آخر... تماماً كما تتعامل مع القصائد في ديوان، أو المقاطع الشعرية داخل تلك القصائد... * كاتب سعودي.