اعتقد ان غسان العطية انتقائي وتجميعي، آراؤه تنتمي الى حقبة ما قبل اكتمال الأدوات لدى الكتّاب الذين يتصدون عادة للتنظير، خصوصاً لقضية معقدة مثل قضية العراق، وهو بناء عليه يضيف في كل مرة غموضاً بقدر ما ان جهده التجمعي الآخر "الملف العراقي" الذي يواصل اصداره، يوضح. لكن التجميع لم يسبق ان كان مصدر ايحاء لسلوك سياسي، على الأرجح، الانتقائية، تفعل. وهذا ما نراه في مسار هذا الكاتب الذي لمنأت هنا لكي نجمله عبر موقفه الراهن، فهو ليس ما كان عليه بالأمس، وتجزئته هي الوسيلة الوحيدة لانصافه، ها هو اليوم ايديولوجي ينطق عن المدرسة الغربية، ومن هنا ويا للعجب، على مثل هذه الأرضية، يريد ان ينتقد العرب ويؤاخذهم على تقصيرهم في النظر بعين التأييد الجدي للمظالم التي يتعرض لها العراقيون على يد نظام الحكم القائم في العراق. دعونا من القضية التي يعتبرها العطية محور مقالته "الحياة" عدد يوم الجمعة 7 أيلول سبتمبر الجاري والتي هي في العادة افتتاحية ملفه الشهري، فهو أصلاً ليس بكاتب مواظب، فالعتب على العرب الذين يسعون تباعاً للتقارب مع صدام حسين ويرفعون صوره في التظاهرات، يمكن ان يطرح من زوايا عدة، منها هذه التي يختارها هو والتي تقول صراحة وبلا لبس: "البعض من الأخوة، العرب، ينصح العراقيين المناهضين للديكتاتورية، بعدم التعاون مع الأجنبي، لأن العراق باق وصدام زائل، مفترضاً رغبة الأجنبي في زوال العراق، ناسياً ان الفضل في خلق العراق بحدوده الحالية وحدة الولايات الثلاث البصرة، بغداد والموصل يعود الى "الأجنبي" لا حباً بالعراقيين ولكن مصلحة بريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى كانت تقتضي ذلك، في وقت تقدم اعيان البصرة بعرائض مضابط مطالبين بريطانيا بعدم ضم ولاية البصرة للدولة الجديدة، كما رفض اكراد الشمال اخضاعهم لهيمنة عرب العراق". والكاتب هو حامل شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية من احدى الجامعات البريطانية على أطروحة محورها "نشأة الدولة في العراق" هذا حدث منذ سنين طويلة. في هذا النص كما قرأتم ورد ما يلي: "ناسياً ان الفضل في خلق العراق بحدوده الحالية وحدة الولايات الثلاث البصرة، وبغداد، والموصل يعود الى "الأجنبي" وكلمة "خلق" كما ترون واضحة لا لبس حولها وهي على أقل تقدير ستعطي كل من يقرأها انطباعاً بأن العراق كان قبل ذلك مجرد ولايات ثلاث البصرةوبغداد والموصل لا جامع يجمعها ولا صلة تصل بينها، وان "الخالق" الأجنبي قد بادر من وحي مصالحه وخياله فخلطها ليصنع منها شيئاً لا سابق له ولا وجود وحتى على خلاف ارادة أهل البلاد أنفسهم. وهذه مسألة ما تزال تتداول منذ ان ثبتها للمرة الأولى الضابط الانكليزي فيليب ويرلند في كتابه عن تطور العراق السياسي، مكرساً المنظور الاستشراقي الاستعماري للتاريخ، وتاركاً مؤيدي بعض العراقيين يرددون من بعده مقولة خرقاء، من المذهل ان تكون ما تزال قابلة لأن يرددها أحد، لا بل يرددها بأثر رجعي، فوراء العودة الى كلام من هذا القبيل، يرفع السيد العطية لواء نموذج في الحكم يقارن به نموذج حكم صدام حسين، وبشكلانية بحتة يجرد لنا السيد العطية سير الوقائع والأحداث والمواقف محولاً اياها الى تخطيطات ذهنية. وإذ تعزل هذه عن سياقها، لا نعود نضع أيدينا على شيء من دلالتها. من 1921 الى 9331 حكم الملك فيصل ومن 1979 الى 1991 حكم صدام حسين ربما يكون صدام حسين هو أسوأ الحكام في التاريخ لكنه ما زال يحكم وقد يحكم طويلاً. - من يدري ومن يعرف أي مآل سينتهي اليه قبل ان تجوز محاكمته، أو مقارنة حصيلة ما يزيد بقليل، على نصف فترة حكمه 1979 - 1991 فقط لا غير بفترة حكم فيصل المنتهية والمتروكة لذمة الماضي - إلا متعسف، إذا وجد في الوقائع ما يخالف ميله الذهني، قطعها بالسكين، بالنسبة إليّ لا أملك من ذنب أرميه في رقبة فيصل الأول الذي جاء ليحل أزمة واجهها الانكليز في حكم العراق، غير ما نجم عنه لاحقاً، فصدام حسين هو من الناحية التاريخية والواقعية نتاج التأسيس الذي يقف فيصل الأول في مقدمته، ممتطياً جواده العربي الأصيل، وقد اختار محاولة انتهت به وهو يردد عليلاً ومحاصراً بعيون الانكليز وضعطهم: ان تجربته قد فشلت وان حكم العراق مستحيل ليراجع العطية الصفحات التي كتبها فيصل بهذا الخصوص وهي مثبتة نصاً في تاريخ الوزارات للحسني، والسبب ان تلك الدولة التي أراد الانكليز اصطناعها كانت غير ممكنة ولم يمض عليها سوى الفترة التي ذكرها العطية ثم بدأت تنفجر لأن العراق لا يمكن أبداً "خلقه" وهو يفرض وما يزال قانونه الخاص المطابق لصيرورته. يعود لفظاعة حكم صدام حسين وما سبقه من اضطراب وعنف عمّ تاريخ العراق على مدى العقود الأربعة الماضية الفضل في انتعاش احلام ميتة، لا أساس لها، ففرضية الديموقراطية والاستقرار التي يتحدث عنها الأوفياء لفترة الحكم الملكي لم تكن على الإطلاق أكثر من ترتيب براني، والجهلة بمقومات الدولة الحديثة يمكن ان يخطر لهم تشبيه السلطة البرانية التي ركبها الانكليز من أعلى وبوسائل مصطنعة وفوقية بالدولة الوطنية الديموقراطية الحديثة التي هي حكماً نتاج التحرر الوطني وتعبير موافق للنصاب الاجتماعي. وأهم ما امتازت به تجربة العراق الحديث هو الفشل السريع الذي أصاب تلك المحاولة المجافية الى أقصى حد ممكن لطبيعة العراق. يقول الانكليز ومعهم كل تلامذتهم السياسيين والفكريين بأنهم هم الذين "خلقوا" العراق الحديث، وتقول الحقائق ان الصيغة التي أراد الانكليز فرضها على العراق في صورة دولة حديثة "مزورة" و"برانية" فشلت وتفجرت بعد عقد من الزمن وظلت تعيش اضطراباً لا ينتهي الاستقرار كان معدوماً والوزارات ما تلبث ان تقوم حتى تتغير - وصل عددها الى ما يزيد عن خمسين وزارة في حوالى سبع وثلاثين سنة، وسرعان ما عمت الانقلابات العكسرية - انقلاب 1936 هو الأول من نوعه في العالم العربي، وربما في العالم الثالث كله كما يقول زكي خيري على الأقل، وهو ما لم يتسن لي التثبت منه - تبعته قرابة ثمانية انقلابات، وعمت البلاد الانتفاضات والاضرابات في الريف والمدن متخذة وتيرة من الاستمرارية وحدة الاستقطاب والجذرية ما يصعب العثور على مثيل له، ناهيك عما كان يقابل هذا كله من سوء الأحوال العامة - كان متوسط عمر الفرد يقرب من الثلاثين سنة، وتركز الملكيات الاقطاعية رهيب، لا يشبهه أي تركز سوى ما كانت تعرفه الصين القديمة، والفقر لا يوصف... وكل هذا لا يسقط القول العادي، ألم تكن "الدولة الحديثة" تنطوي على احتمال حل على المدى البعيد... هذا ادعاء ينطبق على كل حالة من دون استثناء، فحتى السلطة التي يقف على رأسها صدام حسين تنطوي إذا رضخنا للفهم التطوري على احتمالات من هذا النوع، لكن الاشكال الذي نحن في صدده أبعد، فهل الاطار الحالي للدولة منذ اقيمت عام 1921 على هوى الاستعمار الانكليزي وحلاً لمعضلة استمرار سيطرته على العراق، صالح للعمل كما يفترض به ان يفعل؟ الجواب لا، لأنه اطار مفروض من أعلى، والمعلوم ان الدولة الحديثة لم تركب على البلدان الأوروبية المعروفة اليوم ولم تكن هي السبب في قيام المجتمع الحديث بل العكس، ظلت أوروبا مضطربة على مدى أربعة قرون وشهدت حروباً طاحنة وصراعات لا تنتهي لم تختم بالحرب العالمية الثانية التي هددت المانيا بموجبها الحدود الأوروبية الهشة، بل استمرت الى عام 1991 مع انهيار الاتحاد السوفياتي، وها هي الأزمة البلقانية تشهد على عراقة التلازم بين تاريخ قيام الدول الحديثة وبين هشاشتها وخضوعها للمصاعب والتمردات التي ما تزال قائمة في فرنساوبريطانيا واسبانيا وغيرها، تشهد على ماض وحاضر ما يعتمل في خلفيتها وأساسها المجتمعي والتاريخي وما يستمر حياً ونابضاً، فينعكس على الاطار وعلى البنية العامة ويحفز صيرورتها. يظن بعضهم اننا قد عانينا من "الايديولوجيات" الحزبية والعقائدية - غسان الغطية يردد ذلك ليل نهار - لكنه لا يكاد يعرف بأن مفهوم "الدولة الحديثة" وأشكال تطبيقه، كان أول وأخطر الايديولوجيات المفروضة على الواقع وعلى واقعنا العراقي بالذات، وفيصل الأول هو أول من ذاق مراراة الفشل الناجم عن الاصطدام بالفارق ما بين الفكرة المفروضة من أعلى والواقع لعله يمتاز بتذوق تلك المرارة لمرتين مرة في سورية ومرة في العراق...، ومنذ عام 1933 والعراق يعاني من هذا التناقض ومن غياب الرؤية الوطنية عن تشكل العراق الحديث، في مقابل المنظور الاستعماري والاستشراقي الذي ما زال يجد له مريدين يبحثون بين الخرائب، أو بين الذكريات العنيفة والنادرة في مأسويتها التي انتهى اليها التأسيس الفيصلي يوم 14 تموز يوليو 1958. لست في مقابل ذلك من مؤيدي الرأي الذي يذهب الى ان المنطقة العربية لن تعرف قيام الدول الحديثة على الاطلاق لأنها تتمتع بخصوصيات، ولديّ في هذا المجال وجهة نظر ليس هنا مجال عرضها، وهي على العموم لن تخرج عن التنبه الى استمرار فعل الآليات الذاتية ضد الاطار "الحديث" كما حصل في تاريخ العراق على مدى ثمانين سنة مرت، حاملة معها وقائع التناقض ما بين الحقائق الذاتية، والأطر المفروضة من أعلى. في أي حال، ومن أجل زيادة توضيح هذه الناحية سأبادر الى تثبيت هذا النص، بالضد من النص الذي ذكره العطية عن أهل البصرة ومضابطهم: "وما ان دعي الشيخ حمد آل حمود، حتى استجاب لهما في الحال وأعلن العصيان على الحكومة في منطقتي الفرات الأوسط والجنوبي، ثم تحرك الشيخ ثويني فاستولى على البصرة سنة 1787م وطرد متسلمها التركي ابراهيم أفندي وأسس فيها حكماً عربياً وبذلك تم للثوار العرب احتلال الجزء الأكبر من وسط العراق والجزء الجنوبي منه برمته، وقرر الزعماء الثلاثة انهاء حكم المماليك، وانشاء كيان عربي في العراق كله يتبع للسلطان العثماني، ويستمد شرعيته من رضى أهل البلاد وترشيحهم، فسلكوا الطريقة المألوفة آنذاك ونظموا مضبطة رفعوها الى السلطان العثماني، وقعها وجهاء البصرة وأشرافها ورؤساؤها والشخصيات الوجيهة فيها، وقسم كبير من رؤساء العشائر العراقية، طلبوا فيها تعيين الشيخ ثويني والياً على العراق بأجمعه، كما ذكروا في المضبطة: انه لا يصلح والياً على العراق عموماً ولوزارة بغداد وتأمين الطرق الا ثويني العبدالله فإنه هو الأسد الذي يحميها من العجم، مكرراً بذلك طموح جده في حكم العراق" - من "انتفاضة سنة 1787 العربية الثلاثية"، مجلة "آفاق عربية"، السنة الرابعة العدد 11. 1979 محمد حسن علي مجيد - وهذه وقائع تعود الى القرن الثامن عشر والمعروف ان الوالي سعد الذي سبق الوالي داورد باشا الى كرسي الولاية نصب بحراب المنتفك. ويقول الدكتور سليمان نوار الذي أرخ لداود باشا 1817 - 1931 بأن هذا الأخير رفع وقتها من منفاه عند الباباننيين في شمال العراق رسالة الى الباب العالي يحرضه فيها على سعد قائلاً انه قد حكم العرب أهل الجهل والغشامة وكان الولاة يستجلبون المحاربين الأكراد للقتال الى صفهم ضد الاتحادات المشاعية القبلية العربية التي لم تهدأ انتفاضاتها وعصياناتها المسلحة في الجنوب والوسط. ويجدر بنا ان نضيف الى ما سبق واقعة تحرير البصرة من قبل الاتحادات القبلية الجنوبية من يد الايرانيين، وهو ما حدث أيضاً بقيادة اتحاد "المنتفك" وبقيادة ثويني العبدالله نفسه هو وشقيقه ثامر. حدث ذلك عام 1777 علماً ان بغداد، بالمقارنة، لم تتمكن من طرد أي من الغزاة الذين تعاقبوا عليها على مدى سبعة قرون، منذ دخول هولاكو عام 1258 فكان هؤلاء يزيحون بعضهم بعضاً، ويتعاقبون على السيادة، بينما السكان يتلقون آثار الحصارات، والغزو، والفيضانات، والأوبئة، فالعراق الحديث نشأ في العصر الحديث وبدأ تشكله من الجنوب وبالتصادم مع الدول البرانية الغازية والغريبة، والآليات الذاتية المحلية، استمرت تعمل على هذا المنوال ضد الدولة البرانية المركبة باسم "الدولة الحديثة" التي قامت من أعلى، بعد ثورة 1920 الوطنية الكبرى التي انفجرت كما هو بديهي في الجنوب ووسط العراق ضد الاحتلال الانكليزي، وشدت اليها للمرة الأولى أصداء في بغداد وبعض أطرافها. لقد كان لذلك المظهر فضل نشوء بداية تعرّق بغداد، التي ما تزال تخضع لهذه العملية المستمرة حتى في الفترة الحالية على رغم التطورات الهائلة التي طرأت على جهاز السلطة والدولة الحديثة، سواء من حيث وسائل وأدوات ممارسة السلطة أو من ناحية الامكانات المتاحة ومنها وعلى رأسها موارد النفط والحزب العقائدي المنظم والنواة العائلية القرابية. ان مأزق نظام صدام حسين وطابعه القاسي والحربي ينطويان قبل كل شيء على اشارة قوية الى تناقض أصلي والى تصادم بين الإطار السياسي الحاكم بوسائل وميكانزمات برانية وفوقية وبين الآليات الذاتية والخصائص التاريخية. ونلمس هنا بجلاء قوة تجاوز زخم هذه الخصائص للإطار السياسي الحاكم. لكن الطابع الارهابي العنيف والقاسي الذي ظل يميز هذا النظام، لا يعود الى خاصيات بديهية أو حتمية، فليس شرطاً لو انه لم يكن صدام حسين هو الذي يمسك بزمام الحكم، ان يحدث هذا الذي حدث خلال الثلاثين سنة الماضية، ولا شك ان الصدامية هي خاصية تعود الى حد كبير، الى شخص بعينه لا الى الضرورة أو الحتمية التاريخية. لكل هذا فإن العراق الديموقراطي الذي تقوم فيه السلطة على أساس تمثيل الخاصيات والخبرة التاريخية الحديثة للمجتمع العراقي، موجود في المستقبل، في ما يتعدى صدام حسين، وحتماً يتعدى بلا رجعة فيصل وتجربته. فهل اتضح يا ترى بعد هذا التعرض الاجمالي مصدر تلك الأفكار التي تعتقد ان للعراق سيداً "خلقه" على خلاف رغبة أهله. ابدأوا من هنا على كل حال في تذكر هذا الرأي - الفضيحة إذا أردتم اليوم تتبع مهزلة شهد فصولها العالم أجمع على مدى السنوات العشر المنصرمة، وسميت اعتباطاً "سياسة عراقية" هي أشهر من نار على علم؟ * كاتب عراقي.