أمير تبوك يطلع على تقرير فرع وزارة النقل والخدمات اللوجستية بالمنطقة    الأسهم اليابانية تتراجع    أمانة تبوك تكثف جهود صيانة الطرق والحدائق وشبكات التصرف خلال النصف الأول ل 2025    سمو أمير منطقة القصيم بحضور سمو نائبة يدشن منصه جائزة السياحة الريفية ويؤكد السياحة الريفية ميزة تنافسية للمنطقة    أمير تبوك يدشن مبادرة جادة 30 ويرعى توقيع اتفاقيات تعاون بين عدد من الجهات والهيئات    أمين القصيم يوقع عقد تأمين مضخات كهربائية لمحطات ومعالجة السيول بمدينة بريدة بأكثر من 3 ملايين ريال    بلدية المذنب تطلق مهرجان صيف المذنب 1447ه بفعاليات متنوعة في منتزه خرطم    وزارة الداخلية تنهي كافة عمليات إجراءات مغادرة ضيوف الرحمن من الجمهورية الإسلامية الإيرانية    العيادات الطبية المتنقلة لمركز الملك سلمان للإغاثة في حرض تقدم خدماتها ل (197) مستفيدًا    استعرض التعاون البرلماني مع كمبوديا.. آل الشيخ: السعودية تعيش تحولاً كبيراً بمختلف المجالات    أكد أن أبواب الدبلوماسية مفتوحة.. عراقجي: لا مفاوضات نووية قريبة    ضمن السلسلة العالمية لصندوق الاستثمارات العامة.. نادي سينتوريون يحتضن بطولة PIF لجولف السيدات    مانشستر يونايتد مهتم بضم توني مهاجم الأهلي    نثق قي تأهل الأخضر للمونديال    تستضيف مؤتمر (يونيدو) في نوفمبر.. السعودية تعزز التنمية الصناعية عالمياً    حرصاً على استكمال الإجراءات النظامية.. ولي العهد يوجه بتمديد فترة دراسة تنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر    134مليار ريال إنفاق المستهلكين    هيئة تقويم التعليم تعزز حضورها الدولي بمؤتمرات عالمية في 2025    اقتراب كويكب جديد من الأرض.. السبت المقبل    برئاسة ولي العهد.. مجلس الوزراء: المملكة سخرت إمكاناتها لخدمة حجاج بيت الله الحرام    برنية: رفع العقوبات يمهد لفك الحصار.. واشنطن تدعم سوريا لإنهاء «العزلة»    انطلاق النسخة الثامنة لتأهيل الشباب للتواصل الحضاري.. تعزيز تطلعات السعودية لبناء جسور مع العالم والشعوب    تأهيل الطلاب السعوديين لأولمبياد المواصفات    الفيشاوي والنهار يتقاسمان بطولة «حين يكتب الحب»    صدقيني.. أنا وزوجتي منفصلان    وفاة كل ساعة بسبب الوحدة حول العالم    الأمهات مصابيح من دونها قلوبنا تنطفئ    غونزالو غارسيا يقود ريال مدريد إلى ربع نهائي «مونديال الأندية»    المملكة توزّع (900) سلة غذائية في محلية الخرطوم بالسودان    المملكة تدعو إلى إيجاد واقع جديد تنعم فيه فلسطين بالسلام    القيادة تهنئ حاكم كندا ورؤساء الصومال ورواندا وبوروندي بذكرى بلادهم    فيصل بن مشعل يحتفي ب24 فارساً حققوا 72 إنجازاً محلياً ودولياً    "مسام" ينزع (1.493) لغمًا في الأراضي اليمنية خلال أسبوع    موقف متزن يعيد ضبط البوصلة الأخلاقية الدولية!    320 طالباً يشاركون في برنامج «موهبة الإثرائي» في الشرقية    «الاستثمارات العالمية» في النفط والغاز تتجه للشرق الأوسط    المفتي يتسلم تقرير العلاقات العامة بالإفتاء    موافقة الملك على منح وسام الملك عبدالعزيز ل200 متبرع بالأعضاء    سعود بن بندر يلتقي العقيد المطيري    د. السفري: السمنة مرض مزمن يتطلب الوقاية والعلاج    متحف «تيم لاب بلا حدود» يحتفي بعامه الأول في جدة    أمير منطقة جازان يلتقي مشايخ وأهالي محافظة العارضة    نائب أمير المنطقة الشرقية يستقبل مدير نادي منسوبي وزارة الداخلية بمناسبة تعيينه    رياضي / الهلال السعودي يتأهل إلى ربع نهائي كأس العالم للأندية بالفوز على مانشستر سيتي الإنجليزي (4 – 3)    أصداء    هنأت رئيس الكونغو الديمقراطية بذكرى استقلال بلاده.. القيادة تعزي أمير الكويت وولي عهده في وفاة فهد الصباح    القيادة تعزّي أمير الكويت في وفاة الشيخ فهد صباح الناصر    العثمان.. الرحيل المر..!!    إلزام المطاعم بالإفصاح عن المكونات الغذائية    الأمير جلوي بن عبدالعزيز يطلع على استعدادات المنطقة خلال موسم الصيف    قائدٌ يرسم ملامح وطن    "الفيصل" يرأس الاجتماع الأول لمجلس إدارة الأولمبية والبارالمبية السعودية    تحفيز الإبداع الطلابي في معسكر ثقافي    "الدهمشي" يطّلع على جهود فرع الصحة بجازان ويشيد بدوره في متابعة كفاءة الخدمات الصحية    أكد أهمية مناهج التعليم الديني.. العيسى يشدد: تحصين الشباب المسلم من الأفكار الدخيلة على "الاعتدال"    «الشؤون النسائية بالمسجد النبوي» تُطلق فرصًا تطوعية    ترامب يحث الكونغرس على "قتل" إذاعة (صوت أمريكا)    أقوى كاميرا تكتشف الكون    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خرائط التقسيم غير ممكنة جغرافياً وبشرياً . عناصر وحدة العراق أقوى من مخططات التقسيم
نشر في الحياة يوم 20 - 02 - 1998

من يريد تقسيم العراق؟
يطرح هذا السؤال كلما تأزمت العلاقة بين الولايات المتحدة ونظام صدام حسين ولاحت في الأفق بوادر ضربة عسكرية، بصيغة اتهام ضد المعارضة العراقية التي تسمع من خارجها من العراقيين والعرب الموالين لنظام صدام انها تريد تقسيم العراق والاجهاز على وحدته في وقت لايضم اي برنامج لأي حزب عراقي مثل هذا الهدف فضلا عن ان كل الاحزاب تتضّمن برامجها هدف الحفاظ على سيادة العراق ووحدته واستقلاله.
الواقع انه لا الولايات المتحدة ولا غيرها من الدول اكثر حرصاً من المعارضة العراقية ومن العراقيين على وحدة تراب بلادهم. والولايات المتحدة لا تتمسك بوحدة العراق الا حينما تريد ان تبقي صدام حسين شبحاً على المنطقة. واذا اقتضت مصالح الولايات المتحدة تقسيم العراق الى 18 دويلة فإنها ستروّج لذلك، حتى عبر عراقيين سيذهبون الى تزوير التاريخ قائلين ان العراق كان هكذا منذ عهد السومريين والاكديين والبابليين والآشوريين.
هكذا تصبح وحدة العراق هماً وشاغلاً وطنياً في مختلف الظروف، لأنها من الاعتبارات الاساسية الوطنية جغرافياً وسياسياً.
يرتبط بهذا ان العراق ليس بلداً قائماً في فراغ جغرافي وسياسي، وبالتالي فإن امتداداته الاقليمية هي امر واقع، سواء كانت هذه الامتدادت جغرافية او قومية او دينية او ثقافية. وعلى هذا الاساس فإن وحدة العراق هي جزء من وحدة امتداداته هذه، وتقسيمه يعني اعادة النظر بالضرورة بتقسيم امتداداته الاقليمية المختلفة، العرقية والمذهبية والثقافية والعشائرية.
يرتبط بهذا ايضاً ان ارادة التغيير في العراق هي ارادة عراقية اولا واخيرا، سواء استطاعت هذه الارادة ان تحقق ذاتها ام لا. وهذا لا يعني ابداً قبول حكم صدام حسين الجائر واللاشرعي، وبالتالي فإن التغيير في العراق، في حال حصوله وفق خطة خارجية، لا يعبّر تماماً عن ارادة الشعب العراقي، لأنه سيواجه تسديد ديون الحكم القادم مقابل ما يدفعه الآن بسبب هذا الحكم. ولأنه سيكون مشروعاً لمشكلة حكم جديدة ستعيد اطروحة تقسيم العراق من جديد. ان وحدة العراق ليست همّا دولياً بل تقسيمه.
العراق وحدة سياسية وكيان دولة واحدة في سياسة جميع الاحزاب العراقية وأمر تقسيمه في الواقع مطروح في الفكر الخارجي وليس في الفكر العراقي، ويستخدم كشماعة لتعليق كثير من السياسات المجحفة الخارجية عليها، واكثر من ذلك فإن سياسة صدام واجراءاته وتمسكه بالسلطة وبقاءه في الحكم هي خطر واقعي يهدد سلامة وحدة اراضي العراق، وهنا لا بد من القول ان مشروعاً مغامراً للتغيير من قبل القوى الخارجية يمكن ان يطيح بسلامة وحدة الاراضي العراقية ووحدة الشعب العراقي اذا ما فشل في الاطاحة بصدام حسين.
مصلحة الشعب العراقي التي يتحدث عنها كثير من غير العراقيين وفق عواطف واغراض متعددة من دون ان يؤخذ العراقيون انفسهم في الاعتبار، تعني التمسك بوحدة العراق لأن هذه الوحدة هي ضمانة لجميع قومياته وطوائفه وجماعاته الثقافية وعلينا الاعتراف بأنه لم تشهد اية معارضة عربية تجريحاً من العرب كالذي تشهده المعارضة العراقية التي يبدو انها وقعت ضحية لتاريخ طويل من ثقافة الاستبداد واعلامه اللذين مثلهما ودعمهما صدام حسين بالمال والرعاية والتوجيه الشخصي واصبح اسقاط نظام صدام حسين يعني تقسيما للعراق.
اذن هل تكون نتيجة الضربة الجوية الكبرى التي تعتزم الولايات المتحدة توجيهها الى العراق تقسيمه الى دويلات اربع شيعية وسنية وكردية وربما تركمانية ايضاً بنفوذ تركي ؟
منذ حرب الخليج الثانية تشيع مفاهيم وتتداول مصطلحات مثل الشيعة والسنة والاكراد وكأنها ثلاث أمم في ثلاث أراض موحدة قسراً منذ نشأة الدولة العراقية الحديثة في مطلع العشرينات. وتطرح بين فترة واخرى أطروحة ان ضمان الامن والاستقرار في المنطقة وضمان حقوق الانسان تكمن في فك هذه الوحدة القسرية. كما يطرح في الوقت نفسه ترابطا بين سقوط صدام حسين وتقسيم العراق.
غير ان الواقع السياسي والديموغرافي غير ذلك تماماً. فمشكلة نظام الحكم في العراق اليوم لا تقوم على جمع قسري لتنافر العناصر الثلاثة الشيعة والسنة والاكراد. فالاستبداد لم يوحد العراق في كل تاريخه. انما كان يهدد بين فترة واخرى، كما يحدث في كل دول وبقاع العالم، وحدة واستقرار البلاد. وان مشكلة الحكم تكمن في نهجه السياسي وعدوانيته في الداخل والخارج وليس على الاندماج القسري الذي تفترضه قوى خارجية تجعله شماعة لتعليق طموحاتها في تفتيت بلد موحد تاريخياً وسياسياً واقتصادياً وسكانياً.
وعلى عكس الاطروحات "الليبرالية" الزائفة و"العنصرية" المتطرفة فإن وحدة العراق بشكله هذا هي وحدة "تاريخية" سياسياً واقتصادياً وسكانياً وثقافياً. واذا قلنا ان الدولة العراقية الحديثة ظهرت الى الوجود في مطلع العشرينات فان هذا يعني خروجه من تبعيته للسلطنة العثمانية التي حكمت دولاً في آسيا وافريقيا واوروبا كان وضعها مثل وضعية العراق في تبعيته للعثمانيين. والعراق، حتى في هذا المعنى "الليبرالي" المزيف، و"العنصري" المتطرف سبق قيام تركيا الحديثة باربع سنوات وسبق قيام اسرائيل بربع قرن.فهل تكون وحدة العراق أهشّ من وحدة اسرائيل ووحدة تركيا؟
ان "اشاعة" تقسيم العراق من قبل بعض اطراف المعارضة ليس لها وجود اطلاقاً، فليس هناك عراقي واحد يمتلك شجاعة التصور بأن العراق يجب تقسيمه. كما ان كل برامج الاحزاب العراقية تنص على احترام وحدة وسيادة واستقلال العراق والحفاظ عليه كحق مقدس. وحتى بعض الاحزاب التركمانية التي نشأت في ظروف احتلال الكويت تعتبر تركيا مثلاً الوطن الام في ادبياتها فإنها تعتبر العراق الموحد وطنها.
رغم ان التاريخ سيفيدنا كثيراً في الحديث عن صعوبة تقسيم العراق الا ان حديث التاريخ طويل جداً نكتفي منه بالاشارات العابرة.
تم التعامل مع العراق كوحدة سياسية وجغرافية وبشرية منذ دويلات المدن. وتعززت هذه الوحدة في ظهور الامبراطوريات الكبرى البابلية والاكدية على وجه الخصوص. واذا وصلنا الى الفتح الاسلامي نجد ان التعامل مع العراق كوحدة سياسية وجغرافية وسكانية كان امراً واقعاً اذ تذكر كتب المؤرخين المسلمين عن الفتوح انه استكمل فتح العراق كوحدة سياسية وجغرافية وسكانية بعد معركة جلولاء التي عبر فيها الساسانيون حدود العراق الى نهاوند، وبذلك تم فتح العراق في ثلاث مراحل بعد معركة القادسية واكتمل حين اتجهت قوة من الموصل بقيادة عتبة بن فرقد السلمي بعد فتح الموصل وتكريت الى شهرزور والجبال فأكملت فتح العراق المعروف جغرافياً وسكانياً وسياسياً آنذاك.
وحافظ الفاتحون المسلمون على التركيبة السكانية للعراق وعززوا من التلاحم بينها في اطار الدين الجديد. وأضيف الى عرب العراق قبل الاسلام من قضاعة في الحيرة والحضر قرب الموصل واياد الحيرة وتكريت والموصل وبكر بن وائل الأبّلة قبل انشاء البصرة، وهيت على الفرات في البادية الغربية،الى اطراف الجزيرة في الشمال وربيعة غرب دجلة من الموصل الى نصيبين والخابور ومضر بمحاذاة الفرات في عانة وعبد القيس في اسفل العراق عرب نزحوا مع الفتح وبعده من هذه القبائل وبطونها المختلفة غسان وخثعم وكندة والازد ومذحج وحمير وهمدان وتميم وبنو اسد وغطفان ومحارب وكنانة وطئ وتغلب وعامر وثقيف وخزاعة وقريش ونمير وبنو كعب ودارم وبنو العم وشيبان وعجل وعنزة وهذيل وباهلة وغيرها.
وتعامل المسلمون مع العراق كما عرفوه في عصورهم الجاهلية المختلفة والذي تردد باسمه الحالي في اشعارهم وموروثهم وخطبهم وتجارتهم وعرفوا سكانه واختلاف قومياتهم ولذلك فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما اراد مسح العراق طلب من له بصر وعقل يضع الارض مواضعها فأجمع الصحابة على عثمان بن حنيف فولاه مسح العراق وارسل معه حذيفة بن اليمان.
وتشير الوقائع الى التعامل مع حدود العراق الحالية تقريباً اذ مسح عثمان المنطقة الواقعة بين الخابور شمالاً وحلوان بعد خانقين وجلولاء على الحدود الايرانية شرقا والعذيب فوق السماوة قرب الحدود مع المملكة العربية السعودية غرباً، والخليج العربي جنوباً. وبلغت مساحة الارض المزرعة في هذه الحدود 36 مليون جريب والجريب يساوي 1952 متراً مربعاً وهي مساحة تزيد قليلاً عن المساحة الحالية للعراق ببضعة عشرات الكيلومترات.
وعلى هذه المساحة احتسب خراج العراق وتم التعامل مع الولاة من الناحية السياسية والاقتصادية على اساس المساحة والحدود هذه. وظلت اقتصاديات العراق خاضعة لهذا الوضع على مر السنين والتغيرات.
ان الوضع الديموغرافي للعراق لم يتبدل بصورة ملفتة للنظر. صحيح ان الحراك الاجتماعي كان حيوياً وفعالاً في بعض الاحقاب والأزمان الا انه لم يشهد تغيرات عميقة حتى بعد هجرة قبائل كبيرة من نجد اليه في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وهو تحت السيطرة العثمانية.اذ ان الحالة الطبيعية للعراق وتضاريسه لعبت دوراً في وحدته وليس العكس.فالخصوبة والاراضي الزراعية تشمل وسطه كله من الشمال الى الجنوب بمحاذاة النهرين دجلة والفرات والبادية. والجبال تشمل بعضاً من أطرافه فتغذي السهل الرسوبي بالتفاعل بين الداخل الزراعي والخارج الرعوي قياساً الى الأنهر ومياه الري. لذلك فإن توزيع القبائل العراقية فرضته الحال الطبيعية. وهي التي قسمت القبائل نفسها على المناطق المختلفة اذ أصبح التداخل السكاني والطوبوغرافي عاملاً من عوامل الوحدة السياسية والاقتصادية والسكانية للعراق.
والواقع ان وحدة العراق استعصت على التقسيم حتى تحت ضربات أعتى الامبراطوريات والجيوش الغازية منذ تاريخه القديم مروراً بالمغول بمختلف فروعهم ودويلاتهم والعثمانيين وانتهاء بالبريطانيين. فاضطر العثمانيون الى تنظيم اداري يتيح لهم قمع التمردات القبلية البعيدة عن مركزهم فوضعوا ولاية بغداد على رأس ثلاث ولايات هي الأعمدة الرئيسية لوحدة العراق السكانية والحضارية والاقتصادية لإتاحة الفرصة لبغداد حتى لا تسقط فيسقط العراق كله من يد الدولة العثمانية.
كانت بغداد رمزاً لوحدة العراق من الناحية السياسية لذلك حولوا الموصل والبصرة الى ايالات او سناجق او متصرفيات تحت سلطة بغداد لضمان عدم امتداد التمردات اليها لأن سقوطها يعني سقوط العراق برمته.
ان توزيع السكان في العراق لايعتمد على استقلال عرقي او طائفي او ثقافي. فاذا ألقينا نظرة على العراق داخل خطوط العرض وخصوصاً 32 و36 اللذين اعتمدا في فترة سابقة لحظر الطيران فإننا نجد انها لم تكن خطوط تقسيم سكاني وانما كانتا فقط خطين يحدان بغداد من الجنوب والشمال. اما علاقتهما بالتركيب السكاني فهي علاقة وهمية. اذ تقوم فوق خط 36 أهم أربع مدن عربية وكردية. وتضم هذه المدن ضواحي بدوية عديدة. ففوق خط 36 تقوم الموصل المدينة العربية التقليدية التي تسكنها قبائل عربية قبل الفتح الاسلامي. وتقوم الى الغرب والجنوب من مدينة الموصل مدن صغيرة وبواد تسكنها قبائل شمر العربية تشكل غالبية سكانية سنية تمتد الى الجنوب حتى غرب بغداد وتختلط مع الدليم، وتتعدى ذلك الى بعض مناطق الوسط والجنوب حيث يتحولون الى شيعة. بينما يسكن اليزيديون في جبل سنجار غرب الموصل وهم جماعة دينية وثقافية تاريخية لها وضعها الخاص بينما يسكن قسم آخر منهم في الجانب الشرقي لدجلة شمال شرق الموصل في عقرة وعين سفني والشيخان التي تعتبر المركز الديني لهم. وتنتشر قبائل ربيعة والجبور وشيبان وطئ في الموصل وضواحيها مثل الشرقاط التي تسكنها غالبية من الجبور العرب السنة والشيعة، بينما نجد الشيعة في ربيعة وطئ. وفوق خط 36 وبعيداً عن الضفة الشرقية لدجلة وفي الزاوية الشمالية الشرقية للعراق تقوم اربيل والسليمانية المدينتان ذات غالبية كردية في تضاريس جبلية تتصل بمثلها في تركيا وأقل منها في ايران وهي جعلت الفاتحين المسلمين يطلقون على سكانها "أهل الجبال". وعلى رغم الغالبية السنية الكردية الا ان الشيعة من الاكراد المعروفين باسم "الفيلية" يغطون مساحات واسعة في مندلي وخانقين وجوارها ويمتدون الى بدرة وجصان والكوت الى جنوب وسط العراق. وتنقسم اللغة القومية للأكراد الى لغتين سورانية وبهدينانية يتوزع نطقها على مناطق منفصلة احياناً. اما على حدود دجلة الغربية فتقوم قبائل عربية متعددة اكبرها العبيدات والعزة والجبور ويسكنون مع بطونهم وأفخاذهم في مساحة تشمل وسط المنطقة فوق خط 36 وتغطي محافظة كركوك وضواحيها تقريباً تغطية كاملة اذ تشغل الجزء المتبقي في كركوك الجماعة التركمانية التي تنقسم الى جماعات شيعية وسنية بدورها اضافة الى وجود كردي في كركوك ووجود آشوري ايضاً اذ تضم المدينة في هذه الحالة اربع مجموعات قومية عربية وكردية وأشورية وتركمانية ومجموعتين مذهبيتين هما السنة والشيعة ومجموعتين دينيتين هما المسلمون والمسيحيون. وفوق خط 36 نفسه يسكن الآشوريون وهم من سكان العراق القدامى الى جانب العرب والاكراد وتمتلئ مناطق فوق 36 بالمسيحيين من مختلف المذاهب من سريان ونسطوريين وكلدان وروم كاثوليك وروم ارثوذكس وغيرهم في الموصل وكركوك واربيل ودهوك نشأت مشكلة الآشوريين اول مرة عام 1933 من دهوك. وفوق خط 36 تقوم مدينة تكريت وهي من اقدم مدن العراق منذ العهد الاكدي وهي مدينة عربية سنية ومدينة سامراء السنية ذات المراقد الشيعية للامامين علي الهادي وجعفر العسكري ومكان غيبة الامام الثاني عشر المهدي. وفي حدود خط 32 الى الجنوب الغربي من بغداد تقوم مدينة كربلاء الشيعية حيث مرقد الامام الحسين ومدينة الكاظمية في شمالي بغداد التي تضم مرقد الامام السابع للشيعة موسى الكاظم والامام التاسع محمد الجواد ومعروفة باسم الكاظمين او الكاظمية. وفي ضواحي الكاظمية تنتشر عشائر عربية سنية وشيعية عديدة وتمتد الى كركوك والحويجة وبيجي وصولاً الى الموصل وسنجار وتلعفر لتختلط بها عشائر تركمانية في بعض المناطق. وأهم واكبر هذه العشائر العربية شمر الجربا التي تمتد على مساحة شاسعة وتتركز حول مدينة الحضر التاريخية والجبور والنعيمات وطئ والعبيد والعزة وزوبع والدليم والجنابيين اذ تمتد مناطق سكن بعضها الى الجانب الغربي من دجلة عند الموصل وتنزل الى المسيب وحدود كربلاء. وخارج خط 32 تقوم مدينة النجف الشيعية المقدسة. اي ان المراكز الشيعية موزعة على ثلاث مناطق بين خطي العرض المذكورين، بينما تقوم الى الغرب فوق خط 36 مدينة عانة وهي كذلك من اقدم مدن العراق ومذكورة عند البابليين ومدينة حديثة وهما مدينتان عربيتان سنيتان على الحدود مع سورية.
هذه التركيبة المعقدة قومياً ومذهبياً ودينياً في منطقة واحدة تقع فوق خط 36 حتى ليبدو خط 36 بالنسبة للوضع الديموغرافي للعراق خطاً وهمياً لم تقصد القبائل والمذاهب والأديان ان تتخذه قبل عشرات القرون خطاً لسكنها كما افترضت ذلك الولايات المتحدة عام 1992 وقسمت العراق جوياً بموجبه.
ان وضع خطوط فاصلة لديموغرافية وطوبولوجية العراق ضرب من الوهم الجغرافي والانثربولوجي والاجتماعي والثقافي، من دون انكار التمايز القومي والحقوق القومية لأحد. وإنما المقصود الاشارة الى حقائق طوبولوجية وطوبوغرافية وسكانية واقعية وتاريخية. ويتصل بذلك ان شرق العراق من فوق خط 36 شمالاً الى خط 30 جنوباً، وغرب العراق على الخطّين نفسهما يضمان خليطاً من القبائل والاديان والمذاهب. ففي الشرق ومن فوق خط 36 من تكريت والدير والزاب ونهر العظيم وبلد ومندلي وخانقين تمتد قبائل الاكراد الفيلية الشيعية والقبائل العربية شمر طوقة والعزة وزبيد وبني لام وكعب وربيعة وتميم والجبور اذ تنتشر بعضها في اعماق وسط العراق وجنوبه الى حدود الخليج والكرد الفتلة، وهم من اصل كردي تعربوا بالاختلاط والتحالف. ثم تمتد القبائل والمذاهب الى الجنوب لتصل الى مكان وجود طائفة الصابئة في حدود محافظة العمارة تحت خط 32 بمسافة عميقة تصل الى البصرة حيث يسكنها مسيحيون بعدد ملحوظ. بينما تسكن العشائر العربية مناطق الاهوار الموغلة في القدم وتتكون من مياه دجلة والفرات في لقائهما في شط العرب.
أما من الجانب الغربي وتحت خط 32 فتسكن عشائر المنتفك السنية التي هاجرت من نجد قبل قرنين او اكثر واستقرت في مدينة الناصرية وبواديها حتى البصرة كذلك قسم من عنزة المهاجرة من نجد ايضاً والخزاعل الشيعة وأصلهم من نجد ايضاً وبني خالد من الاحساء وبني حجيم الذين يضمون عشرات الافخاذ التي تنتشر من بادية السماوة لتمتد الى الرميثة والديوانية ومناطق اخرى ايضاً بينما يمتد الجبور من الخابور في اعالي العراق الى كركوك وبعقوبة وبغداد والحلة والديوانية وينقسمون الى سنة وشيعة في اغلب مناطقهم.
الى ذلك فرض الموقع الطبيعي للعراق وتضاريسه ومصادر المياه والخصوبة وضعاً مركباً للسكان فيه جعلت التداخل غير منفصل بحدود طبيعية. فعدا عن بعض التضاريس الجبلية الوعرة في أعلى شمال شرق العراق تمتد سهوب السهل الرسوبي من الشمال الى الجنوب حيث الزراعة في مختلف طرق ريها ومنتوجاتها الفصلية وحيث المدن المستقرة وبواد وهضاب هضبة الجزيرة الى الشمال الغربي والبادية الغربية الى الغرب حيث الرعي وتربية الاغنام ومضاهر البداوة والجبال في كردستان العراق فوق اربيل واربيل من المدن القديمة التي ذكرها السومريون باسم اربيللا بينما بنيت السليمانية في نهاية العهد العثماني من قبل الوالي سليمان حيث سميت باسمه. وتعتبر كركوك من المدن القديمة ايضاً في بلاد مابين النهرين.
وكانت الحالة السكانية للعراقيين على ما هي عليه تقريباً منذ القدم مع استيعاب للهجرات التي تحدث لأسباب طبيعية مثل الجفاف غالباً. وكان التقسيم الأداري للعراق في ظل السيطرة العثمانية يولي بغداد النفوذ الاكبر كعاصمة له.
وتشير وثائق من العهد العثماني الى ان ايالة البصرة وايالة الموصل او سنجق البصرة او سنجق الموصل حسب التغييرات الادارية المختلفة لم تصبح بغداد سنجقاً ولا ايالة انما ظلت ولاية دائما والايالة والسنجق تعادل القضاء حالياً كانت تتبع بغداد.
وتشير رسائل من شيوخ المنتفك من آل السعدون في السماوة والناصرية والبصرة موجهة الى والي بغداد لشؤون ادارية تخص البصرة باعتبار ولاية بغداد هي المرجع في الشؤون الادارية، كما تشير رسائل من والي بغداد مدحت باشا الى رئيس عشائر شمر في الموصل لاستلام المشيخة في شهرزور في كردستان العراق.
هذه الوضعية السكانية والقومية والمذهبية والدينية المتداخلة والمعقدة تجعل من مشروع التقسيم مشروعاً يقترب من الخيال اكثر مما هو واقع، صحيح ان القوة يمكن ان تعبر على الحقائق المادية والمشاعر الانسانية الا ان هذه القوة ستكون امام حسابات جديدة قد تكون أغفلتها ولم تأخذها في الحسبان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.