في ضوء التطور الخطير الناجم عن تصاعد العنف الدموي الاسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، عبر الاستخدام الواسع للقوات العسكرية في قصف المدن والبلدات والمخيمات الفلسطينية، واغتيال كوادر وناشطي الانتفاضة تنفيذاً لقرار مجلس الوزراء الامني المصغر بقيادة رئيسه ارييل شارون، يتضح امام الجميع ان "التبريد" عند شارون هو "تسخين" دموي فعلي ضد الفلسطينيين، كما يعني ايضاً شن حرب شعواء لانهاء الانتفاضة وتوسيع المستوطنات وزرع 66 مستوطنة جديدة منذ شباط فبراير 2001، ومنع وزير الدفاع بن اليعيزر نفسه من تفكيك 16 من مستوطنات الشارع على رغم قرار المجلس المصغر الذي قرر الموت للفلسطينيين! بات الوضع يمر عبر منزلقات اكثر خطورة تتطلب من الشعب الفلسطيني، سلطة ومعارضة، تأكيد الوحدة على الارض في ميدان الانتفاضة، والعودة الى نداء الانتفاضة ووقف الخطاب السياسي المزدوج الذي يزرع الارتباك بين صفوفها، كما يتطلب من السلطة في الوقت نفسه التعاطي الحذر والواضح مع الحركة السياسية التي تقوم بها القوى الاقليمية والدولية النافذة وتتسارع حركتها من حين لآخر من دون اي فعل ملموس لوقف العنف الاسرائيلي ضد شعبنا. لكن، للاسف أصبح التخبط العربي عموماًً والفلسطيني خصوصاً سيد الموقف في الخطابين الاعلامي والسياسي، في حين تتوحد القوى الميدانية الفلسطينية على الارض، قوى الانتفاضة الوطنية والديموقراطية والاسلامية، مع امتلاكها موقفاً واضحاً ازاء كل ما تم طرحه من المبادرة المصرية - الاردنية الى تقرير ميتشل وصولاً الى ورقة "السمّ الزعّاف المغلّف بالسلوفان" ورقة رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية المعروفة باسم "ورقة تينيت"، وبيان "وقف اطلاق النار غير المشروط" بتنفيذ العناصر الرئيسية لتقرير لجنة ميتشل وقف الاستيطان، فك الحصار عن الارض والشعب، حلول سياسية على اساس قرارات الشرعية الدولية، ارسال قوات دولية للارض المحتلة. يخلق هذا التحول اليومي في الحركة السياسية الجارية والانتقال من مشروع الى آخر ادنى مما سبقه تراجعات في صفوف السلطة الفلسطينية، عدا عما يسببه من احباط وسوء تقدير وخلط للامور داخل الشارع الشعبي الفلسطيني بين صفوف الانتفاضة والشتات، كما انه يسهّل على بعض عربنا التملص والتحلل من كل ما هو مطلوب منهم تجاه دعم الانتفاضة والشعب الفلسطيني وفقاً لقرارات قمتي القاهرة تشرين الاول/ اكتوبر وعمان آذار/ مارس العربيتين. وعلى رغم مواقف عربية متعددة، وفي مقدمها تصريحات الامير عبدالله بن عبدالعزيز والرئيس حسني مبارك التحذيرية لشارون من مواصلة حرب تطويق الفلسطينيين واغتيال ناشطيهم ومدّ الحريق الى لبنان وسورية ومحاولة شارون ارتكاب "الخطأ القاتل" بحسب تعبير ولي العهد السعودي، فقد أطلت علينا بعض المبادرات العربية الهادفة لتجسير الهوة مع حكومة شارون. ففضلاً عن ان هذه المبادرات راوحت مكانها لانها لا تملك مقومات النجاح وسببت تراجعاً خطوة الى الوراء ولم تؤثر قيد انملة في وقف العدوان الاسرائيلي المتواصل على شعبنا شكلت عامل اشغال وتعطيل وتفكك سياسي على المستوى العربي بدلاً من توحيد الجهود العربية خلف الانتفاضة والمقاومة الوطنية وضرورة استمرارها، ومراكمة خطوات انتزاع الشرعية العربية والدولية لها، كما حصل مع المقاومة في جنوبلبنان تفاهم نيسان /ابريل 1996 بعد حرب عناقيد الغضب من اجل الوصول الى اهدافها التي اعلنت عنها في الحرية والاستقلال. ويلاحظ الآن بوضوح كيف يتم الهبوط والانتقال المتدرج نحو الادنى، من المطالبة بتنفيذ تفاهمات شرم الشيخ، الى ورقة تينيت، الى اقتراحات باول، والتحايل على تقرير لجنة ميتشل وتحويله الى خطوات الى الوراء ب"التوالي" وليس ب"التوازي" باعتباره رزمة واحدة، ووضع مرجعية اسبوع "وقف اطلاق النار" الذي اصبح اسبوعين ثم ثلاثة اسابيع و... بيد شارون الذي يسبقه تاريخه. وأنتج مسلسل التداعيات هذا حالاً من التعويم في السياسة الفلسطينية السلطوية، إضافة الى غرق متزايد في اللعبة التكتيكية المؤذية، لأنها استبدلت الوضوح المشروع بلعبة غامضة لا علاقة لها بالجهد المطلوب من اجل فرض استحقاقات الشرعية الدولية ومرجعيتها، وتوحيد الضغوط لعزل شارون باعتباره "مجرم حرب" باتجاه التعجيل برحيل حكومته ومتابعة حصار السياسة الاسرائيلية الرافضة منطق سلام الشرعية الدولية. ولنلاحظ جميعاً، نحن الفلسطينيين والدول العربية، تهديد بيريز، "زعيم مذبحة قانا" وعناقيد الموت، علناً بالاستقالة قبل أسابيع، لأنه لم يعد يحتمل سياسة الموت الشارونية تمهيداً لتنفيذ "هجومه الشامل الجاهز التخطيط". ولنلاحظ أيضاً ادانة كولن باول وزير الخارجية الاميركي، وكوفي انان الامين العام للامم المتحدة، والاتحاد الاوروبي سياسة الاغتيالات الشارونية. ان صمود الانتفاضة في شهرها العاشر، وتحمّل الشعب الفلسطيني كل المصاعب والآلام وتقديمه التضحيات أفرز تفاعلات دولية ايجابية، بينما الازدواجية في خطاب السلطة الفلسطينية وبعض الاوضاع العربية المتخلفة العرجاء التي لا تقوى على اللحاق بركب ما يحصل وعاجزة عن تنفيذ قرارات قمتي القاهرة وعمان، تسهم بإجهاض اي تفاعلات دولية ايجابية لصالح الفلسطينيين. وتفرز السياسة الانقسامية لمعظم الدول العربية ولجان التبرعات الشعبية للانتفاضة حالاً مأسوية تتمثل بعدم وصول الاموال التي تجمع باسم الانتفاضة الميدانية الى القوى الميدانية والقاعدة العريضة من الانتفاضة، من مئات آلاف العاطلين عن العمل، إضافة الى الشهداء والجرحى والاسرى والمستشفيات والجامعات ...الخ، وارسال الدعم والاموال الى فئات قريبة من هذه العاصمة العربية او تلك، لاعادة ربط اوساط في الانتفاضة بالمحاور والعواصم العربية. وستؤدي هذه السياسة الخطيرة الى زرع اليأس في صفوف قطاعات من الانتفاضة، كما قد تتسبب في تفكيكها بدلاً من دعم القيادات الميدانية وآلياتها المتصلة بكل قطاعات الشعب ومؤسساته الاجتماعية المنتفضة. من جانبنا عملنا، ولا نزال، في صفوف الشعب وقلب الانتفاضة، على توضيح هذه السياسة الوطنية/ القومية، ووضع كل المعلومات التي بحوزتنا أمام شعبنا وقوى أمتنا وشعوبنا العربية، وقوى السلام والديموقراطية في العالم. فقد ولّى الى الابد زمن تغييب الشعوب وطبخ الصفقات من وراء ظهرها. فالهدف هو عدم عودة شعب الانتفاضة والمقاومة الى اخدود نفق سياسة اوسلو المسدود، واخدود المحاور والتقسيمات العربية لتفكيك القيادة الميدانية المشتركة. ومن الضروري جداً التعاطي بوضوح مع الحركة السياسية الدولية ونشاط المبعوثين والرسل، من بيرنز الى سولانا مروراً بموراتينوس فالوفد الروسي، واخيراً كولن باول، لأن الحقوق الوطنية لشعبنا موضع اجماع دولي كما ان ادانة الاحتلال والاستيطان موضع اجماع دولي ايضاً. لذلك من الخطأ التكتيكي والاستراتيجي ان نضع انفسنا داخل لعبة الغموض وعمى ألوان تفاهمات شرم الشيخ والعودة الى ما قبل 28 أيلول سبتمبر 2000، بينما نملك الموقف الدولي المتفهم لقضايانا العادلة. وفي كل الحالات، يجب الأخذ في الحسبان الوقائع السلبية في الحركة السياسية التي لخصت كل ما يجري داخل فلسطين باعتباره "دوامة عنف" فقط وليس حركة نهوض وطني لشعب تحت الاحتلال يواجه القمع بأبشع اشكاله، بل ان "ورقة تينيت" تعاطت مع الامور على قاعدة أمنية فقط، ونظرت الى الانتفاضة كظاهرة امنية بعملية مسخ بشعة. فقد تحول النضال الوطني التحرري الفلسطيني، في عرف هذه الورقة، الى "حال امنية منفلتة" يتم ضبطها من خلال اجراءات محددة على الارض عنوانها "وقف العنف الفلسطيني" مقابل فك الحصار الاسرائيلي الجائر عن الارض الفلسطينية وعودة قوات الاحتلال الى خطوط 28/9/2000. * الامين العام للجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين.