} كيف ارتسمت صورة نيويورك في الأعمال الروائية الأميركية؟ وهل استطاع الروائيون الاميركيون على اختلاف اجيالهم ونزعاتهم ان يجسدوا حقيقة هذه المدينة وأن يسبروا اسرارها الدفينة؟ اي نموذج تمثل عاصمة العالم الجديد في النتاج الروائي المتفاوت بين الواقعية والتخييل؟ الإشاعة التي استبقت صدور رواية سلمان رشدي الجديدة "ضراوة"، جاءت بمثابة تحذير بأن الكاتب البريطاني الكبير عازم على تدبّر أمر نيويورك. طبعاً ليس في هذه الإشاعة ما هو بعيد من التصديق او الإحتمال. فلم يتورع رشدي في روايات سابقة له عن "تدبّر أمر" تواريخ أمم ونُظم وحكّام ... وهذا، كما نعلم جيداً، ما جرّ عليه الكثير من الغضب، وهو ما أورثه، من ثم، فتوى تُحلّ اهدار دمه. وهي الفتوى الخمينية التي لم يُرفع سلطانها إلاّ قبل اعوام قليلة، والتي برفعها فقط أمكن الكاتب المتواري عن الأنظار خلال قرابة عقد من الأعوام ان ينتقل الى نيويورك ويقيم فيها لعام او اثنين، آب بعدهما الى لندن خائب الأمل، على الأرجح، وناضحاً، على وجه اليقين، برواية نيويوركية. غير ان الإشاعة لم تبرهن إلاّ على انها كذلك بالفعل. فرواية "ضراوة" الصادرة قبل اسابيع قليلة لا تقتصر عن تأديب نيويورك فحسب، وإنما تخفق ايضاً في ان تكون "رواية نيويورك" اسوة بروايات بومباي ولندن من اعمال رشدي السابقة. فلا تظهر مدينة نيويورك في سياق الرواية الجديدة إلاّ بمثابة جملة من أسماء الشوارع والمطاعم والفنادق والمشاهير الذين لا بد من ان رشدي إستمتع في مخالطتهم ومبادلتهم اسباب المودة والنميمة، على ما هو العُرف السائد في مثل هذه الأوساط. اما ما تبقى من الرواية فليس سوى خليط من حكايات غرائبية وصور كاريكاتيرية في ما يظهر اقرب الى تقليد غير موفق كثيراً لاسلوب سلمان رشدي نفسه. ولكن ان تخفق "ضراوة" في ان تكون "رواية نيويورك" او حتى رواية نيويوركية، فليس بالأمر الذي ينبغي ان يبعث شديد الأسى في قلوب المعجبين بسلمان رشدي والمتلهفين على تلقف نتاج مخيلته الخارقة. وهناك عدد هائل من الروايات تجري حوادثها في مدينة نيويورك او تحيلنا الى المدينة، إما من خلال إعادة وصف الأماكن العامة المتعارف على صورتها أو من خلال سرد أخبار التحولات السياسية والإجتماعية والثقافية التي شهدتها المدينة خلال القرن العشرين - أو حتى منذ نشوئها الى يومنا هذا. غير ان عدداً قليلاً منها نجا، كعمل ادبيّ أو كرواية نيويوركية، من وهدة النسيان. "هذه سنّة الحياة!" قد نقول. نعم، ولكن منذ رواية جون دوس باسوس "تحولّ مانهاتن" أو "نقطة تحوّل مانهاتن" الصادرة في منتصف عقد العشرينات، وحتى رواية بول اوستر "ثلاثية نيويورك"، او مجموعة قصص تاما جاناويتش "عبيد نيويورك"، وكلها صدرت في النصف الثاني من عقد الثمانينات، لم تفلح رواية واحدة في ان تكون رواية نيويورك النموذجية - وبما يجعلها بالتالي قادرة على تمجيد المدينة او تأديبها. ان نيويورك، كما ادرك و. ب. وايت، احد أمهر كتّاب المقالة الاميركيين، قبل قرابة خمسة عقود، مدينة عصيّة على الإحاطة. وقد يحالف المقيم فيها ردحاً من الزمن حظ القبض على مصدر فتنة المدينة، ولكن ليس على معناها التام. وهذه ملاحظة ملائمة تماماً كثيراً ما تنبهنا الى ان ولادة الرواية، ومن دون الاشكال الادبية الاخرى، هي بمثابة إيذان بإستحالة القبض على المعنى التام. فالرواية هي الشقيقة التوأم للمدينة، في ما هي المتروبول، او الحاضرة، ومن ثم فلا يسع الواحدة إخضاع الأخرى لسلطان منهجها ومعرفتها. تبدو نيويورك للناظر إليها، الى شموخها وكثافتها وتنوعها وحركتها، صورة لظاهرة الوجود الماديّ في ذروة تجلياته. غير ان خواص الظاهرة نفسها تشي بأن صورة للمدينة مطابقة، هي اقرب الى الإستحالة. فالمدينة ضخمة ومتعددة المستويات والوجوه ومتغيرة، بل وقابلة للتغيّر الدائم. وهذا التغيّر لا يقتصر على شكل المدينة وتوزع أبنائها والوافدين عليها، وإنما يتصل بقدرة مداراتها الفنية والاقتصادية والسياسية والرياضية، وهي مدارات لا تضاهى في اي مكان او زمان، في تغيير سبيل النظر اليها. فإنطلاقاً من سلطان المدار الفنيّ يُصار الى صوغ السبل التي ينبغي إتباعها في التعبير عن المدينة وتحولاتها. وليست رواية مثل رواية "تحوّل مانهاتن" هي مجرد حصيلة ملاحظة فنان لصورة مدينة بلغت أوج عنفوانها بعد عقد من الحرب العالمية الأولى، وإنما هي اساساً مظهر من مظاهر تطور أشكال التعبير الفني في الحاضرة الاميركية والثقافة الغربية عموماً. فهذه الرواية واحدة من علامات الحداثة الفنية بقدر ما هي روايات بروست وجيمس جويس والفرد دبلن وفرجينيا وولف وغيرهم. وهي ان توسلت اسلوباً سردياً يكون بمثابة تجسيد الوعي الذاتيّ لحركة او طاقة المدينة الجمعيّة، فإنها تستجيب اساساً الى متطلبات الحداثة التي تُملي ضرورة القطيعة مع أشكال السرد الواقعية التقليدية والطبيعية التي سادت العهود المبكرة. فإذا ما عزفت الرواية عن تصوير نيويورك كمسرح متعارف على صورته لحوادث متخيلة او كخشبة تظهر عليها الشخصيات، وإذا ما مالت ايضاً الى التركيز على بعد الوقت المعاصر اي الزمان عوضاً عن المكان من خلال إبتكار لغة سرد تعادل الوعي الذاتي لإيقاع ظاهرة الحياة اليومية للمدينة، فليس هذا لأن المدينة لم تعد تصلح مسرحاً لأحداث متخيلة، وإنما لأن الوعي الحديث في مدينة حديثة لا بد وان يجاري منطق التطور الذي شمل الفن، وتولّد عنه بالضرورة، بقدر ما شمل حياة المدينة في شكل عام. مثل هذه المجاراة للمدينة المتغيّرة ولما يمليه مدارها الفني لم تكفّ او تتلكأ خلال العقود التالية على صدور "تحوّل مانهاتن". وليس من قبيل الإسقاط التام قراءة بعض اعمال نورمان مايلر وسول بيلو وترومان كابوت وتوم وولف ودونالد بارثليم وسوزان سونتاغ وجون شيفر وجون إبدايك وبول اوستر، إنطلاقاً، وبالتوازي، مع تصوّر كهذا. فرواية نيويورك، في حدود تصورنا هنا، كوعي لظاهرة دائمة التغيّر يحكمه تغيّر في الوعي الفنيّ، تظهر على التوالي من خلال اشكال سرد مختلفة، رمزية اللغة او وجودية المنطلق او اخيراً ما بعد حداثية. في رواية بول اوستر "ثلاثية نيويورك" مثلاً تركيز على دور العزلة والمصادفة في وعي أو حياة الفرد في المدينة. غير ان للرواية طبقات متعددة كل منها تمثل او تستجيب لمظهر فني وثقافي او آخر. فهي في طبقة ما رواية بوليسية ممتعة، وفي طبقة اخرى إستلهام للرواية البوليسية في سبيل التحقيق الدرامي في مسألة العلاقة بين الحقيقة والخيال وما بين الكتابة والعالم. وهي في طبقة ثالثة إستدعاء ساخر لأعمال ادبية كلاسيكية، مثل روايات هرمان ملفيل، او تهكمية مثل دون كيخوته. وفي هذا المعنى فإن الرواية لا تزعم العثور على سبيل لسرد رواية نيويورك وإنما، ومن خلال قصة مشوّقة، تسرد المشكلة التي تعترض العثور على مثل هذا السبيل. بيد ان رواية نيويورك ليست فحسب رواية الوعي الفني بظاهرة متغيرة في سياق وعيّ فنيّ متغيّر هو نفسه. وانما هي رواية التعددية القصوى لمدينة استحقّت تسميتها بعاصمة العالم. ومثل هذه الاعمال المنفردة التي تتطرق الى التعددية او تحاول الإلمام بها، انما تسفر عن وعي للظاهرة فحسب. اما صورة التعددية المتوخاة فهي تلك التي تتكون من خلال إجتماع جملة من الاعمال الروائية، والقصصية، المتباينة تباين كتابات ريتشارد رايت وإسحق سنجر وجيمس بالدوين وغريس بايلي ولانغستون هيوز وفيليب روث وتوني موريسون وغيرهم. فقصص هؤلاء الكتّاب انما هي تجسيد لوعي بمحليات، او مستوىات مختلفة منها، ذات اصول وثقافات افريقية ويهودية وإيطالية وبولندية وروسية وصينية وغيرها. هذا ناهيك عن المحليات المتوزعة لا تبعاً للأصول والاعراق وإنما تبعاً للإهتمام والإختصاص. ويغلب على هذا النمط من الرواية الوعي بلغة الحياة اليومية، الاصوات والكلام وسبل النطق. لذا فإنها تتوسل اللهجات العامية لغة للسرد الروائي. ولعل رواية س.د. سالنجر "الحارس في حقل الشوفان" وبعض قصصه الاخرى، هي النموذج الرائد في توظيف محليّة نيويوركيّة لغة للرواية. فاللغة هنا هي اصوات سرد بالأساس، اما الصورة فيترك امرها للمخيلة تكوّنها وفقاً لأداء الصوت نفسه تماماً كما في حالة تلقي السرد الشفويّ. وما يجدر قوله ان السرد في رواية سالنجر، او غيرها من الروايات التي تجري على منوالها، ليس محض تسجيل مباشر للغة العامية النيويوركية، تماماً كما انه ليس في رواية دوس باسوس حصيلة تسجيل وعي مباشر للزمان المعاصر الذي تنتظم حركة المدينة وفقه. فهذا في النهاية سرد فنيّ يعتمد على مخيلة الكاتب، فضلاً على اشكال السرد الشفوية، لا سيما لغة الدراما الإذاعية والمسرح والسينما. ومن النافل القول ان تسجيل اللغة المتداولة في غير حيّ واحد وجوار، ليس كفيلاً بصناعة رواية، واقله كذلك رواية نيويوركية. يزعم السرد في رواية "الحارس في حقل الشوفان" بإعارة نفسه لابناء نيويورك المفترضين، يصوّرون المدينة على طريقتهم ويروون اخبارها بلغتهم اليومية. على ان نجاح مثل هذا السرد يتمثل في ان ما تصوّره الشخصيات او ترويه، لا يصدر من موقع المتفرج المحايد او بالضرورة الفنان الكُليّ المعرفة. وسواء كان الرواي فرداً منعزلاً او منخرطاً في حياة المدينة - وهولدن كلفيلد، بطل هذه الرواية، مزيج من الاثنين - فهو يعرب عن طموحاته ومخاوفه وحماقاته، إعتزازه بالمدينة ونفوره منها، ثقته بديمومتها وإزدهارها، او هلعه من سقوطها، من موقع ابن المحلة النيويوركيّ. وتكاد لا تخلو رواية نيويوركية من شخصية واحدة او اكثر تعبرّ عن اهواء وعواطف حادة ومتطرفة، لا سيما الخوف من منيّة مرتقبة او هلاك لا مهرب منه. ولعل في هذا الخوف بالذات تتوافق الشخصية في الرواية النيويوركية وشخصية المقيم الفعلي في المدينة، على الأقل في حدود ما ينقله إ. ب. وايت في مقالته "هنا نيويورك": "على المقيميين في المدن ان يتعايشوا مع حقيقة الهلاك الراسخة، اما في نيويورك فإن هذه الحقيقة تبدو مكثفة على وجه اشدّ بسبب كثافة المدينة نفسها، ولأن نيويورك، دون الاهداف الاخرى، تضم الأولوية الواضحة المؤكدة. ففي عقل اي حالم منحرف، قد يطلق البرق في اية لحظة، ولا بد من ان نيويورك تمتلك فتنة راسخة لا تقاوم". مثل هذا الكلام قد يبدو اليوم، وفي اعقاب الهجوم الارهابي على نيويورك، من قبيل التنبوء. غير انه ليس تنبوءاً اصدق من الإشاعة التي أنذرتنا بنيّة مؤلف رواية "ضراوة"، على تدبّر أمر المدينة. فكما ان الروائي، ومهما تمتع بمخيلة خارقة، يعجز عن الإحاطة بالمعنى التام للمدينة، فإن الإرهابي لن يستطيع إختزال نيويورك الى صورة الانقاض التي يحلم بإختزالها.