"الجبل حقيقة لا ترحم" كتاب لبول عنداري شاع تداوله في منتصف الثمانينات وطبع بقساوته جيلاً كاملاً من القواتيين. فيه يسجل المؤلف، ومن موقعه يومها الى جانب الدكتور سمير جعجع، وقائع الهزيمة والتهجير في حرب الجبل، ويركّز، من جملته ما يركّز عليه، على واقعة "التخلي الاسرائيلي"، وعلى النموذج الذي قدمه "الحكيم"، لا سيما في حصار دير القمر. بين مصرع بشير وما تبعه من انشطارات وهزائم مني بها الموارنة، وصعد من رحمها الحكيم، شكّل الجبل عنواناً لتجربة المأساة التي تواصلت فصولها، من فشل حروب التمدد في الشوف والاقليم وشرق صيدا، الى الانتفاضات والمواجهات المتوالية في حياة "المنحسر المسيحي"، ما ساهم في تدعيم محوري الخطاب في انتفاضة 15 كانون الثاني يناير 1986: المحور الاول، الذي يحاكي واقعته "التخلي"، والمحور الثاني، الذي ينطلق من موجب "البقاء" وكيفيته في ظل وضع حصاري. لم تكن واقعة "التخلي الاسرائيلي" لتترادف بأي حال من الاحوال مع قرار قواتي بالتخلي عن الصلة القائمة مع الاسرائيليين، بل كانت تقتضي رفع وتيرة معاداة سورية، بما في ذلك مدّ صلات غير مسبوقة مع منافسي سورية، من الفلسطينيين اثناء حرب المخيمات وصولاً الى التعويل على العراق، ومروراً ببعض الامدادات ل"حزب الله" ابان صدامه مع "أمل" في الضاحية. اندفع سمير جعجع، وبحكم تلمّسه لواقعة "التخلي الاسرائيلي" في حرب الجبل وغيرها، الى سلوك مناهض للخلاصة التي كان قد بناها سلفه الياس حبيقة على الواقعة نفسها. كانت خلاصة حبيقة تقتضي الانتقال الحاسم، والفجائي، من موالاة اسرائيل الى اشهار الولاء لسورية، وكان بذلك يدفع على طريقته نزعة الاتكال على الخارج كشرط للاستمرار وطرح الذات في توازنات الداخل، وهي نزعة ظلت ملازمة لطبيعة الممارسة السياسية عند الطوائف اللبنانية، وعند الموارنة على وجه التحديد، والاسراف. نجد في المقابل ارتباط واقعة التخلي بموجب البقاء عند جعجع وقد تجسّد ذلك في شعار "أمن المجتمع المسيحي فوق كل اعتبار"، بكل ما يفيده هذا الشعار من امتلاك معيار خاص لقياس الاشياء والحكم عليها هو معيار مصلحة المسيحيين بما هي "أمن"، والأمن بما هو "مسيحي" تتلبّسه روحية وادي قنّوبين. جرى ربط موجب "البقاء" مع تزكية متواصلة لنموذج الحصن المحاصر او الوادي - الملجأ، وذهبت قوات جعجع بعيداً في المساعي الهادفة الى جعل الميليشيا جيشاً نظامياً، وفي العسكرية الاسبارطية "للمنحسر المسيحي"، كما راحت تتمثل بأنظمة التكافل الاجتماعي فتجمع غيفارا بموسوليني في وحدة الدور وانفصامه! لقد أدى الحكيم دور طانيوس شاهين في المجتمع الماروني، تماماً مثلما سيؤدي العماد ميشال عون دور يوسف بك كرم. لم يتخل احد منهما، وإلى يومنا هذا، عن دوره، وارتبط الدور عند كل منهما باتباع احد خيارين شمشونيين: لبنان الصغير الماروني ضمن تعددية لبنانية، ولبنان الكبير تحت الهيمنة المارونية. يمكن لحظ المتغير الاجتماعي الذي حملته انتفاضة 15 كانون الثاني 1986 والذي ارتبط بالصعود المسلح للشرائح السفلى من الطبقة الوسطى. بيد ان هذا المتغير ينبغي ان يُقرأ من زاوية "أمن المجتمع المسيحي" قبل ان ينظر اليه من زاوية الخدمات الاجتماعية والخوّات المفروضة والصندوق الوطني او بيت مال الموارنة. ان شعار "أمن المجتمع المسيحي" هو بالدرجة الاولى محاولة لتأكيد ان هذا المجتمع قائم بذاته ولذاته، وأنه، اذ ينظر اليه من زاوية الأمن، فذلك مردّه الى تلازم وجوده مع الخطر الذي يهدد هذا الوجود. للوهلة الاولى، لا جديد في ذلك. إلا ان المتغيّر النوعي هو في هذا الشعار كامن، وفي ملابسات معينة، بائن. قد يبدو الشعار بشيرياً بامتياز، لكنه في الواقع يرمز الى لحظة تمرد على البشيرية، او بالأحرى الى لحظة توتر ضمنها. على رغم كل ما يقال عن التمايز الحكيمي بازاء الظاهرة البشيرية، لم يصل هذا التمايز الى حد الاستقلال عن هذه الظاهرة، وإنما جاء ليعبّر عن "حقيقة لا ترحم"، ان في الجبل حيث الهزيمة او في الشرقية حيث الانتفاض، انها حقيقة اليتم، واليتم اشكالية يمكن رصدها في مجمل ما دار ويدور على الساحة المسيحية بعد غياب بشير. عنى اليتم بالدرجة الاولى استمرار ازمة القيادة في الوسط المسيحي مقرونة بالعجز عن اتمام الاساليب البشيرية لمعالجة هذه الازمة. ترتب على هذا اليتم سلسلة انتفاضات داخل القوات انتهت الى استقرار زمام الأمور فيها في ايدي جماعة بشرّي مدعّمة بمستشارين اختارتهم ويتحدر قسم منهم من ابناء الأقليات ضمن المسيحيين مثل كريم بقرادوني وتوفيق الهندي، والأخير ورد الى القوات من تجربة مضطربة في اقصى اليسار. وكما ترتبت على حقيقة اليتم سلسلة الانتفاضات، جاءت حروب الإلغاء لتعصف بالمؤسسة التي بناها بشير الجميّل وآلت امورها الى سمير جعجع. الإلغاء الأول، شنّه العماد عون بدعم شعبي مستخدماً الشعار البشيري "توحيد البندقية". ادى ذلك الى اختتام الحرب الأهلية اللبنانية بواحدة مارونية، وإلى دخول قوات جعجع في صيغة الطائف وسط الاعراض والاعتراض المسيحي عن هذه الصيغة وعليها. الفريد في الالغاء الأول يبدأ من ادغام عون اتهامه القواتيين بالعمالة لاسرائيل واتهامه لهم بالعمالة لسورية، وكانت لافتة ظاهرة امداد القوميين السوريين لمنطقة عون ببعض المؤن تسجيلاً لرفضهم الحال القواتية، على رغم ان الاخيرة هي التي دخلت الى صيغة الطائف، كما كانت لافتة مظاهر تأييد العماد عون في حربه ضد القوات، من قبل الجنرال انطوان لحد والميليشيات الحدودية. في المقابل بلغت اهتزازات صورة جعجع في الشرقية ذروتها مع مشاركة قواته في عملية 13 تشرين الى جانب الجيش السوري وألوية الجيش اللبناني الموالية لسورية. والالغاء الأول مهّد للثاني. بقيت قوات سمير جعجع في خانة لا تحسد عليها بعد الحرب. ركن من اركان الوفاق، وفي الوقت نفسه خارجه. هكذا اراد السوريون ومن يواليهم، وهكذا اراد القواتيون انفسهم. السوريون ارادوا من تجربة الفترة الأولى بعد الحرب ادخال القوات في مطهر. القوات اكتشفت نفسها في تلك الفترة، وهي تتأرجح بين موقفين متناقضين. اولهما يتصور انها طرف لا يمكن الاستغناء عنه، وأنها من الثوابت في الجمهورية الثانية. وثاني الموقفين ينطلق من لحظ اعراض المسيحيين عن القوات واحباطهم. فيقود القوات الى مزيد من السلبية، وصولاً الى معاودة رفع شعار "الأمن الذاتي". طبعاً لم تكن الممارسات الاستفزازية ضد القوات بقليلة، من اختطاف بطرس خوند على يد مجموعة من "حزب الله"، الى تطويق الجيش لمقر المجلس الحربي في الكرنتينا وفرض اجواء الاقامة الجبرية قبل استرداد المقر، الى اعتقال محازبين قواتيين بتهمة مضحكة، هي تهمة محاربة الجيش ايام حرب الالغاء، اي جيش العماد عون التي كانت سلطة الطائف نفسها تحاربه! وبالنتيجة مضت الامور تدريجياً نحو الالغاء الثاني الذي جرى في ظل ما اعقب الموعد الأول لزيارة البابا من تشنجات. لم تتعرض السلطة لحركة "التوحيد" الطرابلسية التي هددت بالتعرض لصاحب القداسة في حال قيامه بالزيارة، وإنما جرى اقتباس "حريق الرايخستاغ" ففجرت كنيسة الزوق. وحلّت القوات ودخل قائدها السجن، محمَّلاً وحده كل اوزار الحرب، ومن دون ان يسعفه اعلان المحكمة براءته للشك في موضوع الكنيسة. الالغاء الثاني سحب العلم والخبر من حزب كان لا يزال في طور التأسيس هو "حزب القوات اللبنانية"، الذي يختلف ولو شكلياً عن "القوات اللبنانية"، بما هي مؤسسة تأسست في الحرب، ضمن تصور معين لتوحيد ميليشيات الاحزاب المسيحية في "المقاومة". مع ذلك فقد اعتبر حل الحزب قيد التأسيس، بمثابة حظر للتيار القواتي برمّته، وجرى فتح ملفات الحرب بالشكل الذي يمكن اعتباره بمثابة نقض للعهود، ونهش لجزء من الشرعية الوفاقية التأسيسية التي قامت عليها "الجمهورية الثانية". نحن الآن في زمن الالغاء الثالث. يبدأ من القوات والتيار العوني ولا ينتهي عندهم، يطلق مغامرته البونابرتية عصر السابع من آب اغسطس 2000 ولا يتراجع عنها بما قام به من اخراجات ترضية. استهدف الالغاء الثالث قيم الجمهورية والديموقراطية والدستور والقانون، غير انه ينبغي الاعتراف ايضاً انه فرض اجواء الاضطهاد السياسي وارهاب الدولة على ابناء طائفة معينة، وانه لم يتورع عن اتهامها رأساً بتهمة الخطيئة الاصلية. ويجب ان نضيف كذلك ان ما واجهته هذه الطائفة طرح بمثابة نموذج يمكن ان يتجاوز رقعتها لاحقاً. زمن الالغاء الثالث جاء رداً على المصالحة الوطنية الشعبية التي عقدتها ثنائية الجبل اللبناني، من موارنة ودروز والتي بلغت ذروتها بزيارة البطريرك الاستقلالي صفير الى الشوف وجزين. جاء رداً على الرحمة والغفران المعلنين جبلاً، والمتجاوزين لعنوان كتاب عنداري الى نقيضه. اجل حين تعانقت اعلام اكبر احزاب الدورز وأعلام اكبر الاحزاب المسيحية كان الجبل يتحول الى حقيقة ترحم، وتؤلف، وتجمع. ابتغت الحملة الامنية "قصم ظهر" معسكر المطوقين للعماد لحود، وارتكزت في عناصر قوتها على كون هذا المعسكر بالغ التشعب، يستمد قوته من تنوعه السياسي ومن تلاقي التناقضات، وكونه يتشكل من حلقات متصلة بأخرى من خلال حلقات وسيطة. كما عملت الحملة على عزل المنطقة الشرقية من خلال القمع. في الشرقية، اعتقالات جماعية، ومتلبننون على غرار مستعربين في جيش الدفاع الاسرائيلي يطلقون اشد الهتافات بذاءة من بين المتظاهرين ثم ينقضون عليهم، غير آبهين ان كانوا امام قصر العدل او خلافه، ففي النهاية ستحمّل المؤامرة الى اسرائيل و"الاخطبوط اليهودي" الذي سيوزّع الصور وينشرها في العالم اجمع لاستهداف لبنان المقاومة ومزارع شبعا. بعيداً من الطوافات الذبابية التي لم تنفك خلال اسبوعين من اعلان الشرقية ساحة حرب، وبعيداً من البلاغات التي حاولت الاساءة الى المؤسسة العسكرية والزعم انها بعد كل ما بذل ودفع من اجل اعادة بنائها فهي لا تزال معرّضة لخطر انشقاق، وبعيداً من التدخل الاخرق في ما يحاضر فيه استاذ فلسفة في جامعته، وكأنه من المطلوب استبدال كانط بعاصم قانصوه، وهيغل بناصر قنديل، بعيداً من كل ذلك نقف بعد كل هذه التطورات، وعقب الافراج عن بعض الموقوفين وقد سلبوا ما به يقتاتون ويتعلمون وأجبروا على دفع الجزية في منتصف الليل، نقف ونتساءل: لماذا يصبح الموقوف بتهمة "الاتصال" مع اسرائيل بطلاً مذ يعلن توقيفه؟ لست في معرض الدفاع عن افكار القواتيين والعونيين فهي ساهمت، بدورها، في تسهيل مهمة المغامرة البونابرتية سواء بالنسبة الى ما تحويه من مخزون ديماغوجي يصادر صنيع هؤلاء ويكشف عجزهم، او بسبب تغييبهم للأسلوب الديموقراطي، ليس فقط في ماضيهم وإنما ايضاً في حاضرهم، وفي اماكن نفوذهم ضيعاً وجامعات. زد على ذلك ما كشفته التوقيفات الاخيرة من تهلهل تنظيمي، ومن اعلانية تقارب حد الاعلانية المجوّفة. والحق ان هذا الموقف يعكسه الشارع المسيحي بوضوح فيتعاطف مع من يعتقل، ولكن لا تبارحه القناعة بعجز هذا الأخير عن الفعل السياسي. ليست المسألة، كذلك، مجرد معركة حريات وحقوق انسان، على رغم محورية تلك المعركة. وكي نذهب بعيداً في ما نطرح نقول ان الرهان على الخارج عند المسيحيين ما زال بمثابة كمون لم تُجتث كل عناصره، بل ان قسماً من المسيحيين قد خيّبت اسرائيل آماله من دون ان يتحول الى موقع مناهضتها. هذا التحول هو المطلب والمرتجى، وهو من ابواب خروج المسيحيين من ثلاثية اليتم والعزل والاختراق التي تلحق بهم اشد الأذى وتهدد بإفنائهم سنة بعد سنة. بيد ان هذا التحول لن يتم من خلال التعويل على المحامي منير الحاج او الرائد فؤاد مالك والتفكير ولو لحظة انهم بدائل محتملة. ان التعاطي الجهازي سواء التزم القانون او حاد عنه او انقلب عليه هو تعاط سياسي بامتياز، وليس ما نطلب هو تنسك الاجهزة بل الرفع من درجة اليقظة وحال التأهب والمبادرة الى المعالجة التي لا تهوي بالرأس بسبب ما يعانيه من صداع، والتي لا تستخدم التعاويذ لانقاذ الجسد ان اصابه مرض عضال. والحال ان هذه المعالجة لن تتقدم اليها ما لم تقرن اليقظة بفضيلة الصامت الأكبر التي اناطها الرئيس اللواء فؤاد شهاب، ذات يوم، بالمؤسسة العسكرية وملحقاتها. بدلاً من ذلك نرى ان توالي البلاغات الدعائية، وأشرطة التسجيل التي تقدم لنا المحققين على صورة فيشنسكي، يكشف عما يعتور المركب الأمني - العسكري من نقص وارتجال، ومن كيد، و"قلة تقوى" كما قال البطريرك. ينبغي التوجه رأساً الى نقد المضمون السياسي الذي يتحكم بالتعاطي الجهازي اليوم، ومن الخطأ الذي يشوب هذا المضمون حين يتعلق الأمر بملف الاتصال مع اسرائيل. يبدأ الخطأ من اسقاط العناصر الموضوعية المسببة لهذه الثغرات في المناعة الوطنية، وفي الوقت نفسه يجري الاصرار على موضعة تهمة التعامل ليس فقط ككمون يتهدد البعض وإنما كجوهر ثابت يتحرك كل شيء في لبنان تبعاً له، وهذا ما يرتبط بنزعة تكفيرية ترى ان المجتمع اللبناني قد باشر بمعاودة التصهين عقب الجلاء الاسرائيلي من جنوبلبنان.