بينما تستعد قطر لاستقبال الاجتماع الوزاري المقبل لمنظمة التجارة العالمية، تتنامى حركة واسعة ضد العولمة جمعت مئات آلاف المتظاهرين، الذين أتوا من مئة بلد الى مدينة جنوى الايطالية قبل أسابيع للاعتراض على قمة الدول الصناعية، وكانوا عرقلوا قبل سنتين اجتماع منظمة التجارة العالمية في مدينة سياتل الأميركية. الحركة الشعبية ضد العولمة تتسع في كل القارات، ويقدر أن ثلاثة ملايين شخص شاركوا في تظاهرات احتجاج عليها منذ أحداث سياتل. واستقطبت تظاهرات اجتماع جنوى الأخيرة ممثلي أكثر من 700 منظمة، هبطوا على هذه المدينة الايطالية ليعترضوا على قمة الثمانية، فحولوا شوارعها ساحة حرب. هؤلاء المعترضون، الذين ينتمون الى الدول الغنية والفقيرة معاً، يرون في اتجاهات العولمة الحالية مؤامرة لتوسيع سيطرة الدول الصناعية على الدول النامية، وتثبيت أسس تحكم الأغنياء بالفقراء، ويرون أن شروط التجارة العالمية الحرة المعروضة للبحث لا تؤمن التوازن العادل، بل تقود الى توسيع الهوة ما بين الدول وداخل المجتمعات نفسها. ويصل المعترضون الى حد اتهام حكّام الدول الغنية بالتحالف مع حكّام الدول النامية ضد شعوبهم، حفاظاً على مكتسبات السلطة. الحركة المعارضة للعولمة، التي ولدت في شوارع سياتل قبل نحو سنتين، قدمت شهيدها الأول خلال الاشتباكات مع الشرطة في شوارع جنوى. واعترض رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير على وسائل الاعلام لأن المساحة التي خصصتها لتغطية التظاهرات كانت عشر مرات أكثر مما خصصته للاعلان عن مقررات المؤتمر في شأن تخفيف ديون العالم الثالث بتحويل قسم منها الى هبات، وإنشاء صندوق دولي لمعالجة الكوارث الصحية في الدول الفقيرة. لكن المعترضين يقولون إن الوعود بتخفيف الديون لم تقترن بأرقام وجدول زمني محدد، وكأنها ستستخدم كجزرة لاغراء الدول النامية وترويضها تمهيداً لفرض شروط جائرة عليها. أما المساعدة الصحية المقدرة ب3،1 بليون دولار، فالمطلوب أكثر من عشرة أضعافها لمعالجة المشكلات الصحية الطارئة في الدول الفقيرة، وعلى رأسها وباء الإيدز. ويضع معارضو العولمة علامات استفهام حول الدوافع الحقيقية للدول الغنية، مستشهدين بمسألتي تغيّر المناخ والزراعة. فالولايات المتحدة عارضت العالم كله في رفضها الالتزام بخفض انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون من صناعاتها، على اعتبار أن هذا يضر بالاقتصاد الأميركي. والدول الأوروبية مصرة على تدابير دعم مادي لمزارعيها، حتى لو أدى هذا الى اخلال ميزان التنافس مع الدول النامية في سوق عالمية مفتوحة. وفي أجواء تراجع الاقتصاد العالمي، ظهر اتفاق هدنة غير معلن بين أميركا وأوروبا على أمور تجارية هي موضوع خلاف، من الموز الى اللحم المحقون بالهورمونات. والطرفان يشددان الآن على ضرورة التحرير السريع للتجارة العالمية، لتحريك الدورة الاقتصادية وانقاذ الدول الصناعية من خطر الركود. فهل يكون نصيب الدول النامية أن تسحق في صراع الكبار؟ لقد بدأت هذه الدول تعلن غضبها من النكث بالوعود التي قطعت لها خلال المفاوضات التجارية السابقة بفتح الأسواق الغربية لمنتوجاتها. وفي حين انخفضت الرسوم على البضائع المصنّعة من 40 الى 4 في المئة خلال السنوات الخمسين الأخيرة، بقيت الرسوم على المنتوجات الزراعية بين 40 و50 في المئة. وهذا يؤثر سلباً في الاقتصادات الزراعية للدول النامية، التي تجد نفسها اليوم في معادلة غير متوازنة، بعدما أمضت دول العالم الغنية السنوات الخمسين الماضية في كتابة قواعد التجارة الدولية وفق مصالحها هي. على رغم هذا، يبقى من مصلحة الدول الفقيرة أن تشارك كجبهة واحدة في جولة المفاوضات المقبلة في الدوحة، لأن الخيار الوحيد الآخر دخول كل دولة منها على حدة في مفاوضات منفردة مع الدول الكبرى، لتأمين المرور الى أسواقها. ومع انضمام الصين المتوقع الى منظمة التجارة العالمية في اجتماع الدوحة، ستربح الدول النامية قوة عالمية كبرى الى جانبها في المفاوضات. على الدول النامية التخلص من عقدة الاضطهاد وعادة تحميل كل مشكلاتها لقوى خارجية. فعليها تقع أساساً مسؤولية بناء مجتمعاتها، تعطي الناس الحق في صنع القرار والاعتراض، كما في العمل والانتاج والمشاركة في الثروة. إن المجتمعات الحرة المنتجة تعطي دولها القوة لفرض موقع متقدم في النظام العالمي، بينما تغرق المجتمعات المسحوقة، هي ودولها، في مزبلة التاريخ. والعدالة في التجارة العالمية لا يمكن أن تعني حماية الهدر وقلة الكفاية. فعلى الدول النامية توسل أساليب الحكم السليم لتعزيز حرية الفكر والاقتصاد والمشاركة والانتاج، وخلق فرص المنافسة العادلة، التي هي وحدها كفيلة بحفز الابداع وترشيد وسائل الانتاج والاستهلاك. ليس مقبولاً اليوم أن تتحول نظريات حماية الانتاج المحلي الى غطاء لحماية الأساليب المكلفة غير الفاعلة، أو حجة للاستمرار في التخلف. كما أن على الدول الغنية أن تدرك، سريعاً، أن فتح أبواب نقل التكنولوجيا الى الدول النامية، ودعمها بالاقتصاد والتربية وتطوير الخدمات، استثمارات ضرورية وثمن لا بد من دفعه لاقامة الاستقرار العالمي، الذي لن يقوم ما دام هناك 3 بلايين انسان، أي نصف سكان العالم، يعيشون تحت حد الفقر بأقل من دولارين يومياً. وتستضيف قطر في تشرين الثاني نوفمبر المقبل، الاجتماع الوزاري الرابع لأقل المنظمات العالمية شعبية. وحين يهبط على الدوحة آلاف المندوبين والمتظاهرين ضد العولمة، سيكون عليهم تقرير مستقبل هذه المنظمة، التي قد تكون، على رغم كل الاعتراضات، الاطار الأفضل الممكن لحصول الدول النامية، كمجموعة، على شروط أكثر عدالة، في عصر أصبحت العولمة أمراً واقعاً. * ناشر ورئىس تحرير مجلة "البيئة والتنمية".