} تدور احداث رواية الكاتب الجزائري واسيني الاعرج الجديدة تصدر عن دار الاداب بين الوطن الممزق والمنفى الاوروبي. العربي هذه الايام قد يتحول رحالة من دون ارادته.المثل الاوضح كان الفلسطيني.الوقت اضاف العراقي والجزائري و... هنا قسم من الرواية: كان اسمها فتنة. نهايات كانون الأول ديسمبر. منذ عشرين سنة بالضبط كانت هنا، على حافة هذا الرمل المنسي، قبل ان تنطفئ بين موجات بحر الشمال. ما الذي أيقظها فيّ الآن وأنا على عتبة التلاشي؟ شيء ما يدعوني للتفكير فيها بعمق وحزن، شيء ملتبس لا أعرف سرّه سوى ان امطار امستردام في هذا الوقت بالذات تكون باردة جداً. الآن، كل شيء هدأ، ونزل الضباب على مدينة الجزائر للمرة الأخيرة بعد ان كفّن الشوارع والساحات والحارات الباردة والزوايا الخلفيّة، واستسلمت الروح المثقلة بأيام ديسمبر الأخيرة. أنا كذلك اريد ان ارتاح قليلاً وأن أشفى منكِ بالمنفى وبقليل من شطط الكتابة. لقد تعبت. بالفعل تعبت ولم أعد قادراً على التحمّل، لقد صرت هشّاً مثل غيمة. ياه؟ ما اصغر العالم. هكذا دفعة واحدة من النسيان الى مهاوي بحر الشمال البعيد وأخيراً الى شمس المحيط الهادي المندّاة بعرق الشجر ورائحة الملح؟ لا؟ لا بدّ ان يكون في الأمر التباس ما. شعرت بانكسار عميق فجر هذا اليوم وأنا ألملم شؤوني الصغيرة، وأنزع للمرة الأخيرة، من على الحائط المتآكل، صور الوالد وزليخة وأمي وإطار عزيز المذهّب الذي كدت انساه في الزاوية لولا تلك الالتفاتة غير المحسوبة واللوحتين اليتيمتين لفان غوخ اللتين اهداهما لي صديقي العشّي، الفنان الذي هاجر الى كندا حزيناً: آكلو البطاطا التي رسمها في الحقبة الاكثر سوداوية، لونها الرمادي يشبه الرماد الحقيقي. العشّي كان يجد متعة كبيرة في ترجمة les pommes de terre بما يقابلها حرفياً باللغة العربية: تفّاح الأرض. يقول اكبر نبتة مظلومة، مثلها مثل الحمار الذي يتحمل كل حماقات البشر وفي النهاية يُهان بعنف. هؤلاء القوم الذين يتوالدون كالجرذان، لا يعرفون ما يأكلون؟ لولا تفاح الأرض الذي يتنكّرون له، لماتوا جوعاً هم الذين لا يستطيعون شراء التفاح الحقيقي، بل حتى شمّ رائحته. سيرتفع شأن البطاطا يوماً وتصير اثمن من التفاح وسيندم الذين يبيتون عليها ولا يعترفون لها بحق الوجود. كلما رأيت هذه اللوحة تذكرت العائلات الجزائرية التي تتخبأ وراء الحيطان المخرّمة لتأكل البطاطا وفي الصباح تتنافخ باللحم والضولما والشطيطحا. في بلادنا مثل يقول: إلبس مليح لوجه الناس وكلْ الزبل فلن يراك أحد. ولوحة: الرجل ذو الأذن المبتورة وهي تجسّد حال الهستيريا التي ألمّت بفان غوخ وهو يواجه انانية صديقه غوغان. كان رأسه محاطاً بضمادة بيضاء، يكزّ بشفتيه اليابستين على غليونه الخشبيّ. أية طاقة خبّأها هذا الرجل للحظة اليأس الأخيرة لينزع أذنه من دون تردد ويسلمها للمومس الوحيدة التي قبلت به في مدينة آرل؟ كان مثل الطفل يتحسس ألم النار للمرة الأولى ويتعلم كيف يلعب في حارة الموت، هكذا يبدأ الانتحار الذي نخافه ونشتهيه. نتمرّن على الألم بالبتر والتعذيب الذاتي في انتظار الحماقة الكبرى. وأنا أستعد لمغادرة البيت للمرة الأخيرة، سمعت بعض الزغاريد التي تشبه زغاريد الأيام الماضية. ذكّرتني بسنوات انتهى صراخها وبقي دمها عالقاً في الذاكرة. لقد عاد القتلة هذا الفجر واستلموا بعض شرايين المدينة وكأن شيئاً لم يكن وانزوى الضحايا في بيوتهم يعيشون مشاهدهم الجنائزية ويتأملون تفاصيل القيامة من وراء زجاج النوافذ الموصدة وهم لا يصدّقون. باستقامة هشّة، أقف عند عتبة البيت، في يدي حقيبتي التي لم ترَ النور منذ سبع سنوات. بياض كلّي في رأسي. لم أتذكر الشيء الكثير من تاريخي المتواضع سوى وجه عمّي...، عند مدخل سوق كلوزيل قبل ان يُعثر عليه مصلوباً في الزاوية المظلمة التي هجرها بائع الصحف منذ سبع سنوات، وأخي الصغير عزيز الذي مات وهو يبحث بعينيه في المارة الذين كانوا يهجرون بسرعة محطة القطار، عن أمه لكي تسنده على ركبتها للمرة الأخيرة ويضع كفّه الطفولية على جبهته ليوقف النزيف المتدفق بغزارة. عندما اغلقت الباب للمرة الأخيرة، ولا أدري لماذا أغلقته، لم يعد فيه شيء يذكر ما عدا رائحة التربة والطين والمعادن المحروقة ومواد التلوين، شعرت بقلب صاحب البيت، يهتزّ فرحاً. كان ينتظر بفارغ الصبر قتلي ليستلم بيته، لكن من سوء حظه ان عمري طال اكثر مما توقع. قد تكون الصدفة هي التي آزرتني ووقفت ضده. منذ عشر سنوات وهو يحاول اخراجي حتى يئس مني. يملك داخل العاصمة مساكن عدة مبثوثة هنا وهناك. كلها اشتراها بالدينار الرمزي. وكلما تخلص من مؤجر اغلق البيت وأعاد ترميمه في انتظار يوم السعد. في لحظة من اللحظات فكرت ان اؤدّبه وأفعل ما فعله معه العشّي ليلة سفره الى كندا. قال لي وأنا أودّعه في المطار: - بقّار كغيره من البقّارين. ماذا كان سيفعل لو قُتلنا؟ سيكون اسعد انسان في المدينة. ليعرف اليوم على الأقل اننا نحن كذلك نملك طاقة لا حصر لها للأذى... ترك البيت لأحد اقاربه في الجيش. في المساء نفسه جاء الرجل بعائلته وقعد هناك على اساس انه ضيف. وعندما عرف صاحب البيت اللعبة، حاول ان يقاضيه، ولكنه بمجرد ان تأكد انه ضابط، بلع الهواء وصمت في انتظار رياح اخرى اكثر دفئاً. عندما وضعت رجلي على العتبة المؤدية الى الساحة العامة رأيته معلقاً على شرفة النافذة المواجهة. لم يقل شيئاً ولكني عندما ابتعدت قليلاً سمعت وقع خطواته وهو يهرول لينقضّ على البيت. منذ ان سمع بسفري وهو يرابط بالقرب من الدار ومن حين لآخر يدخل ليطمئن عليّ من اهوال الدنيا التي عادت من جديد. لم يرتح إلا عندما سلّمته نسخة من المفاتيح. - مسافر غداً إذاً. - وبلا رجعة. هذه البلاد ليست لنا يا عمّي الطاهر. أدركت هذه الحقيقة متأخراً ولكني ادركتها على الأقل. - ستخسرك البلاد. - لا أعتقد... - سنخسرك نحن على الأقل. - يكثر خيرك. من اليوم تستطيع ترميم بيتك كما تشتهي. - مش هذا هو المهم ... ياسين وليدي اسمح لي نطلب منك... - توقيع وثيقة إخلاء السكن حتى تستطيع دخوله قانونياً. لا تهتم، فقد فكّرت في كل شيء. سلّمته الوثيقة. عبرها بعينيه بسرعة ثم انطفأ ليظهر هذا الصباح معلقاً في الشرفة كالأثاث المتآكل. البناية التي أسكنها كانت عبارة عن مانيفاكتورة صغيرة لصناعة السجائر والشمّة. في الأصل كان يملكها قبل الاستقلال رجلان: مالطي وإسباني وكان هو عاملاً بها ومكلفاً بالعلاقات مع الدكاكين العربية الصغيرة المبثوثة في المدينة. مع فوضى الاستقلال خافا فطلب منهما ان يكتبا له عقد شراكة يستطيع بموجبه الدفاع عن المانيفاكتورة كملكية خاصة والحفاظ عليها ريثما تستتب الأمور ويعودان الى المصنع. الإسباني وقّع وذهب الى بلاده بينما المالطي رفض والتحق بالفيالق الأولى للمنظمة العسكرية السرية O.A.S وقُتل عند باب المانيفاكتورة. لا احد يعرف كيف تمّ ذلك. بعد سنتين من الاستقلال عاد الإسباني كاميلو Camillo الى المانيفاكتورة فوجدها حُوّلت الى شقق صغيرة وعندما استفسر الأمر ولم يجد من يستمع إليه، استنجد بالقضاء. وظلّ بين مؤسسات الدولة اكثر من سنة. وذات صباح رآه الناس في اعلى البناية المطلّة على ساحة المعدومين وهو يضع يديه على وجهه ثم وهو يتهاوى من الأعلى ويرتطم بالأرض ككيس خرّوب يابس ليُدفن بعدها في مقبرة المسيحيين ويُنسى أمره. فضّلت ان انزل الدرج بسرعة وألاّ ألتفت الى ورائي. عندما نريد ان ننسى دفعة واحدة علينا ان نتعلم كيف نتفادى النظر الى الخلف حتى لا نُجرّ الى نقطة البدء. كل التفاتة هي محاولة يائسة للبقاء. تساءلت وأنا اشمّ رائحة البحر المتسرّبة من بين شقوق الشوارع التي تلتقي لتضيق ثم فجأة تنفتح على البحر الذي يندفع أمامك بشكل فجائي بضبابه وحركة بواخره المتناوبة وصرخات البحّارين والصيّادين القادمة من ناحية الأميرالية: ترى اي موعد ينتظرني اليوم؟ موعد مع امرأة كانت تكبرني بأكثر من عشر سنوات، عرفتْ كيف تصنع من جنونها قدراً هي وحدها تعرف تبعاته بحثاً عن قسط من الراحة كم اشتاقت اليه، امرأة سرقت بعض راحتي وأوصلني غيابها الى بوابات الجنون، ام موعدي اليوم سيكون مع قبر معزول وسط كمّ من القبور التي لا تحمل شواهد ولا اسماء؟ ام مع بياض تصطدم أسئلته بالخوف الدائم، كلما لمسته ازداد بياضاً ونصاعة وتلاشياً؟ أستطيع اليوم ان اقول اني ضيّعت موعداً حاسماً مع الحياة، فقد سلكت طريقاً غير الذي كان يجب ان اسلكه. انا سعيد بهذه المزالق المتكررة التي منعتني من الوصول اليك. فقد وفّرت لي قدراً كبيراً من الشجاعة للكتابة ونحت الريح الساخنة وغمس يدي عميقاً في التربة التي كانت تحضّرها امي وزليخة. وحده الفنان يملك هذا الحظ وهذه الهشاشة التي لا توصله إلا الى مزيد من الهبل. - هل تقرأ يا سيدي؟ أتاني صوتها من بعيد. نبراته هي هي لم تغيّرها السنوات ولا الكآبات المتتالية ولا الصدفة العجيبة التي قادتها نحو بحر الشمال. من أين ابدأ؟ كل الحروف صارت غامضة ومرتبكة مثل تمائم المجانين لا تؤدي الى بعضها بعضاً. الكثير منها، من كثرة لمسه وهشاشته، اندثر مخلّفاً ظلالاً لحروف يمكن ان تُقرأ على أوجه مختلفة. فقد تفككت في معظمها وكأنها أصيبت بالجنون نفسه الذي استقر في الذاكرة. كلما اصبنا بمرض الحب اختل منطق الأبجديات الصامتة وحلّ محلها ضباب نتمنى ان نضعه كله في كمشة يد كالقطن استعداداً لسجنه في جيب اي قميص خفيف، ولكنه يتسرب من بين الاصابع بهدوء من دون ان نحصل على شيء منه. - هل تقرأ يا سيدي؟ - لا. تسرّبت الكلمة مني باردة كالقلق. اريد ان انسى كل شيء. لقد ذهب الذين كنت احبهم وانطفأوا واحداً واحداً وعاد القتلة الى المدينة يتسللون في الشوارع ويقفون عند مداخل العمارات كما كانوا يفعلون قبل عشر سنوات. هل ننسى عندما نشتهي ان ننسى؟ لا يزال الدم يملأ القلب وعيوننا مثقلة بالمشاهد. الأرض التي عرفتها منذ سنوات، تغيّرت كثيراً وسقطت تربتها من يدي كورقة محروقة. أجرّب الآن هذه السماء ربما كانت اكثر دفئاً. لقد نسيت أو كدت أن هناك سماء يمكن ان ندفن فيها بعضاً من الأشواق التي نخاف عليها من العطب. نحن الآن على ارتفاع عشرة آلاف متر، وسرعتنا المتوسطة تقدّر بتسعمئة كيلومتر في الساعة. السماء ليست بكل هذا الجفاء الذي تصورته، ما زال هناك متسع للشفاء من جراحاتنا. كم تبدو الدنيا واسعة من خارج هذه الرقعة الضيقة من التراب التي اسمها الجزائر. مساحة صغيرة تحاول ان تحتضن بحراً، كلما امتدت نحوه، زاد اتساعاً وغموضاً، يتطاحن داخلها القتلة والأبرياء... الطائرة غادرت مدرجها منذ اكثر من نصف ساعة. المدينة التي عذّبتني منذ اكثر من اربعين سنة تبدو الآن مستسلمة تحتي، تتضاءل كغيمة هاربة. كل ما كان كبيراً صار الآن في منتهى الصغر، لعباً متراصة بانتظام وأحياناً في فوضى. الشاطئ الممتد في شكل نصف دائري والذي كان مسرحاً للحروب الفائتة والخروج والدخول المستمر لأقوام كثيرة، يتضاءل الآن تاركاً مكانه لزرقة من دون حدود وحمرة أرض لا شيء فيها يوحي أنها مسكونة ببشر يتحابّون وكلما تذكروا انانيّاتهم الصغرى تقاتلوا باستماتة. من هذا الارتفاع، حتى مترو الجزائر الذي مات قبل ان يرى النور لم يعد هناك اي شيء يوحي بوجوده. مثل حال البلد، حفر دائم من دون الوصول الى نهاية النفق. قيل ان السبب هو فائض المياه الجوفية بينما على سطح الأرض كان السكان يموتون عطشاً. سنصل الى زمن يتقاتل فيه المواطنون السعداء على قطرة ماء. سيهجم الأقوياء والمسلحون على الآبار والسدود والمسابح لتقاسم مائها واليائسون سينزلون الى البحر، يشربون ماءه المالح وينتظرون بشغف، تحت قيظ الشمس العسيرة، الموت الذي تأتي به الأمواج المتعاقبة. عندما حكيت قصة المترو لجاري المهندس، عمّار، كما اتصوّرها، أنّبني كثيراً مستنداً الى يقينيات كان من المستحيل التشكيك فيها: أنا اشتغل بعين المكان وأعرف تفاصيل المشروع، يأسك غير مبرر، الصعوبات ناتجة من طبيعة التربة وتجوّفاتها. بعد سنوات جاءني، بوجه منكسر، ليؤكد لي ان البلاد تنتحر وحكاياتي التي رويتها له حول الماء، ستصير حقيقة: تصوّر؟ قال وهو يبتلع ريقه بصعوبة، مدينة تعوم على الماء وناسها يموتون عطشاً؟ الماء الآن يُضخّ نحو البحر ليتلف هناك أملاً في تجفيف التربة. انهم يقتلون المدينة. اليوم كلما مررت على مترو العاصمة، تذكرت كلام المهندس عمّار. لم تعد هناك اية اشارة تحيل اليه. حتى الآليات الضخمة التي تصدّأت مثل أوجه المارة نُزعت من امكنتها ورُدمت الهوّات الكبيرة وحُوّلت الى طريق عام. الشركات التي تعاقبت عليه فشلت نهائياً في الانجاز طوال العشر سنوات المنصرمة، قبل ان ترفع التحدي الشركة الوطنية للمنشآت الفنية الكبرى وينكسر انفها هي بدورها على جدار قلة الخبرة. بعد عشر سنوات أخرى من اليأس، عرفت حجمها وأدركت ان الوطنية الزائدة لا تبني حائطاً صغيراً ولا تزفّت طريقاً محفوراً. اليوم، وبعد عشرين سنة من الانتظار، لم يعد الناس يسألون عن المترو او حفرة الظلام كما يسمّونها وكأنهم بعد كل هذه المدة استيقظوا فجأة من الكذبة الكبيرة التي عاشوها. ... قبل قليل كانت مدينة الجزائر تمتد أفقاً بلا نهاية وتبدو كمدرّجات مسرح يوناني، تتسلّق جبل الملك كوكو وتحتها يسرح البحر الواسع كخشبة مسرح تمنح فرص اللعب لعدد لا يحصى من الممثلين. الآن، كل شيء هادئ، ضجيج المدينة انسحب تاركاً متسعاً اكثر لمحركات الطائرة. أبحث بعينيّ عبثاً عن المدينة الأخرى التي كنت أبنيها كلما زارني عزيز، كان يسميها مدينة الأطياف. أشيّدها بالموسيقى والأحاسيس المرهفة والعشق لتمتد على مدى خمسين كيلومتراً...