الكتاب: هوامش على تاريخ العراق السياسي: الآشوريون الكاتب: عبدالمجيد حسيب القيسي الناشر: مركز الموسوعات العالمية - لندن يقع في 332 صفحة من القطع المتوسط ويستهل بفصل في أصل الآشوريين وتاريخهم قبل نشوء دولة العراق ثم يتناول القضية الآشورية في العراق بشكل عام والملابسات التي احيطت بها ويحلل تحليلاً مفصلاً سياسة النخب الحاكمة تجاهها وأساليب معالجتها، بعد استقصاء وبحث ومناقشة الكتب والمراجع ومذكرات رجال الحكم والسياسة التي كتبت عنها. وعلى رغم ان الناشر ذكر أن الكتاب هو الطبعة الأولى 1999، إلا أن هذا غير صحيح، فالكتاب طبعه في 1996 في الولاياتالمتحدة المؤتمر القومي الآشوري من دون أي تغيير أو إضافات إطلاقاً، ونشر في حينه على نطاق واسع أيضاً. وعلى العموم وبغنى عن هذا وعن محتويات الكتاب، سواء اتفقنا معها أو اختلفنا، فإنه يعتبر إضافة أخرى وجديدة لجدول الكتب القليلة التي تبحث في مسألة الأقليات، وتحديداً مسألة الآشوريين في العراق. والكتاب الأجنبي الوحيد المترجم إلى العربية الذي اعتمده هو كتاب "العراق 1900-1950" لمؤلفه البريطاني ستيفن لونكرك الذي عمل في خدمة وزارة الداخلية العراقية أثناء تلك الفترة، وهو معروف بمواقفه وتعاطفه مع الحكومة العراقية حينذاك في هذه المسألة وظل "يحب العراق"، كما يدعي، حتى بعد تسريحه من الخدمة واعتكافه لانجاز كتابه الذي ظهر فيه عدم تأثره بالدماء الآشورية التي اريقت في سميل مثلما "تأثر" زميله لونارد ستافورد وأنبه ضميره لدوره في تعقيد الأحداث، فاستقال من منصبه كمفتش إداري في لواء الموصل التابع لوزارة الداخلية، أو بالأصح صُرف من مهمته بعد انتهائها بانتهاء مذبحة سميل، فعاد إلى أهله في بريطانيا ليكتب كتابه المعروف "مأساة الآشوريين" وتعذر على القيسي الاطلاع عليه وقراءته على رغم توفره. أما بالنسبة إلى كتاب رياض رشيد الحيدري. الذي اعتمده القيسي أساساً في اقتباسه للمعلومات، وأقر له الكثير من الفضل والامتنان كونه كتاباً جامعاً لتاريخ الآشوريين، ملماً بجميع أو أغلب ما كتب عنهم، فإنه، على رغم إشارة القيسي إلى السلبيات الواردة في هذا الكتاب، إلا أنه لم يأخذها مأخذ الجد في فهم تاريخ الآشوريين عندما اقتبس منه معظم معلوماته عنهم واعتمد عليه اعتماداً كلياً. وحتى نضع أمور هذا "المرجع الأساس"، كما يسميه القيسي، في نصابه الصحيح، نود أن نبين بشأنه ما يلي: أ - الكتاب في الأصل اطروحة جامعية من القاهرة، أهل انضمام الكاتب إلى حزب البعث الحاكم والحصول على البعثة الدراسية للكتابة عن هذا الموضوع ونيل الشهادة الاكاديمية عنه فهو، أي الكتاب، "ايفاء والتزام" من الكاتب تجاه فضل حزبه. ب - زار الحيدري في بداية السبعينات النادي الثقافي الآشوري في بغداد، مركز استقطاب المثقفين الآشوريين حينذاك، اثناء فترة جمع المعلومات وإعداد اطروحته وحصل على معلومات مفيدة لمشروعه العلمي، ثم تبين بعد انجازه بأنه خان الأمانة العلمية وزيّف الكثير من الحقائق وأخفى أو أهمل تلك التي كانت تتعارض مع منهجه البعثي في دراسة تاريخ الآشوريين في العراق. المرجع الآشوري اليتيم الذي اعتمده القيسي في كتابه هو مقالتنا المنشورة في جريدة "الشرق الأوسط" اللندنية عدد 5375 في 16/8/1993 والمعنونة ب"التعامل مع الأقليات في مسار تاريخ العراق السياسي" وكتبتها في الذكرى الستين لمذبحة الآشوريين في سميل. وحتى هذا المرجع البسيط لم يكن استخدامه موفقاً ومناسباً وإنما يبدو كأنه حشر حشراً في الكتاب ولم يتسق مع سياق الموضوع. لا بل عجز الكاتب حتى في كتابة اسمي بشكله الصحيح، إذ كرره مرات. بين اعتماد الكاتب اعتماداً كلياً على المراجع المعادية للآشوريين واغفاله المراجع الآشورية والمحايدة، أوقع نفسه في تناقض كبير يقوم على الايجاب والسلب. يتمثل جانب الايجاب في قدرة الكاتب على تحليل المراجع العراقية الرسمية المعتمدة، ومن ثم الوصول إلى نتائج موفقة في فهم السلوك السياسي للنخبة الحاكمة تجاه القضية الآشورية. أما الجانب السلبي لمحتوى الكتاب، فيتمثل في إخفاق الكاتب في فهم أصل وتاريخ الآشوريين وعجزه عن استيعاب جوهر المسألة الآشورية وفهم جذورها وإدراك أهدافها الحقيقية، لا بل وتجاوزه في أحيان كثيرة إلى حدود الإساءة والتجريح لهم ولتاريخهم ولزعامتهم الدينية والقومية، وهي نتيجة منطقية وحتمية توصل إليها الكاتب بسبب اعتماده الكلي على المراجع المعادية للآشوريين وإغفاله المراجع الآشورية والمحايدة، وهو الاغفال الذي لا يمكن قبول أعذاره لأنه يفقد الدراسة موضوعيتها ويحرفها إلى جانب واحد بعدما تكون فقدت أهم جوانبها المتمثل في الحس الآشوري. من هذا المنطلق نقول إنه لو توفرت للكاتب المراجع الآشورية والمحايدة واطلع عليها، لوجد بأن آشوريين اليوم يرتبطون بآشوريي الأمس بجملة صلات وروابط حضارية ولغوية وتراثية لا يزالون يمارسونها منذ أقدم العصور وحتى يومنا هذا، وليسوا مجرد "مجموعة قبائل مسيحية الدين ونسطورية المذهب"، كما يدعي القيسي، مقلداً بذلك معظم مفكري ومؤرخي تاريخ العراق الحديث، وهو الموقف الذي تبناه النظام السياسي في العراق بهدف تجريدهم من أصولهم القومية والتاريخية. فمن الظلم والجور والتجاوز على الحقيقة الموضوعية عندما يتم تحجيم تاريخ الآشوريين بتاريخ طائفة واحدة من طوائفه الدينية المتعددة، فمثله كمثل من يُعرف العرب بطائفة السنة أو الكرد بالطريقة النقشبندية... وهكذا. فمن المعروف أن الآشوريين، كغيرهم من الشعوب والأقوام، ينتمون إلى طوائف دينية مختلفة وإلى وحدات عشائرية اجتماعية متعددة. فلو اتيحت للكاتب فرصة السؤال أي آشوري كان، وهي فرصة كانت متاحة سيما أن الناشر الأول للكتاب آشوري معروف، لعرف أن معظم زعماء الحركة القومية الآشورية ومفكريها كانوا من طوائف غير الطائفة النسطورية كالطائفة السريانية الارثوذكسية والطائفة الكلدانية الكاثوليكية. ولو اطلع الكاتب على مرجع آشوري أو محايد يتناول الفترة الحرجة التي خلدت اسم الشهيد مار بنيامين شمعون بطريريك كنيسة المشرق قبل وأثناء الحرب الكونية الأولى، لصدم من الفرق الشاسع بين ان يكون هذا المغدور "رجلاً ضعيف الرأي والإرادة واهن العزم"، كما يدعي القيسي، وأن يكون الشهيد بطلاً من أبطال التاريخ الآشوري قاد شعبه في أصعب وأحلك الظروف وضحى بأخيه وبنفسه. أما المسائل المثارة في الكتاب مثل هجرة الآشوريين إلى العراق وانضمامهم إلى قوات الليفي ودورهم في ضرب الحركة الوطنية وغيرها من المسائل المكررة أيضاً لدى مؤرخي تاريخ العراق الحديث ومفكري النخبات الحاكمة في العراق. وتنم عن حقد وكراهية تجاه الآشوريين، فإنني كامل اليقين بأنه لو تسنى للكاتب الاطلاع على جزء يسير من الوثائق البريطانية الضخمة التي تناولت هذه المسائل بشكل مفصل ودقيق، لكان توصل إلى قناعات أخرى تخالف مخالفة كبيرة تلك التي توصل إليها، ولأكتشف أن الآشوريين لم يهاجروا من تركيا إلى العراق، بل إن القسم الأعظم منهم كان يعيش ولا يزال في المناطق التي أصبحت عراقية بعد رسم الحدود بين العراقوتركيا. وحتى الآشوريون الذين "نزحوا" من منطقة هيكاري التي أصبحت ضمن أراضي تركيا بعد رسم الحدود، فإنهم لم ينزحوا من تركيا إلى دولة العراق التي لم تكن قائمة في تلك الفترة، بل انهم انتقلوا، أو بالأحرى، هُجروا بسبب الحرب والاستبداد، من منطقة إلى منطقة أخرى ضمن بلاد كانت تعرف ب"بلاد ما بين النهرين"، موطنهم الأصلي، وكان خاضعاً للدولة العثمانية قبل تأسيس كيان العراق ثم أصبحوا ضحية للمناورات السياسية الخبيثة وثمناً لتسويات الحدود التي تمت بين بريطانياوتركيا لمصلحة ضمان حدود كيان العراق الفتي، نتيجة ذلك تحولوا إلى "أقلية وافدة" حسب المفهوم العراقي السائد عن الآشوريين، وهو المفهوم الذي لو تم تطبيقه على بقية العراقيين لوجدنا بأن ملك العراق المغفور له فيصل الأول وأبناءه وأهله أقل عراقية من الآشوريين الهيكاريين، وان قسماً كبيراً من عشائر سكان العراق الجنوبي والشمالي نزح إلى العراق واستقر فيه بعد تأسيس كيانه السياسي، فهل يجوز ان ننعته بشعب وافد إلى العراق؟! أما مسألة قوات الليفي "المرتزقة" فهي الأخرى مسألة عويصة ومعقدة يفتح التطرق إليها صفحات سلبية ومؤلمة في تاريخ العراق الحديث، لا يملك الكثير من المؤرخين العراقيين الشجاعة الأدبية الكافية لمناقشتها مناقشة موضوعية، كما هي موثقة، ذلك لأنها ستكشف بكل وضوح أن قوات الليفي العربية والكردية هي التي ساهمت في ضرب ثورة العشرين في العراق، وفي قمع تمرد شيوخ العشائر، وان الآشوريين في تلك الفترة كانوا منهكين مشردين في مخيم بعقوبة للاجئين لا حول لهم ولا قوة، وأنهم لم ينضموا رسمياً إلى هذه القوات إلا بعد تأسيس الحكومة الوطنية والجيش العراقي وتسريح قوات الليفي العربية والكردية وانضمامهم إلى الجيش الجديد. وفي الكتاب مغالطات لا تخرج عن الإطار التقليدي في فهم المسألة الآشورية ومنها موقف الانكليز المساند لأغا بطرس، وهو قائد القوات الآشورية أثناء الحرب الكونية الأولى، ولمشروعه السياسي في إقامة كيان آشوري شامل لجميع الطوائف الآشورية في شمال بيت نهرين. فالعكس هو الصحيح، فالانكليز كانوا يمقتون اغا بطرس مقتاً شديداً ولأسباب مختلفة، منها مذهبية، لأنه كان كاثوليكياً ولأن الانكليز كانوا يخشون جداً انضمام الآشوريين إلى الكنيسة الكاثوليكية. ومنها ثقافية، لأنه كان فرنسي الثقافة والتوجه والميول. ومنها سياسية، لأنه كان عارفاً بحيل وألاعيب الانكليز تجاه الآشوريين من جهة، وملماً بفنون لعبة المساومات السياسية بين الدول العظمى حينذاك، خصوصاً بريطانياوفرنسا وروسيا من جهة أخرى. وهذا ما كان يزعج الانكليز ويزيد قلقهم تجاه ذكائه وفطنته وتجاه طموحاته القومية. صحيح ان الانكليز أظهروا في البداية تأييدهم لمشروع اغا بطرس، لا لشيء، إلا لاستغلاله لضرب الحركة الكردية وضمان حدود العراق الشمالية من أطماع تركيا، غير أنه بعد قرار مؤتمر القاهرة 1921 والقاضي بتأسيس دولة عربية في العراق ونصب الأمير فيصل بن الشريف حسين على عرشها، انقلب الانكليز على اغا بطرس لأن مشروعه كان يتناقض مع قرار مؤتمر القاهرة، لذلك حاربوه وأفشلوا مشروعه. وازاء اصرار اغا بطرس على النضال لتحقيق مشروعه، دبر الانكليز قراراً لنفيه من العراق إلى فرنسا، فلم يهرب، كما يدعي القيسي في كتابه، وعندما تصاعدت وتائر الحركة الآشورية في العراق في بداية الثلاثينات وازدادت حال التوتر مع الحكومة العراقية ومستشاريها الانكليز، حاول اغا بطرس العودة إلى العراق، إلا أن القنصلية البريطانية في مدينة بوردو الفرنسية رفضت ذلك. غير أنه بعد أيام وُجد ميتاً في أحد شوارع مدينة تولوز الفرنسية في ظروف غامضة ومثيرة للتساؤل، وجهت أصابع الاتهام في حينها إلى الانكليز وأعوانهم لتقول إنهم دبروا أمر تسميمه وقتله. أما بالنسبة لمواضيع مشروع إسكان الآشوريين والتفاصيل المتعلقة بالحركة الآشورية لعام 1933 وزعمائهم ومن ثم رفضهم مشروع الإسكان، فهي مسائل تتطلب صفحات طويلة لإبداء الملاحظات عليها، إلا أننا نؤكد أن ما أورده الكاتب فيه الكثير من المغالطات، رددها غيره من المؤرخين العراقيين. فمن الحقائق الموثقة في ارشيف عصبة الأمم في جنيف بهذا الشأن تبين أن توصية مجلس العصبة في جلسته الرابعة عشرة في 15/10/1932 كانت تقضي بإسكان الآشوريين في وحدة اجتماعية متجانسة كأساس للحفاظ على تراثهم وتقاليدهم، غير ان اللجنة الثلاثية التي شكلتها عصبة الأمم بخصوص مشروع الإسكان، وبتأثير من الانكليز، تبنت قراراً مخالفاً لذلك، يقضي بإسكان الآشوريين "النازحين" من تركيا في مجموعات أو أقسام مختلفة ومتباينة، ما سبب امتعاض الآشوريين ورفض هذه الصيغة لقرار توزيعهم على أراضٍ متباعدة، وتبينت في ما بعد أنها أراضٍ جرباء موبوءة بالأمراض المعدية، فكان هذا السبب الرئيسي الذي دفع زعماء الآشوريين إلى رفض مشروع الإسكان بصيغته العراقية - الانكليزية، وليس السبب الذي أورده القيسي في "طبع الآشوريين المشاكس وافتقاد زعمائهم الحس التاريخي في تفسير الأحداث وتغليب التطرف والعناد على العقل والاعتدال". لا بل على العكس من هذا تماماً، فزعماء الآشوريين كانوا يملكون الحس التاريخي والمنطقي في تفسير الأحداث، خصوصاً في تفسير سلوك النخبة الحاكمة ونوايا الانكليز في التخلص من الآشوريين وفي قمعهم و"تأديبهم"، بعدما توضحت سياستهم في العراق. فلو تسنى للقيسي أن يطلع على الكتب التي كتبها هؤلاء الزعماء أمثال مار شمعون ايشاي وماليك ياقو اسماعيل، لأدرك أن نظرتهم إلى مجريات الأمور كانت صحيحة، وان مخاوفهم كانت مشروعة، تلك المخاوف الناشئة من ترك الانكليز سلطة البلاد بيد نخبة سياسية متعطشة للسلطة همها الوحيد مواصلة تلك السياسة الاستبدادية التي بدأتها عندما كانت في خدمة الجيش العثماني، وهي المخاوف التي كانت تؤكد أن الكارثة لا محال واقعة بالشعب الآشوري، سواء أكانت الكارثة على الفريق المؤيد للحكومة العراقية ومشروعها الإسكاني، أم كانت على الفريق الرافض له، وتحققت فعلاً عندما ازهقت أرواح أكثر من ثلاثة آلاف آشوري في سميل عام 1933 من دون أي تمييز بين هذا الفريق أو ذاك، وهي الحالة التي عجزت النخبة السياسية في العراق ومفكروها عن فهمها، ولا يزال الكثير من الكتّاب والمؤرخين العراقيين، ومنهم كاتبنا القيسي، عاجزين عن فهمها.