تمثل الحدث السياسي في لبنان أمس، بخروج قائد القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع من سجنه في وزارة الدفاع الذي أمضى فيه أحد عشر عاماً وثلاثة أشهر وبضعة أيام، لكنه فضل السفر إلى الخارج (فرنسا تحديداً) لاجراء فحوصات طبية، قيل انها ضرورية له، وتمضية بضعة أسابيع في اجازة. ولأسباب أمنية، فقد آثر المسؤولون في «القوات اللبنانية» ان يكون خروج جعجع من زنزانته مباشرة إلى المطار الذي وصله في التاسعة والدقيقة الخامسة صباحاً، في مواكبة أمنية مشددة اتخذها الجيش اللبناني من وزارة الدفاع إلى المطار، حيث دخل إلى صالون الشرف ترافقه زوجته النائب السيدة ستريدا جعجع وعدد من المسئولين في «القوات» إلى جانب محاميه، وبينهم النائب أدمون نعيم الذي تولى انجاز الاجراءات القانونية لخروجه منذ يوم السبت الماضي. وعقد جعجع في الصالون اجتماعاً مغلقاً مع مجموعة من (القواتين) بينهم 72 شخصاً من مصلحة طلاب القوات الذين كانوا شاركوا في التظاهرات الشعبية، وبينها انتفاضة 14 آذار (مارس) التي صنعت التغيير الكبير الذي حصل في لبنان، وأدى إلى خروج القوات السورية منه في نيسان (ابريل) الماضي. وبدا جعجع في صحة جيدة، لكن علامات الشيب بدت ظاهرة عليه مع شحوب وهو يرتدي بدلة زيتية اللون من دون ربطة عنق لكنه اضطر إلى تبديل قميصه بسبب الحر. وقرابة الحادية عشرة قبل الظهر، دخل جعجع إلى صالون الشرف حيث كان في استقباله عدد من رجال الدين المسيحي، يتقدمهم المطارنة بشارة الراعي وهاشم المنجد وخليل ابي نادر، بالاضافة إلى رئيس الرابطة المارونية الوزير السابق ميشال أده والوزير القواتي جوزف سركيس، ونقيبا الصحافة والمحرران محمد البعلبكي وملحم كرم، إلى جانب عدد من نواب «القوات» ومحاميه، ومسؤولي وسائل الإعلام المرئي والمسموع الذين كانت وجهت إليهم دعوات خاصة لاستقباله ثم وداعه. وصافح جعجع الجميع وتبادل معهم القبلات ثم وقف خلف منصة وتلا كلمة خاطب فيها اللبنانيين قائلاً: «خرجتم من السجن الكبير الذي كنتم قد وضعتم فيه فأخرجتموني معكم، بالفعل ذاته، من السجن الصغير الذي كنت قد وضعت فيه. لقد كانت سنوات طوال ظلماء سوداء، كانت تطيح بالوطن، بدأت باغتيال الرئيس الشهيد رينيه معوض ولم تنته باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ايقنت منذ البداية ان لا قيامة للبنان إلا بجناحيه الاثنين، فصمموا على كسر أحدها واقتلاعه من أساسه اذا اقتضى الأمر، فأمعنوا في الوطنيين نفياً واعتقالاً وتشريداً واضطهاداً وسجناً وتعذيباً وقمعاً وقهراً، واشاعوا في النفوس خوفاً، وفي القلوب اضطرابا، ما دفع قسما كبيرا من شباب لبنان إلى الهجرة قسراً وترك أرض آبائهم وأجدادهم، ولم يوفروا حتى الذين انكبوا على البنيان والعمران برغم كل شيء، فلقد ابتزوهم كل الوقت، ووضعوا أمامهم السدود والعقبات والمطبات وأغرقوهم في طرقهم الملتوية وفسادهم اللامحدود، مما جعل اللبنانيين يدفعون تكاليف اعادة اعمار وطنهم أضعافا مضاعفة، ورتب عليهم ديونا بأحجام فلكية لم يعرفوا مثيلا لها في تاريخهم المعاصر كله. وقال لن استفيض في الكلام عن الماضي، وقد عشتموه لحظة بلحظة، بعرقكم ودموعكم ومن خلال خوفكم على أولادكم وحرياتكم وسيادتكم واستقلالكم ومستقبلكم ما أتمناه عليكم وحسب التوقف طويلاً عند عبر ذلك الماضي فلقد ثبت فعلا انه اذا كان للباطل يوم فللحق ألف يوم. فلنكن مستعدين ومصممين على تلقف الفرص من دون ابطاء. وأضاف: لا أخفي عليكم أن أمامكم اطنانا من افكار العمل لكنني اعاهدكم على أننا لن نرزح تحتها. ولا اخفي عليكم أن بيتنا اللبناني الداخلي في حالة اختلال وعدم توازن نتيجة الخمسة عشر عاما من القهر، لكننا لن نألو جهدا لمزيد من التفاهم مع حلفائنا على اعادة التأهيل اللازمة. وكما ترون وتسمعون فان التعديات ما تزال تنهال على لبنان، اغتيالات وتصفيات وتعكيرا أمنيا في الداخل وعلى الحدود، لكم هذا كله لن يغير قيد شعرة في اتجاه الأحداث ان عقارب الساعة لم تعد يوما إلى الوراء وهي كذلك لن تعود اليوم. وتابع قائلا: قضيت أحد عشر عاما في زنزانة ضيقة تحت الأرض، معزولا تماما عن العالم الخارجي، ومن دون اختلاط داخل السجن قطعاً. حتى في خلال النزهة اليومية كنت وحدي، لكن لم أكن لحظة واحدة وحدي لأنكم جميعكم كنتم دائما معي. كانت ظروف اعتقالي قاسية، حقا قاسية، وبرغم ذلك كان يسودني دائما اطمئنان داخلي غريب، مرده إلى أنني كنت أعيش ذاتي وليست ذاتا مصطنعة، كنت أعيش قناعاتي ولو على مساحة ستة امتار مربعة فقط كان هذا بالنسبة إلي وبما لا يقاس أفضل من أن اعيش قناعات غيري ولو على مساحات الكون برمته، طيلة الاحد عشر عاما ونيف لم أشعر يوما بانني مسجون برغم وجودي في السجن واي سجن، ذلك لأن روحي بقيت حرة، وهذا هو المهم، إن المساجين الحقيقيين هم إولئك الذين صنعوا سجنا لأنفسهم بأنفسهم من خلال تلبسهم ذوات الغير وقناعاته طعما بمنصب أو مكسب او تجنبا لاضطهاد واعتقال. ثم وجه جعجع تحية كبرى إلى اللبنانيين مسلمين ومسيحيين على مقاومتهم الصامتة طيلة تلك السنين في مواجهة محاولات افراغ لبنان من كل محتوى تاريخي ووطني وفكري واقتصادي وحتى ديموغرافي. كما وجه الشكر الى كل من ساهم بشكل مباشر وغير مباشر بإطلاق سراحه، وخص بالشكر البطريرك الماروني الكاردينال نصرالله صفير والبطاركة والمطارنة الذين حملوا لواء قضيته منذ اللحظة الاولى من دون كلل وملل، وكذلك حلفائه في الحزب التقدمي الاشتراكي وعلى رأسه وليد جنبلاط، و«تيار المستقبل» وعلى رأسه الشيخ سعد رفيق الحريري على الجهود التي بذلاها في الاشهر الأخيرة، واعضاء لقاء قرنة شهوان من خلال نضالهم كما من خلال حملهم لواء هذه القضية بالتحديد في جميع مراحلها، كما خص بالشكر «التيار الوطني الحر» وعلى رأسه العماد ميشال عون من خلال نضال شبابه لتغيير الاوضاع التي كانت قائمة، والمجلس النيابي برئاسته واعضائه على توقيع مشروع العفو، وخص بالتحية والعرفان مئات الالوف من اللبنانيين الذين صنعوا من 14 آذار مسيرة شعب ووطن نحو الحرية والكرامة والعدل. وكيف أنسى تضحيات صامتة متألمة حميمة لوالدتي ووالدي اللذين كان يحق باستراحة هانئة بعد كد وصبر من دون حدود فحرما منها وتحملا مالا يحمله البشر. وان انسى كيف أنسى الحبيبة الزوجة التي خطف الى الاعتقال شريك حياتها وهي بعد في السنوات الاولى لزواجها، وتم تهجيرها من حيث كانت تسكن ولوحقت طوال أحد عشر عاماً بشكل أو بآخر وضيق عليها واستدعيت مرتين الى التحقيق معها بحجج مختلفة واهية، بالاضافة الى كل ذلك، سقطت على كتفيها مسؤوليات جسام لم تخطر يوماً لها في بال، أو فكرت فيها فأعانها الله ومكنها من تدبير الامور على افضل ما يكون حسن التدبير، وبقيت صامدة في بيتنا في يسوع الملك متحلية بالايمان لديها والصبر على قدرها. وختم قائلاً: «ايها اللبنانيون، السنوات السود وراءكم، اذا اراد الله، وبيض الايام امامكم، لن تدفعوا ثمن استقلالكم وحريتكم مرتين. اذا اردنا بناء مستقبل افضل لاجيالنا الطالعة، علينا ان نتعاون جميعاً بروح مختلفة كلياً عن سنوات الحرب. ولكي نتعاون جميعاً يجب الا ننظر الى الآخرين معتمدين على احكام مسبقة مبنية على نظرتنا السابقة اليهم ابان سنوات الحرب، لانه كان لتلك الحرب منطقها الذي لم يعد قائماً او صالحا ليومنا هذا. فلننظر نحو المستقبل ولتتضافر جهودنا من اجل ان نزرع الامل في نفوس شبابنا. افضل الايام هو الغد، فلنضعه اليوم، اليد باليد، لينهض الوطن وينبض بالحياة». واستقبل جعجع بعد ذلك عدداً كبيراً من الشخصيات بينهم وزراء ونواب، جاؤوا لتهنئته بإطلاق سراحه ووداعه، ومن ابرز هؤلاء الرئيس السابق امين الجميل وابنه النائب بيار الجميل والوزراء مروان حمادة، شارل رزق، احمد فتفت ونائلة معوض وميشال فرعون. بالاضافة الى اعضاء لقاء قرنة شهوان، ونواب من «تيار المستقبل» والحزب القومي الاشتراكي «والقوات اللبنانية»، وكانت السيدة جعجع تتولى تعريفه الى الشخصيات والنواب الذين لم يكن يعرفهم. ولوحظ ان البطريرك صفير كان يتابع من مقره الصيفي في الديمان كلمة جعجع الى اللبنانيين، والى جانبه النائب السابق محسن دلول. وقدم النائب جبران تويني الى جعجع عند دخوله شال «انتفاضة الاستقلال». يذكر أن جعجع غادر مطار بيروت قرابة الرابعة عصراً على متن طائرة عادية. وأمضى جعجع الساعات التي أعقبت لقاءاته مع السياسيين، في لقاء مع المقربين جداً منه، ومنهم زوجته ستريدا وشقيقتها ونواب تيار القوات اللبنانية، في صالون خاص، وتناول الغداء معهم. ثم عقد لقاء مع الإعلاميين الذين تولوا تغطية حدث اطلاقه، وتوجه اليهم بكلمة مقتضبة شكر فيها جميع وسائل الإعلام اللبنانية والعربية والأجنبية على جهودها في حمل قضيته، وأمل بأن يبقوا في خدمة الحرية. وصافحهم فرداً فرداً، وأصر على التعرف على الوسيلة الإعلامية التي ينتمون إليها. كما عقد لقاء مع القنصل الفرنسي بعيداً عن الإعلام. وأجرى جعجع قبل مغادرته اتصالاً بوالده الذي لم يتسن له الحضور إلى المطار بسبب وجوده في المستشفى.