الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    نهاية مشوار صالح الشهري في "خليجي 26"    النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع ووزير الداخلية بالكويت يزور مركز العمليات الأمنية في الرياض    النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع ووزير الداخلية بدولة الكويت يزور الهيئة الوطنية للأمن السيبراني    استشهاد خمسة فلسطينيين في قصف إسرائيلي على حي الشجاعية وخان يونس    كافي مخمل الشريك الأدبي يستضيف الإعلامي المهاب في الأمسية الأدبية    أمين عام رابطة العالم الإسلامي يلتقي بابا الفاتيكان    «الحياة الفطرية» تطلق 66 كائناً فطرياً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    فعاليات يوم اللغة العربية في إثراء تجذب 20 ألف زائر    لا تكتسب بالزواج.. تعديلات جديدة في قانون الجنسية الكويتية    الدفعة الثانية من ضيوف برنامج خادم الحرمين يغادرون لمكة لأداء مناسك العمرة    الشرقية تستضيف النسخة الثالثة من ملتقى هيئات تطوير المناطق    افتتاح إسعاف «مربة» في تهامة عسير    تحت رعاية خادم الحرمين.. «سلمان للإغاثة» ينظّم منتدى الرياض الدولي الإنساني الرابع فبراير القادم    سلمان بن سلطان يدشن "بوابة المدينة" ويستقبل قنصل الهند    رضا المستفيدين بالشرقية استمرار قياس أثر تجويد خدمات "المنافذ الحدودية"    بلسمي تُطلق حقبة جديدة من الرعاية الصحية الذكية في الرياض    وزارة الداخلية تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    "مستشفى دلّه النخيل" يفوز بجائزة أفضل مركز للرعاية الصحية لأمراض القلب في السعودية 2024    وزارة الصحة توقّع مذكرات تفاهم مع "جلاكسو سميث كلاين" لتعزيز التعاون في الإمدادات الطبية والصحة العامة    أمانة جدة تضبط معمل مخبوزات وتصادر 1.9 طن من المواد الغذائية الفاسدة    نائب أمير مكة يفتتح غدًا الملتقى العلمي الأول "مآثر الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله- وجهوده في الشؤون الدينية بالمسجد الحرام"    المياه الوطنية: خصصنا دليلًا إرشاديًا لتوثيق العدادات في موقعنا الرسمي    ارتفاع أسعار النفط إلى 73.20 دولار للبرميل    وزير العدل: مراجعة شاملة لنظام المحاماة وتطويره قريباً    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    لمن القرن ال21.. أمريكا أم الصين؟    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    تجربة مسرحية فريدة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خرائط التقسيم غير ممكنة جغرافياً وبشرياً . عناصر وحدة العراق أقوى من مخططات التقسيم
نشر في الحياة يوم 20 - 02 - 1998

من يريد تقسيم العراق؟
يطرح هذا السؤال كلما تأزمت العلاقة بين الولايات المتحدة ونظام صدام حسين ولاحت في الأفق بوادر ضربة عسكرية، بصيغة اتهام ضد المعارضة العراقية التي تسمع من خارجها من العراقيين والعرب الموالين لنظام صدام انها تريد تقسيم العراق والاجهاز على وحدته في وقت لايضم اي برنامج لأي حزب عراقي مثل هذا الهدف فضلا عن ان كل الاحزاب تتضّمن برامجها هدف الحفاظ على سيادة العراق ووحدته واستقلاله.
الواقع انه لا الولايات المتحدة ولا غيرها من الدول اكثر حرصاً من المعارضة العراقية ومن العراقيين على وحدة تراب بلادهم. والولايات المتحدة لا تتمسك بوحدة العراق الا حينما تريد ان تبقي صدام حسين شبحاً على المنطقة. واذا اقتضت مصالح الولايات المتحدة تقسيم العراق الى 18 دويلة فإنها ستروّج لذلك، حتى عبر عراقيين سيذهبون الى تزوير التاريخ قائلين ان العراق كان هكذا منذ عهد السومريين والاكديين والبابليين والآشوريين.
هكذا تصبح وحدة العراق هماً وشاغلاً وطنياً في مختلف الظروف، لأنها من الاعتبارات الاساسية الوطنية جغرافياً وسياسياً.
يرتبط بهذا ان العراق ليس بلداً قائماً في فراغ جغرافي وسياسي، وبالتالي فإن امتداداته الاقليمية هي امر واقع، سواء كانت هذه الامتدادت جغرافية او قومية او دينية او ثقافية. وعلى هذا الاساس فإن وحدة العراق هي جزء من وحدة امتداداته هذه، وتقسيمه يعني اعادة النظر بالضرورة بتقسيم امتداداته الاقليمية المختلفة، العرقية والمذهبية والثقافية والعشائرية.
يرتبط بهذا ايضاً ان ارادة التغيير في العراق هي ارادة عراقية اولا واخيرا، سواء استطاعت هذه الارادة ان تحقق ذاتها ام لا. وهذا لا يعني ابداً قبول حكم صدام حسين الجائر واللاشرعي، وبالتالي فإن التغيير في العراق، في حال حصوله وفق خطة خارجية، لا يعبّر تماماً عن ارادة الشعب العراقي، لأنه سيواجه تسديد ديون الحكم القادم مقابل ما يدفعه الآن بسبب هذا الحكم. ولأنه سيكون مشروعاً لمشكلة حكم جديدة ستعيد اطروحة تقسيم العراق من جديد. ان وحدة العراق ليست همّا دولياً بل تقسيمه.
العراق وحدة سياسية وكيان دولة واحدة في سياسة جميع الاحزاب العراقية وأمر تقسيمه في الواقع مطروح في الفكر الخارجي وليس في الفكر العراقي، ويستخدم كشماعة لتعليق كثير من السياسات المجحفة الخارجية عليها، واكثر من ذلك فإن سياسة صدام واجراءاته وتمسكه بالسلطة وبقاءه في الحكم هي خطر واقعي يهدد سلامة وحدة اراضي العراق، وهنا لا بد من القول ان مشروعاً مغامراً للتغيير من قبل القوى الخارجية يمكن ان يطيح بسلامة وحدة الاراضي العراقية ووحدة الشعب العراقي اذا ما فشل في الاطاحة بصدام حسين.
مصلحة الشعب العراقي التي يتحدث عنها كثير من غير العراقيين وفق عواطف واغراض متعددة من دون ان يؤخذ العراقيون انفسهم في الاعتبار، تعني التمسك بوحدة العراق لأن هذه الوحدة هي ضمانة لجميع قومياته وطوائفه وجماعاته الثقافية وعلينا الاعتراف بأنه لم تشهد اية معارضة عربية تجريحاً من العرب كالذي تشهده المعارضة العراقية التي يبدو انها وقعت ضحية لتاريخ طويل من ثقافة الاستبداد واعلامه اللذين مثلهما ودعمهما صدام حسين بالمال والرعاية والتوجيه الشخصي واصبح اسقاط نظام صدام حسين يعني تقسيما للعراق.
اذن هل تكون نتيجة الضربة الجوية الكبرى التي تعتزم الولايات المتحدة توجيهها الى العراق تقسيمه الى دويلات اربع شيعية وسنية وكردية وربما تركمانية ايضاً بنفوذ تركي ؟
منذ حرب الخليج الثانية تشيع مفاهيم وتتداول مصطلحات مثل الشيعة والسنة والاكراد وكأنها ثلاث أمم في ثلاث أراض موحدة قسراً منذ نشأة الدولة العراقية الحديثة في مطلع العشرينات. وتطرح بين فترة واخرى أطروحة ان ضمان الامن والاستقرار في المنطقة وضمان حقوق الانسان تكمن في فك هذه الوحدة القسرية. كما يطرح في الوقت نفسه ترابطا بين سقوط صدام حسين وتقسيم العراق.
غير ان الواقع السياسي والديموغرافي غير ذلك تماماً. فمشكلة نظام الحكم في العراق اليوم لا تقوم على جمع قسري لتنافر العناصر الثلاثة الشيعة والسنة والاكراد. فالاستبداد لم يوحد العراق في كل تاريخه. انما كان يهدد بين فترة واخرى، كما يحدث في كل دول وبقاع العالم، وحدة واستقرار البلاد. وان مشكلة الحكم تكمن في نهجه السياسي وعدوانيته في الداخل والخارج وليس على الاندماج القسري الذي تفترضه قوى خارجية تجعله شماعة لتعليق طموحاتها في تفتيت بلد موحد تاريخياً وسياسياً واقتصادياً وسكانياً.
وعلى عكس الاطروحات "الليبرالية" الزائفة و"العنصرية" المتطرفة فإن وحدة العراق بشكله هذا هي وحدة "تاريخية" سياسياً واقتصادياً وسكانياً وثقافياً. واذا قلنا ان الدولة العراقية الحديثة ظهرت الى الوجود في مطلع العشرينات فان هذا يعني خروجه من تبعيته للسلطنة العثمانية التي حكمت دولاً في آسيا وافريقيا واوروبا كان وضعها مثل وضعية العراق في تبعيته للعثمانيين. والعراق، حتى في هذا المعنى "الليبرالي" المزيف، و"العنصري" المتطرف سبق قيام تركيا الحديثة باربع سنوات وسبق قيام اسرائيل بربع قرن.فهل تكون وحدة العراق أهشّ من وحدة اسرائيل ووحدة تركيا؟
ان "اشاعة" تقسيم العراق من قبل بعض اطراف المعارضة ليس لها وجود اطلاقاً، فليس هناك عراقي واحد يمتلك شجاعة التصور بأن العراق يجب تقسيمه. كما ان كل برامج الاحزاب العراقية تنص على احترام وحدة وسيادة واستقلال العراق والحفاظ عليه كحق مقدس. وحتى بعض الاحزاب التركمانية التي نشأت في ظروف احتلال الكويت تعتبر تركيا مثلاً الوطن الام في ادبياتها فإنها تعتبر العراق الموحد وطنها.
رغم ان التاريخ سيفيدنا كثيراً في الحديث عن صعوبة تقسيم العراق الا ان حديث التاريخ طويل جداً نكتفي منه بالاشارات العابرة.
تم التعامل مع العراق كوحدة سياسية وجغرافية وبشرية منذ دويلات المدن. وتعززت هذه الوحدة في ظهور الامبراطوريات الكبرى البابلية والاكدية على وجه الخصوص. واذا وصلنا الى الفتح الاسلامي نجد ان التعامل مع العراق كوحدة سياسية وجغرافية وسكانية كان امراً واقعاً اذ تذكر كتب المؤرخين المسلمين عن الفتوح انه استكمل فتح العراق كوحدة سياسية وجغرافية وسكانية بعد معركة جلولاء التي عبر فيها الساسانيون حدود العراق الى نهاوند، وبذلك تم فتح العراق في ثلاث مراحل بعد معركة القادسية واكتمل حين اتجهت قوة من الموصل بقيادة عتبة بن فرقد السلمي بعد فتح الموصل وتكريت الى شهرزور والجبال فأكملت فتح العراق المعروف جغرافياً وسكانياً وسياسياً آنذاك.
وحافظ الفاتحون المسلمون على التركيبة السكانية للعراق وعززوا من التلاحم بينها في اطار الدين الجديد. وأضيف الى عرب العراق قبل الاسلام من قضاعة في الحيرة والحضر قرب الموصل واياد الحيرة وتكريت والموصل وبكر بن وائل الأبّلة قبل انشاء البصرة، وهيت على الفرات في البادية الغربية،الى اطراف الجزيرة في الشمال وربيعة غرب دجلة من الموصل الى نصيبين والخابور ومضر بمحاذاة الفرات في عانة وعبد القيس في اسفل العراق عرب نزحوا مع الفتح وبعده من هذه القبائل وبطونها المختلفة غسان وخثعم وكندة والازد ومذحج وحمير وهمدان وتميم وبنو اسد وغطفان ومحارب وكنانة وطئ وتغلب وعامر وثقيف وخزاعة وقريش ونمير وبنو كعب ودارم وبنو العم وشيبان وعجل وعنزة وهذيل وباهلة وغيرها.
وتعامل المسلمون مع العراق كما عرفوه في عصورهم الجاهلية المختلفة والذي تردد باسمه الحالي في اشعارهم وموروثهم وخطبهم وتجارتهم وعرفوا سكانه واختلاف قومياتهم ولذلك فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما اراد مسح العراق طلب من له بصر وعقل يضع الارض مواضعها فأجمع الصحابة على عثمان بن حنيف فولاه مسح العراق وارسل معه حذيفة بن اليمان.
وتشير الوقائع الى التعامل مع حدود العراق الحالية تقريباً اذ مسح عثمان المنطقة الواقعة بين الخابور شمالاً وحلوان بعد خانقين وجلولاء على الحدود الايرانية شرقا والعذيب فوق السماوة قرب الحدود مع المملكة العربية السعودية غرباً، والخليج العربي جنوباً. وبلغت مساحة الارض المزرعة في هذه الحدود 36 مليون جريب والجريب يساوي 1952 متراً مربعاً وهي مساحة تزيد قليلاً عن المساحة الحالية للعراق ببضعة عشرات الكيلومترات.
وعلى هذه المساحة احتسب خراج العراق وتم التعامل مع الولاة من الناحية السياسية والاقتصادية على اساس المساحة والحدود هذه. وظلت اقتصاديات العراق خاضعة لهذا الوضع على مر السنين والتغيرات.
ان الوضع الديموغرافي للعراق لم يتبدل بصورة ملفتة للنظر. صحيح ان الحراك الاجتماعي كان حيوياً وفعالاً في بعض الاحقاب والأزمان الا انه لم يشهد تغيرات عميقة حتى بعد هجرة قبائل كبيرة من نجد اليه في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وهو تحت السيطرة العثمانية.اذ ان الحالة الطبيعية للعراق وتضاريسه لعبت دوراً في وحدته وليس العكس.فالخصوبة والاراضي الزراعية تشمل وسطه كله من الشمال الى الجنوب بمحاذاة النهرين دجلة والفرات والبادية. والجبال تشمل بعضاً من أطرافه فتغذي السهل الرسوبي بالتفاعل بين الداخل الزراعي والخارج الرعوي قياساً الى الأنهر ومياه الري. لذلك فإن توزيع القبائل العراقية فرضته الحال الطبيعية. وهي التي قسمت القبائل نفسها على المناطق المختلفة اذ أصبح التداخل السكاني والطوبوغرافي عاملاً من عوامل الوحدة السياسية والاقتصادية والسكانية للعراق.
والواقع ان وحدة العراق استعصت على التقسيم حتى تحت ضربات أعتى الامبراطوريات والجيوش الغازية منذ تاريخه القديم مروراً بالمغول بمختلف فروعهم ودويلاتهم والعثمانيين وانتهاء بالبريطانيين. فاضطر العثمانيون الى تنظيم اداري يتيح لهم قمع التمردات القبلية البعيدة عن مركزهم فوضعوا ولاية بغداد على رأس ثلاث ولايات هي الأعمدة الرئيسية لوحدة العراق السكانية والحضارية والاقتصادية لإتاحة الفرصة لبغداد حتى لا تسقط فيسقط العراق كله من يد الدولة العثمانية.
كانت بغداد رمزاً لوحدة العراق من الناحية السياسية لذلك حولوا الموصل والبصرة الى ايالات او سناجق او متصرفيات تحت سلطة بغداد لضمان عدم امتداد التمردات اليها لأن سقوطها يعني سقوط العراق برمته.
ان توزيع السكان في العراق لايعتمد على استقلال عرقي او طائفي او ثقافي. فاذا ألقينا نظرة على العراق داخل خطوط العرض وخصوصاً 32 و36 اللذين اعتمدا في فترة سابقة لحظر الطيران فإننا نجد انها لم تكن خطوط تقسيم سكاني وانما كانتا فقط خطين يحدان بغداد من الجنوب والشمال. اما علاقتهما بالتركيب السكاني فهي علاقة وهمية. اذ تقوم فوق خط 36 أهم أربع مدن عربية وكردية. وتضم هذه المدن ضواحي بدوية عديدة. ففوق خط 36 تقوم الموصل المدينة العربية التقليدية التي تسكنها قبائل عربية قبل الفتح الاسلامي. وتقوم الى الغرب والجنوب من مدينة الموصل مدن صغيرة وبواد تسكنها قبائل شمر العربية تشكل غالبية سكانية سنية تمتد الى الجنوب حتى غرب بغداد وتختلط مع الدليم، وتتعدى ذلك الى بعض مناطق الوسط والجنوب حيث يتحولون الى شيعة. بينما يسكن اليزيديون في جبل سنجار غرب الموصل وهم جماعة دينية وثقافية تاريخية لها وضعها الخاص بينما يسكن قسم آخر منهم في الجانب الشرقي لدجلة شمال شرق الموصل في عقرة وعين سفني والشيخان التي تعتبر المركز الديني لهم. وتنتشر قبائل ربيعة والجبور وشيبان وطئ في الموصل وضواحيها مثل الشرقاط التي تسكنها غالبية من الجبور العرب السنة والشيعة، بينما نجد الشيعة في ربيعة وطئ. وفوق خط 36 وبعيداً عن الضفة الشرقية لدجلة وفي الزاوية الشمالية الشرقية للعراق تقوم اربيل والسليمانية المدينتان ذات غالبية كردية في تضاريس جبلية تتصل بمثلها في تركيا وأقل منها في ايران وهي جعلت الفاتحين المسلمين يطلقون على سكانها "أهل الجبال". وعلى رغم الغالبية السنية الكردية الا ان الشيعة من الاكراد المعروفين باسم "الفيلية" يغطون مساحات واسعة في مندلي وخانقين وجوارها ويمتدون الى بدرة وجصان والكوت الى جنوب وسط العراق. وتنقسم اللغة القومية للأكراد الى لغتين سورانية وبهدينانية يتوزع نطقها على مناطق منفصلة احياناً. اما على حدود دجلة الغربية فتقوم قبائل عربية متعددة اكبرها العبيدات والعزة والجبور ويسكنون مع بطونهم وأفخاذهم في مساحة تشمل وسط المنطقة فوق خط 36 وتغطي محافظة كركوك وضواحيها تقريباً تغطية كاملة اذ تشغل الجزء المتبقي في كركوك الجماعة التركمانية التي تنقسم الى جماعات شيعية وسنية بدورها اضافة الى وجود كردي في كركوك ووجود آشوري ايضاً اذ تضم المدينة في هذه الحالة اربع مجموعات قومية عربية وكردية وأشورية وتركمانية ومجموعتين مذهبيتين هما السنة والشيعة ومجموعتين دينيتين هما المسلمون والمسيحيون. وفوق خط 36 نفسه يسكن الآشوريون وهم من سكان العراق القدامى الى جانب العرب والاكراد وتمتلئ مناطق فوق 36 بالمسيحيين من مختلف المذاهب من سريان ونسطوريين وكلدان وروم كاثوليك وروم ارثوذكس وغيرهم في الموصل وكركوك واربيل ودهوك نشأت مشكلة الآشوريين اول مرة عام 1933 من دهوك. وفوق خط 36 تقوم مدينة تكريت وهي من اقدم مدن العراق منذ العهد الاكدي وهي مدينة عربية سنية ومدينة سامراء السنية ذات المراقد الشيعية للامامين علي الهادي وجعفر العسكري ومكان غيبة الامام الثاني عشر المهدي. وفي حدود خط 32 الى الجنوب الغربي من بغداد تقوم مدينة كربلاء الشيعية حيث مرقد الامام الحسين ومدينة الكاظمية في شمالي بغداد التي تضم مرقد الامام السابع للشيعة موسى الكاظم والامام التاسع محمد الجواد ومعروفة باسم الكاظمين او الكاظمية. وفي ضواحي الكاظمية تنتشر عشائر عربية سنية وشيعية عديدة وتمتد الى كركوك والحويجة وبيجي وصولاً الى الموصل وسنجار وتلعفر لتختلط بها عشائر تركمانية في بعض المناطق. وأهم واكبر هذه العشائر العربية شمر الجربا التي تمتد على مساحة شاسعة وتتركز حول مدينة الحضر التاريخية والجبور والنعيمات وطئ والعبيد والعزة وزوبع والدليم والجنابيين اذ تمتد مناطق سكن بعضها الى الجانب الغربي من دجلة عند الموصل وتنزل الى المسيب وحدود كربلاء. وخارج خط 32 تقوم مدينة النجف الشيعية المقدسة. اي ان المراكز الشيعية موزعة على ثلاث مناطق بين خطي العرض المذكورين، بينما تقوم الى الغرب فوق خط 36 مدينة عانة وهي كذلك من اقدم مدن العراق ومذكورة عند البابليين ومدينة حديثة وهما مدينتان عربيتان سنيتان على الحدود مع سورية.
هذه التركيبة المعقدة قومياً ومذهبياً ودينياً في منطقة واحدة تقع فوق خط 36 حتى ليبدو خط 36 بالنسبة للوضع الديموغرافي للعراق خطاً وهمياً لم تقصد القبائل والمذاهب والأديان ان تتخذه قبل عشرات القرون خطاً لسكنها كما افترضت ذلك الولايات المتحدة عام 1992 وقسمت العراق جوياً بموجبه.
ان وضع خطوط فاصلة لديموغرافية وطوبولوجية العراق ضرب من الوهم الجغرافي والانثربولوجي والاجتماعي والثقافي، من دون انكار التمايز القومي والحقوق القومية لأحد. وإنما المقصود الاشارة الى حقائق طوبولوجية وطوبوغرافية وسكانية واقعية وتاريخية. ويتصل بذلك ان شرق العراق من فوق خط 36 شمالاً الى خط 30 جنوباً، وغرب العراق على الخطّين نفسهما يضمان خليطاً من القبائل والاديان والمذاهب. ففي الشرق ومن فوق خط 36 من تكريت والدير والزاب ونهر العظيم وبلد ومندلي وخانقين تمتد قبائل الاكراد الفيلية الشيعية والقبائل العربية شمر طوقة والعزة وزبيد وبني لام وكعب وربيعة وتميم والجبور اذ تنتشر بعضها في اعماق وسط العراق وجنوبه الى حدود الخليج والكرد الفتلة، وهم من اصل كردي تعربوا بالاختلاط والتحالف. ثم تمتد القبائل والمذاهب الى الجنوب لتصل الى مكان وجود طائفة الصابئة في حدود محافظة العمارة تحت خط 32 بمسافة عميقة تصل الى البصرة حيث يسكنها مسيحيون بعدد ملحوظ. بينما تسكن العشائر العربية مناطق الاهوار الموغلة في القدم وتتكون من مياه دجلة والفرات في لقائهما في شط العرب.
أما من الجانب الغربي وتحت خط 32 فتسكن عشائر المنتفك السنية التي هاجرت من نجد قبل قرنين او اكثر واستقرت في مدينة الناصرية وبواديها حتى البصرة كذلك قسم من عنزة المهاجرة من نجد ايضاً والخزاعل الشيعة وأصلهم من نجد ايضاً وبني خالد من الاحساء وبني حجيم الذين يضمون عشرات الافخاذ التي تنتشر من بادية السماوة لتمتد الى الرميثة والديوانية ومناطق اخرى ايضاً بينما يمتد الجبور من الخابور في اعالي العراق الى كركوك وبعقوبة وبغداد والحلة والديوانية وينقسمون الى سنة وشيعة في اغلب مناطقهم.
الى ذلك فرض الموقع الطبيعي للعراق وتضاريسه ومصادر المياه والخصوبة وضعاً مركباً للسكان فيه جعلت التداخل غير منفصل بحدود طبيعية. فعدا عن بعض التضاريس الجبلية الوعرة في أعلى شمال شرق العراق تمتد سهوب السهل الرسوبي من الشمال الى الجنوب حيث الزراعة في مختلف طرق ريها ومنتوجاتها الفصلية وحيث المدن المستقرة وبواد وهضاب هضبة الجزيرة الى الشمال الغربي والبادية الغربية الى الغرب حيث الرعي وتربية الاغنام ومضاهر البداوة والجبال في كردستان العراق فوق اربيل واربيل من المدن القديمة التي ذكرها السومريون باسم اربيللا بينما بنيت السليمانية في نهاية العهد العثماني من قبل الوالي سليمان حيث سميت باسمه. وتعتبر كركوك من المدن القديمة ايضاً في بلاد مابين النهرين.
وكانت الحالة السكانية للعراقيين على ما هي عليه تقريباً منذ القدم مع استيعاب للهجرات التي تحدث لأسباب طبيعية مثل الجفاف غالباً. وكان التقسيم الأداري للعراق في ظل السيطرة العثمانية يولي بغداد النفوذ الاكبر كعاصمة له.
وتشير وثائق من العهد العثماني الى ان ايالة البصرة وايالة الموصل او سنجق البصرة او سنجق الموصل حسب التغييرات الادارية المختلفة لم تصبح بغداد سنجقاً ولا ايالة انما ظلت ولاية دائما والايالة والسنجق تعادل القضاء حالياً كانت تتبع بغداد.
وتشير رسائل من شيوخ المنتفك من آل السعدون في السماوة والناصرية والبصرة موجهة الى والي بغداد لشؤون ادارية تخص البصرة باعتبار ولاية بغداد هي المرجع في الشؤون الادارية، كما تشير رسائل من والي بغداد مدحت باشا الى رئيس عشائر شمر في الموصل لاستلام المشيخة في شهرزور في كردستان العراق.
هذه الوضعية السكانية والقومية والمذهبية والدينية المتداخلة والمعقدة تجعل من مشروع التقسيم مشروعاً يقترب من الخيال اكثر مما هو واقع، صحيح ان القوة يمكن ان تعبر على الحقائق المادية والمشاعر الانسانية الا ان هذه القوة ستكون امام حسابات جديدة قد تكون أغفلتها ولم تأخذها في الحسبان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.