كانت نيويورك فضاء يستحيل اختراقه، متاهة من خطوات لا نهاية لها، وأياً كان المدى الذي ذهب اليه او كانت اجادته معرفة الأحياء والشوارع، فإنها كانت تتركه دائماً بشعور بأنه قد ضل الطريق. ضل الطريق لا في المدينة وحدها، وإنما في داخل ذاته كذلك. وفي كل مرة قام فيها بجولة ساوره شعور بأنه كان يترك نفسه وراءه. وكان بمقدوره، بتكريس نفسه لحركة الشوارع، وبتقليص ذاته الى عين مبصرة، أن يهرب من الالتزام بأن يفكّر، وقد جلب له هذا، أكثر من أي شيء آخر درجة من السلام، وخواء صحياً في الأعماق. كان العالم يقبع خارجه، حوله، أمامه، وجعلت السرعة التي واصل بها التغير من المستحيل عليه أن يركِّز على أي شيء بمفرده وقتاً طويلاً للغاية. كانت الحركة شيئاً ينتمي الى الجوهر، عملية وضع قدم أمام الأخرى والسماح لنفسه بأن يتبع انطلاقة جسمه. ومن خلال التجول دونما هدف، أصبحت كل الأماكن متساوية، ولم يَعُد موضعه شيئاً يكترث به. واستطاع في أفضل جولاته أن يشعر بأنه في لا مكان. كانت نيويورك هي اللامكان الذي بناه حول نفسه، وأدرك انه لا يعتزم مغادرتها أبداً... بلغت الساعة الآن السابعة، على وجه التقريب، وشرعت الحشود في الانحسار. وعلى الرغم من أن ستلمان بدا كمن يسير في الضباب، إلا أنه كان يعرف الى أين يمضي. فقد توجه البروفسور مباشرة الى دَرَج النفق، ودفع أجرة البطاقة في الكشك المخصص لذلك، وانتظر في هدوء على رصيف القطار الذاهب الى تايمز سكوير. وبدأ خوف كوين من أن يتم اكتشافه ينجاب عنه، فلم يسبق له أن رأى من قبل قطُّ أي شخص مستغرق بكلّيته في أفكاره على هذا النحو. وحتى لو وقف كوين مباشرة أمام ستلمان، فإنه يشك في أن هذا الأخير سيكون قادراً على رؤيته. انطلقا بالقطار الى الوست سايد، وسارا عبر ممرات الشارع الثاني والأربعين الشديدة الرطوبة، وهبطا مجموعة أخرى من السلالم الى قطارات السكك الحديدية الدولية. وبعد سبع دقائق أو ثمانٍ استقلا قطار برودواي السريع، ومضيا بعيداً عن مركز المدينة محطتين ممتدتين، وترجلا في الشارع السادس والتسعين، وصعدا على مهل السلالم النهائية.... ولم يتردد ستلمان، ودونما توقف لاستجماع شتاته. شرع في السير صعداً في برودواي على امتداد الجانب الشرقي من الشارع. ولعدة دقائق داعب كوين الاعتقاد المجافي للمنطق بأن ستلمان يمضي الى منزله الكائن في الشارع مائة وسبعة. ولكن قبل أن يستقبل الانغماس في الذُّعر بكامل أبعاده حيال هذه الفكرة، توقف ستلمان عند ركن الشارع التاسع والتسعين، وانتظر تغير اشارة المرور من الضوء الأحمر الى الضوء الأخضر، وعبر الى الجانب الآخر من برودواي "مدينة الزجاج"، ترجمة كامل يوسف حسين