بدت نيويورك صعبة في لحظة واحدة فقط هي لحظة الصعود اليها من درج محطة القطار. لم أكن أتوقّع أنها ستبدأ هكذا دفعة واحدة منذ أن تقع عليها نظرتي الأولى، هناك من بوابة المحطة. بدت البنايات على جانبي الشارع الممتد الى الأمام، كما على جانبي الشارع الذاهب الى جهة اليسار ثم الى جهة اليمين، كأنها ارتفعت فجأة ارتفاعاً زائداً في حركة أقرب ما تكون الى أصناف الخدع التي نشاهدها في افلام الصور المتحركة. "جئتَ الى نيويورك... هذه هي نيويورك.... خذها..." كادت تقول الأبنية الشاهقة العلو. كأنني، أنا الخارج تعباناً من محطة القطار، رأيت، بغتة، نيويورك التي أتخيّلها، أو التي أتصورها، وليس المدينة الحقيقية التي كان ينبغي لها ان تتدرج قليلاً حتى تحضر كاملة تامة. الضحك بصوت مسموع وقد كاد المشهد الأول المباغت ذاك ان يضحكني بصوت مسموع، أنا الذي أقف بمفردي على رصيف المدينة التي لا أعرف فيها أحداً. ضحكة لم أكن لأفهم باعثها آنذاك أما الآن، بعد انقضاء عشرة أيام على صعودي الى المدينة، فإنني اعرف انها من نوع الضحكات التي تخرج هكذا من تلقائها. ضحكة يثيرها وقوع البصر على ما لم يُعتد أبداً الوقوع عليه. كأن يرى واحدنا مثلاً رجلاً بطول أربعة أمتار يرتفع أمامه" رجلاً لا يختلف أبداً عن الرجال الذين نعرفهم ولا يتميّز عنهم إلا بحاجته الى "برسبكتيف" غير اعتيادي ليُشاهَد. يبدو الرجل ذاك كأنه يُلاعب البصر موهماً إياه ان الخطأ ليس فيه بل في الحدقتين اللتين تريانه. أن ترى بنايات نيويورك التي تعرفها، أو التي تعرف عنها، يعني ان تعرّض نظرك لضخامة لم يألفها. الضحكة التي يكاد يطلقها الخارج من "محطة بنسلفانيا" تلك، مساوية للشهقة التي تنتاب المباغَت أو للرجفة التي تنتاب الخائف. من رصيف المحطة قلت أتقدم الى الأمام، أي إلى الجهة التي يقود اليها الدرج الذي خلّفته ورائي. وفيما أنا أخطو في أول الزقاق لم أجد بداً من أن استعير، لوصف حالي، مشهد الجسم الصغير الذي تقزّمه الأبنية العملاقة حوله، هذا المشهد الذي كثيراً ما نقلته رسوم الفن التشكيلي. نيويورك إذن هي البنايات العالية. القادم اليها للمرة الأولى لا يكون قاصداً إلا ذلك أولاً. في باريس يقصد السائح برج ايفل وقوس النصر ونهر السين، في مصر يقصد الاهرامات وتمثال أبي الهول، أما في نيويورك فيقصد البنايات العالية. البنايات التي هي هنا أكثر بكثير مما كان يظن وهي تبدو لكثرتها كأنها معروضة للبيع، هكذا على نحو ما جعل ميل بروكس يسخر من ولع الرومان بالأعمدة فجعلها في فيلمه مختلفة الأحجام متفاوتة بين التناهي في الصغر والتناهي في الكبر، وكلها معروضة للبيع في السوق الروماني. خطوات تطابق الخارطة بنايات عالية شاهقة العلو كلها وهي متلاحقة واحدة الى جانب الأخرى، وعلى الجانبين، في الجادة الخامسة أكثر جادات المدينة شهرة. قال لي الأصدقاء الذين أرسلوني الى نيويورك أن أمشي هناك، في الجادة الخامسة، وهي، حين وصلتها، بدت لي شديدة القرب من الجادة السادسة، بل من الجادة السابعة أيضاً. لا أكثر من خطوات قليلة يخطوها الماشي بين "بلوكات" الأبنية حتى يجد نفسه وقد انتقل من جادة الى أخرى. أما الشوارع التي تأخذ المدينة عرضياً بعد أن أخذتها الجادات طولياً فهي ذات أرقام أيضاً. وهي أرقام تتتابع إذ تبدأ من الرقم واحد، هناك في أسفل المدينة، الى الرقم الذي ربما كان 180 هناك في آخرها، أو في أعلاها. أما هذا التعيين بين أسفل المدينة وأعلاها فافتراضي نظري وليس واقعياً وقد أملته عليّ الخارطة التي أمسكتها بيديّ الإثنتين رافعاً جهة ال180 الى الأعلى. ثم ان التدرّج لا يتدرج إلا صعوداً، أي علوّاً. هكذا حسبت انني اتسلّق جاهداً في الطلعات، في أثناء ما كنت أمشي الى الرقم 125، هذا بينما المسافات أمامي منبسطة مستوية. وهذا، في ما أحسب الآن، من أثر مطابقتي خطواتي على الخارطة التي أعطتني إياها عائلة الصديق كنعان في بوسطن، وليس على الشوارع والجادات. لا أحد يضيع هنا مدينة سهلة هي نيويورك يستطيع المتجوّل فيها أن يشعر بأنه يتنقّل بين مربّعات يعرف مسبقاً أرقامها. سأنتقل، يقول السائح، الى مربّع جادة 7 شارع 37 فينتقل من فوره الى هناك، شأن ما ينتقل البيدق الى مربع جديد على رقعة الشطرنج. مدينة سهلة، الشارع الذي سأصل إليه هو 43 لأنني لتوّي خلّفت شارع 42 ورائي. أما الشارع الذي بعد 43 فهو 44 ثم 45 ثم 46 وهكذا. حتى أنني أستطيع، نظراً لتساوي المسافات ما بين الشوارع، أستطيع ان أعرف في أي وقت سأكون في شارع المئة: في أي ساعة بل في أي دقيقة. هكذا مُقيساً المسافات بالوقت، بالدقائق لا بالكيلومترات، أي مثلما تفعل القطارات والطائرات. ولا أحد يضيع في نيويورك، بحسب ما قالت أفسنة: إعرف رقم الجادة ثم رقم الشارع فتصل الى العنوان الذي أنت ذاهب إليه. بعد خمس دقائق من وصولي الى نيويورك، هناك وانا في النقطة التي عرفت في ما بعد انها لا بد الشارع 32 من الجادة السابعة، قال لي الشرطي الذي سألته عن الوجهة التي يحسن بي أن أسلكها، أن عليّ أن أتجنب جادة برودواي. هي ملتوية متعرجة وتخترق نيويورك، كما تبدو على الخارطة، في خط سير أشبه بمسير نهر. أي انها في مزاج نهر وفي فوضاه وليست مثل الجادات الأخرى ذات الأرقام. دعك من جادة برودواي، قال لي شرطي المرور فيما هو يرسم بيده علامة التعرّج والإلتواء. جادة برودواي تبدو، لتعرّجها، كأنها تعود الى عهد المدينة الأول، أي العهد الذي سبق التخطيط المديني وتقسيم المدينة الى مربعات. وهي، الجادة، ما زالت موجودة برغم ذلك، وان اصطدمت بالشوارع والجادات المستقيمة وركبتها في أكثر من مكان. جادة برودواي ذات اسم وليست ذات رقم كما الجادات الأخريات، أي أنها نافرة عن نظام المدينة. الواصل لتوّه الى نيويورك يعجبه ان تكون الأمكنة ذات أرقام ويزعجه أنهم سمّوا هناك، بما يوازي الشارع 11، الساحة الواسعة بإسم "واشنطن سكوير". كما انهم سمّوا المنطقة تلك التي تكثر فيها الجامعات وأبنية الطلاب ومطاعمهم، "غرينويتش فيليج". الأرقام إذ تبطىء التخيّل الأسماء تفترض ان غرينويتش ربما كانت مظلّلة كثيرة الخضرة، أو ربما كانت جيبا ريفيا تابعا للمدينة الضخمة. الأسماء تفعل بخلاف الأرقام إذ هي تترك للمخيّلة أن تلعب، أو تتلاعب، على هواها. أما إن قال لك رجل اذهب الى نقطة التقاء جادة 4 بشارع 71 فإنه يبدو كأنه يدعوك لإبطاء التخيّل أو إيقافه. أي أن عليك أن تنتظر وصولك حتى ترى، أو يكون يقول لك إن محاولتك رسم َ"ماكيت" تخيّل للمكان، قبل معرفته، لا تفيد هنا. في نيويورك إذن يصعب على الزائر، أو حتى على المقيم، أن يختار شارعاً جانبياً منسياً ويقول ان هذا هو شارعه الأثير. ذاك ان الشوارع تقع وقعاً متساوياً على جميع مشاهديها ولا تعطي لأحد شيئاً على حساب أحد. ولا يتعلق ذلك بالأرقام النازعة الى مساواة كل شيء بكل شيء، بل أيضاً بانتماء النواحي جميعها الى زمن نيويورك الواحد: الزمن الجديد جداً أو الذي في مرحلة الجدة الأخيرة التي لم يتجاوزها شيء بعد في جميع مدن العالم. في أثناء ما يتنقّل الواحد متجولاً في نيويورك ينبغي له أن يظل متذكراً أنه في الجدة الأخيرة أو أنه يمشي الآن في الصف المتقدم أو الخط الأمامي للجدّة الراكضة ركضاً نحو القرن الواحد والعشرين، الجدّة التي تنتصر هنا في نيويورك وها هي ترفع أعلاماً وبيارق احتفالاً بالانتصارات. هناك ظاهرة أعلام قويّة في المدينة. نسخ لا تحصى من علم الولاياتالمتحدة لكنْ أيضاً علم، أو أعلام، ماكدونالد كما أعلام الشركات وأعلام البنايات الضخمة وأعلام البنوك وأعلام الشركات والمصانع المنتجة للالكترونيات. وهناك أعلام لسراويل الجينز أيضاً وأعلام لأصناف التبغ التي، إذ ترفرف، فذلك يعني انتصارها على الأصناف الأخرى وهزيمتها لها. علم الولاياتالمتحدة، الموزعة نسخه المرفرفة في أنحاء المدينة، لم يرفع انطلاقاً من الدافع ذاته الذي يرفع فيه أبناء الأمم أعلام بلادهم. انه هنا، في نيويورك، علم منتصر، وإذ ترتفع الى جانبه الأعلام الأخرى فإنما من أجل أن تشاركه الانتصار فتنتصر مثله. شركة سامسونغ الكورية للإلكترونيات تحتفل بنصرها هنا أيضاً وها هي كتبت اسمها، في سماء الجادة السابعة، بأحرف ربما كانت الأضخم في تاريخ رسم الحروف. إسم ضخم، مثلما هي ضخمة البنايات. وجديد أيضاً ما دام أنه يتصدّر واجهة ما في مدينة الجدّة. تقديم السود الى واجهة المشهد كل شيء جديد. المشاة الذين تجمّعوا حول الشرطي بانتظار ان تضاء لهم شارة التقدّم بدوا، فور خروجي من محطة بنسلفانيا، كأنهم وقفوا هناك ليصنعوا مشهداً جديداً. الهندي، أو الباكستاني، الذي يشتغل في الصيدلية، هو أكثر هندي جدّة من أي هندي، أو باكستاني، آخر سواه. ومثله الصيني الذي افتتح مطعماً صينياً في الجادة السادسة. لا تفتأ نيويورك تدلق جدة ضافية على من فيها فتلوّنهم بألوان قوية لامعة، أو انها تنفض عنهم الظليّة التي تكتنف سواهم من أبناء مدن البلدان الواقعة في الظل. حتى هارليم التي يحذر البعض من عبورها في الليل لا تنقصها الجدة. حتى اولد برودواي التي، حين عبرتها في المساء ماشياً، ووجدتها معتمة وأبنيتها عتيقة مهملة من شدة الفقر، حتى هذه، هناك جدة ما ترفعها مقدمةً أهلها السود الى واجهة المشهد المعاصر. نيويورك مدينة سهلة لا يضيع الواحد في شوارعها ولا في جاداتها. إنها مصنّفة بحسب قاعدة رياضية هي الأسهل والأيسر في الرياضيات، وربما كانت المرحلة التي تلي مباشرة عمليات الجمع والطرح. سنترال بارك أي الحديقة المركزية، أو الحديقة الأساسية، هي حقاً كذلك إذ هي تتوسط المدينة وتلتهم مستطيلاً ضخماً منها. حين أقول "مستطيل" أعني به المستطيل أي انه موجود على الأرض بدقة وجوده على الخارطة. زواياه متساوية وكذلك خطوطه المتقابلة متساوية، إنه برّية في قلب نيويورك والبنايات العالية في الجادات المتقابلة تشرف عليه كله، برغم اتساع مساحته. إنه برّية نيويورك، لكنْ البرّية المدنية إذ لم تفلح الأشجار المتزاحمة في أعلاه ان توحي بدغل، ثم انه كثير المخارج الى درجة تجعل دغليّته منتهَكة ومكشوفة أمام الداخلين جميعهم. نيويورك مدينة سهلة ولا أحد يضيع فيها. في يوم واحد صرت أعرف أين أنا أقف الآن وماذا يحيط بي من الجهات الأربع. حين أكون واقفاً في الشارع 35 من الجادة السابعة أستطيع ان آمر قدميّ قائلاً: خذاني الى الجادة السادسة شارع 32، فتأخذانني. أو أقول لهما أرجعاني الى حيث كنت في الشارع 35 من الجادة السابعة لأني أريد ان آكل بوظة هناك، فترجعانني. ليس عليّ إلا أن أخطو خطوات أعرف عددها على وجه التقريب حتى أصير في النقطة التي كنت قد قرّرت ان أصير فيها. من الساعة العاشرة صباحاً حتى الساعة السادسة مساء كنت كأنني لا أفعل شيئاً الا الاحتفال بمعرفتي التجوّل في المدينة واكتشافي لسهولتها التي لم أشبع من محاولات التأكد منها. تعلمت عليها في يوم واحد هل يمكن لشيء أن يكون سهلاً هيّناً هكذا، صرت أقول لنفسي وأنا أتقافز بين البلوكات التي تتقاطع عندها الأرقام. هذه هي نيويورك، وأنا عرفتها في يوم واحد. يا قدميّ خذاني الى 4×34، فتأخذانني. كأنني ألعب مع نفسي، لأنني لا أعرف أحداً في المدينة، لعبة فوازير أفوز فيها كل مرة. لقد تعلّمت على نيويورك في يوم واحد، لكن كان عليّ ان أخرج منها عائداً الى المدينة الصغيرة حتى يوحى لي بأنني لم أعرف منها إلا ما يمكن اعتباره الطابق الأرضي لنيويورك. هل ذهبت الى الامباير ستايت؟ سألني كنعان. هل دخلت الى ذلك السنتر الذي يرتفع نحواً من ثمانين طابقاً أو تسعين؟ قال لي، أو ربما أدركت بمفردي، انني لم أعرف الا الطابق الأرضي، أو بعض الطابق الأرضي. نيويورك هي هناك في الأعلى، في الطوابق العالية، طوابق البنايات العالية، تلك التي تصير أصعب وأعقد كلما ارتفعت صعوداً. وهذا صحيح، إذ انني رأيتهم، في أسفل ناطحات السحاب تلك، في محلاتها الأرضية، يبيعون فواكه وخضاراً وبوظة وقهوة وأحذية وقمصاناً، هكذا كأننا في مدينة عادية مثل باريس.