إن المحصلة الحقيقة لأحداث الثلثاء الدامي في الولاياتالمتحدة الأميركية تؤكد أن إسرائيل قد حققت مكاسب حقيقية من تلك الكارثة غير المسبوقة في تاريخ البشرية. ولا أريد أن أمضي وراء المنطق القانوني الذي يقول "إذا وقعت جريمة فابحث عن المستفيد"، فنحن لا نملك حق توجيه الاتهام لدولة بعينها أو قومية بذاتها أو دين محدد، ومع ذلك فإن كثيراً من القوى المعادية للعروبة والإسلام اندفعت منذ الساعات الاولى لوقوع ذلك الحادث المأسوي في توجيه الاتهامات الجزافية إلى ما اطلقوا عليه اسم الإرهاب الإسلامي في محاولة خبيثة لتصفية حسابات تاريخية والعبث بملفات قد لا تكون طرفاً مباشراً في ذلك الحادث. ويهمني هنا أن نبحث عبر هذه السطور عن المستفيد الحقيقي مما جرى حتى وإن لم يكن ضالعاً فيه. وأبادر في البداية فأزعم - وأرجو أن أكون مخطئاً - ان بعض العمليات الإرهابية التي نسبت الى الفلسطينيين والعرب أو المسلمين لم تكن بريئة من أصابع خلفها تحركها أجهزة إسرائيل الخفية في محاولة للحصول على رد الفعل الذي تريده من خلال الفعل العنيف الذي تشوّه به صورة النضال احياناً أخرى. فمسألة اختراق بعض المنظمات الفدائية أمر وارد بل أن هناك نهجاً آخر يجعل من فرد أو جماعة معينة أو منظمة سياسية أداة في يد اجهزة خبيثة تحركها ببراعة من دون أن يدرك الفرد أو الجماعة أو المنظمة انهم عملاء غير مباشرين بل إن قوميتهم قد تكون صادقة ونياتهم مخلصة. فهم اصحاب قضية عادلة ولكن تعوزهم الوسائل ويحتاجون الى من يحدد أمامهم الأساليب. لذلك كله فإنني اتصور احياناً - وأرجو أن أكون واهماً - أن القوى المعادية للفلسطينيين والعرب والمسلمين هي التي تحرك احياناً بعض العمليات التي يقومون بتنفيذها على رغم أنها قد تكون تشويهاً لصورتهم وتوريطاً لهم امام الرأي العام والحكومات حتى يتم دمغهم بالإرهاب ووصمهم بالعنف والربط بينهم وبين العدوان على الابرياء وقتل المدنيين. وهذا الاختراق في ظني او في وهمي لا يبدو بعيداً عن ملابسات ذلك الحادث المروع الذي اهتزت له اركان الدنيا، وما زلت أذكر منذ صدر الشباب الباكر عندما تم اختطاف اول طائرة مدنية على يد إحدى المنظمات الفلسطينية، وكان ذلك منذ أكثر من ثلاثين عاماً. يومها بدا لي الأمر غريباً وتصورت انه حادث فردي لن يتكرر كثيراً، ولكنه اصبح بعد ذلك نمطاً متكرراً حصلت عبره إسرائيل على بطولات زائفة في مطار "عنتيبي" يوماً وفي محاولات مماثلة اياماً اخرى. بل إنني ادّعي ان اغتيال عدد كبير من رموز الاعتدال الفلسطيني في العواصم الاوروبية لم يكن هو الآخر بريئاً من اصابع خفية حركت الجهات المنفذة بغير وعي بها أو ادراكاً منها. والآن دعنا نتلمس خطواتنا من خلال تحديد حسابات المكسب والخسارة في حادث 11 ايلول سبتبمر 2001 الحالي. ويمكن ان نرصد الفاتورة النهائية لنتائجه من خلال النقاط الآتية: - أولاً: خرجت الولاياتالمتحدة الاميركية من ذلك العدوان الإرهابي مهيضة الجناح ناقصة الهيبة، فللمرة الأولى تضرب مصالحها على ارضها وينتقل الإرهاب الدولي إلى قلبها. مَن كان يتصور أن تحدث هجمة إرهابية بهذا الحجم الضخم على واشنطن العاصمة او نيويورك اكبر المدن الاميركية على الاطلاق مستهدفة قلاعها الاقتصادية والعسكرية في محاولة لضرب الرمز الذي يشير الى العصر الاميركي بكل ما له وما عليه؟ لذلك فإننا نتصور أن امام الولاياتالمتحدة الاميركية واحداً من طرق ثلاث: الاول هو أن تضرب بعصبية وانفعال كل المواقع التي يأتي منها الشك بل وتتجاوز ذلك إلى عملية تصفية حسابات مؤجلة وقد تطاول ردودها آلاف المدنيين الابرياء وعندئذ نكون أمام منطق رعاة البقر ولسنا أمام دولة ذات مسؤولية تتقدم دول العالم وشعوب العصر. واتجاه ثان قد يدعو الادارة الاميركية الى التروي وضبط النفس واللجوء إلى تشكيل تحالف دولي يشعرها بالشراكة المطلوبة وينهي عن كاهلها العزلة القائمة. والاتجاه الثالث يقوم على مراجعة امينة من جانب الولاياتالمتحدة الاميركية لسياساتها في مناطق مختلفة من العالم تحدد بوضوح حجم الاختلاف معها والاعتراض على طريقتها في التعامل مع باقي الامم والشعوب. وفي ظني ان هذا الاتجاه الثالث هو الاتجاه المتحضر وإن لم اكن متأكداً من إمكان تحقيقه. - ثانياً: إن تأثير ما حدث على الصراع الدامي في الاراض المحتلة سيتدهور اكثر واكثر. فإسرائيل لن تضيع الفرصة في مزيد من عنف المواجهة والتصعيد العسكري مستغلة انشغال العالم بما جرى في الولاياتالمتحدة الاميركية. ولا اظن إن إسرائيل ستترك هذه الاحداث تفلت من يديها من دون أن تستفيد من ذلك في محاولة نهائية لتصفية القضية الفلسطينية وسوف يهلل لها الإعلام الاميركي المنحاز باعتبارها تؤدي رسالة مقدسة في مواجهة ما تسميه بالإرهاب الفلسطيني بينما إسرائيل هي رائدة الإرهاب في العالم تاريخياً، في احضانها عاشت جماعاته ونشطت تنظيماته. لذلك فإن إسرائيل لن تتوقف عن توظيف ذلك الحدث لخدمة اهدافها وتشويه صورة المقاومة الفلسطينية والخلط المتعمد بين النضال الوطني والإرهاب الدولي. فالنضال ضد الاحتلال عمل مشروع يقره القانون الدولي ويقف على ارضية عادلة من خلال قضية ذات مضمون، بينما الإرهاب عنف عشوائي لا يستند الى قضية ولا يقف على ارضية واضحة ذات ابعاد محددة. ولا شك ان إسرائيل انتهزت فرصة العمل الإرهابي في واشنطنونيويورك لتقوم بحملة واسعة النطاق لضرب الفلسطينيين وتطبيق سياسة الفصل العنصري الجديدة باقتحامها للمدن وخرقها لكل المواثيق والاعراف. بل إننا لا ننسى مشهد قادة إسرائيل بعد لحظات قليلة من الانفجار المروع لذلك الحادث الضخم حيث تبارى قادة إسرائيل في توجيه الاتهامات لكل المنظمات العربية والاسلامية في محاولة مبكرة لتوريط كل من يريدون التخلص منه بحيث تبدو إسرائيل شهيدة الإرهاب منذ قيامها بينما اصحاب الحق الضائع والقضية العادلة هم الذين يجب اقتلاعهم والتخلص منهم. - ثالثاً: إن هناك قوى كامنة في الولاياتالمتحدة الاميركية وبعض الدول الغربية تتربص بالاسلام الدوائر وترى فيه الخصم الحقيقي لروح العصر وتربط بينه وبين الإرهاب الذي تصر على إلباسه عباءة ذلك الدين العظيم وتضع عمامته فوق رأس كل عمل إرهابي غامض. وهل ننسى الاتهامات المتعجلة التي وجهها اطراف كثيرة بعد حادث "اوكلاهوما" منذ سنوات ثم ثبت بعد ذلك ان الفاعل اميركي جرى اعدامه منذ شهور قليلة، فلماذا لا يكون تنظيمه المحلي هو المسؤول عن جرائم جديدة تأكيداً لوجوده وانتقاماً لاحد اعضائه وامتداداً لتصرفات غير مفهومة في المجتمعات المتقدمة وعلى رأسها المجتمع الاميركي حيث تابعنا كثيراً تلك التجمعات المشبوهة تحت مسميات دينية تمارس طقوساً غريبة تعادي الانسان والوطن والحياة وتخضع لتأثيرات لا تخلو من هوس ولا تبرأ من شعوذة وتدعو للانتحار الجماعي، ولماذا نذهب بعيداً فالجيش الاحمر الياباني يختزن مرارة هيروشيما وناغازكي اللتين حلت ذكراهما السادسة والخمسين في الشهر الماضي واسلوب "الكاميكاز" هو نمط الانتحار الفدائي الياباني الذي نعرفه منذ أيام بيرل هاربر، ومع ذلك قد يكون تنفيذ الجريمة الاخيرة اسلامياً او عربياً ولكنه لا يمثل كل اطراف ما حدث. فأنا اعتقد ان هناك عملية اختراق خفي هي التي خططت ورسمت في السر كل ما تريد وتركت للعناصر المسلحة الجزء العلني من العملية الإرهابية وهي تدرك ان حصادها في النهاية هو كل الايجابيات بينما يتحمل الاسلام والعروبة والفلسطينيون بعد ذلك كل السلبيات. إن قراءة ما حدث اخيراً في الولاياتالمتحدة الاميركية يعكس في ظني دلالات لا بد من الوقوف امامها، وهي: 1- انعدام شعبية السياسة الاميركية في كثير من مناطق العالم بل إن هذه النقطة كانت سبباً لغموض الجريمة ذاتها فقد كانت كل الاحتمالات مفتوحة لأن العداوات الاقليمية مع الولاياتالمتحدة الاميركية تمتد من افريقيا الى اوروبا ومن آسيا الى اميركا اللاتينية وهذه الجبهة العريضة من العداء المختزن والانتقاد الشديد للسياسة الاميركية تجعل الوصول الى تفسير حاسم لتلك الجريمة النكراء امراً صعباً ومعقداً. 2- إن المجتمع الاميركي يحمل في داخله بذوراً للشر وبؤراً للتوتر ويعكس بين الحين والآخر الظواهر السلبية التي تقبع في اعماقه. فاليمين الاميركي في جانب و"بارونات" المخدرات في جانب آخر يمثلون قوى محلية مرشحة للقيام بمثل هذه الجريمة الاخيرة. 3- إن أصدقاء الولاياتالمتحدة الاميركية وحلفاءها يقفون موقفاً لا يحسدون عليه فهم يدينون الإرهاب بمنطق القانون والاخلاق ولكنهم لا يستطيعون في الوقت ذاته الدفاع عن كل السياسات الاميركية بمنطق ازدواج المعايير والكيل بمكيالين. 4- إن التفوق الاعلامي الذي تتمتع به الولاياتالمتحدة الاميركية وتسيطر عليه دوائر قريبة من إسرائيل قد برع في تصوير بعض المشاهد العابرة للشباب في فلسطين أو لبنان أو غيرهما من الدول العربية لكي يزيف بها فرحة عربية بالجريمة تأييداً للإرهاب. وهكذا تمكنت إسرائيل من تحقيق عشرات الاهداف لحادث واحد وضربت عدداً من العصافير بالحجر نفسه. 5- إن القضية الفلسطينية تبدو في النهاية هي الضحية المنتظرة لكل ما جرى. فالتآمر يجري حولها والسعي يتيح لتصفيتها والحادث الإرهاب يجري توظيفه لخدمة إسرائيل في مزيد من الانتهاكات للارض العربية والمقدسات الإسلامية. ولكن هل لنا ان نحرج من هذا التحليل المفرط في التشاؤم الى تصور أكثر ايجابية؟ نعم، إن ذلك ممكن فلو طلب العرب بشكل جماعي ان يكون انضمامهم للتحالف الدولي ضد الإرهاب الذي دعت اليه الولاياتالمتحدة الاميركية هو المقابل لسياسة اميركية عادلة في الشرق الاوسط وتسوية مقبولة للنزاع العربي - الإسرائيلي، لو أن ذلك قد حدث لكنّا استطعنا الخروج من المأزق وتحويل الموقف السلبي الذي يراد لنا أن نظل فيه الى موقف إيجابي نستحقه. فنحن نقول كعرب بصوت واحد نحن ضد الإرهاب بكل صوره واشكاله وفي مقدمها نموذج "إرهاب الدولة" الذي مارسته إسرائيل منذ نشأتها، ولكننا مع إنهاء الاحتلال واستعادة الحق لأن القهر هو الأب الشرعي لكل انواع العنف، كما أن الاحساس بالظلم يبرر امام الانسان كل التصرفات والمواقف والاحداث. فليكن الحادي عشر من ايلول سبتمبر الدامي نقطة تحول في تاريخ العالم وعلامة فاصلة للصراع الزمني في الشرق الاوسط. فهل يتحقق هذا الامل أم ان النتيجة كما كانت دائماً هي مزيد من سحق الفلسطينيين وإذلال العرب وتشويه صورة المسلمين. دعونا نأمل، فالكوارث تعلم الامم، والفواجع تنبه الشعوب، والضحايا البريئة توقظ الضمائر الميتة. * كاتب قومي، عضو البرلمان المصري.