عندما شنّ التحالف بقيادة الولاياتالمتحدة الاميركية حرب تحرير الكويت العام 1991 كان الكل يدرك - سواء من كان مع ذلك التحالف أو ضده - ان "عاصفة الصحراء" واضحة المعالم ولو ظاهرياً، محددة الأهداف ولو مرحلياً، أما "الحرية الدائمة" أو "النسر النبيل" سابقاً فهي حملة من نوع مختلف يبدو الهدف العام منها معلناً ولكنها تخفي في ثناياها من مصادر القلق وأسباب الغموض ما يكفي لأن تكون مادة للبحث والتدقيق. إذ لا يختلف اثنان في هذا العالم على أن مقاومة الارهاب هدف نبيل وغاية انسانية بالدرجة الاولى، ولكن التساؤلات تأتي بعد ذلك مباشرة في سلسلة طويلة جداً من تعريف مفهوم الإرهاب وتحديد الخطوط الفاصلة بينه وبين غيره من صور العنف وفي مقدمها المقاومة الشعبية ضد الاحتلال الاجنبي والنضال الوطني من أجل حقوق مشروعة. كذلك يلحق بها تساؤل آخر يتصل بحدود مكافحة الارهاب والضمانات المطلوبة لحماية الابرياء في إطار تلك العملية شديدة الحساسية بالغة التعقيد. لهذه التساؤلات وغيرها يصبح الهدف النبيل محاطاً بعدد كبير من المحاذير والمخاوف. ولعلنا نعرض في هذا المقال الموجز بعض مبررات القلق ودوافع الشعور بالغموض: أولاً: نتصور احياناً ان هناك أجندةً خاصة أو جدول أعمال محدداً يختلف من بلد الى آخر بينما يحاول الكل توظيف نتائج 11 ايلول سبتمبر 2001 لمصلحته الذاتية وأهدافه الاستراتيجية، فالاجندة الاميركية تسعى لإعادة ترتيب الاوضاع المختلفة من العالم بحيث تكون طيّعة في مواقفها ليّنة في سياساتها فلا تصطدم مع الاستراتيجيات الكبرى للقوة الأعظم ولا تتعارض مع الحسابات العلوية لها في هذا الشأن. بينما تعتمد الاجندة البريطانية على دعم مطلق للسياسات الاميركية وهو تقليد التزمته لندن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية رداً لدَين اميركي، واعتباراً لخصوصية العلاقة بين الدولتين، فضلاً عن التراث الثقافي المشترك الذي يربط بين تاريخهما الحديث. وتتجه اجندة روسيا الاتحادية الى أكبر قدر ممكن من المكاسب في حزام وسط آسيا كما يقع في مقدم أهدافها التصفية الكاملة لثورة الشيشان ووضع حد نهائي للحركة القومية فيها. وعلى الجانب الاخر تسعى الاجندة الهندية الى إضعاف باكستان والخروج بتسوية رابحة في مسألة كشمير بعدما تكون نيودلهي نجحت في إلحاق الثوار المسلمين في كشمير الهندية بقائمة الارهاب الدولي. ثانياً: إن افغانستان التي تقع بين باكستانوايران وكلاهما دولة إسلامية ذات برنامج نووي يجعل أمرهما شديد الحرج بالغ الصعوبة، فاذا أضفنا الى ذلك تصاعد الاصولية السُنية في باكستان والثورة الشيعية في ايران فاننا نكون أمام وضع أكثر خطورة وأشد التهاباً، بينما "التنين الأصفر" في الصين يرقب الاحداث في هدوء لا يخلو من مجاملة للولايات المتحدة الاميركية مع قلق من أية مكاسب للجارة الهندية. ثالثاً: إن المسألة العراقية وما يلحق بها من تطورات في الخليج تمثل هي الاخرى هاجساً اميركياً - اوروبيا قد يسعى لاستثمار اشارة بن لادن في كلمته المسجلة أخيراً بحيث يتلقى العراق ضربة جديدة في خضم الحملة وزحام الأحداث. رابعاً: إن الاجندة الاسرائيلية تبدو هي أوضحها جمعياً فإسرائيل تسعى الى عدد من الاهداف في مقدمها تشويه النضال الفلسطيني العادل وخلطه بالارهاب الدولي سعياً لإجهاض الانتفاضة، بل وتصفية القضية الفلسطينية اذا كان ذلك ممكناً، كما تسعى اسرائيل الى التخلص من بعض رموز القلق الذي يحيط بها وفي مقدمها على الاطلاق "حزب الله" الذي يمثل قيادة المقاومة اللبنانية ضد الوجود الاسرائيلي. كذلك تسعى اسرائيل الى التشويش على القضية الفلسطينية خصوصاً وان تداعيات 11 ايلول سبتمبر 2001 تسمح بذلك وتساعد عليه، فالكل مشدود الى نتائج تلك العملية الارهابية الضخمة التي تعرضت لها الولاياتالمتحدة الاميركية في ذلك اليوم حتى ان أخبار شهداء الانتفاضة الفلسطينية قد توارت في تقارير وكالات الانباء العالمية ونشرات الاخبار المسموعة والمرئية. خامساً: لعل أخطر الأمور فيما يجري الآن هو تلك التصريحات الغربية غير المسؤولة والاشارات التي تعبر عن فهم خاطئ وقراءة متعجلة للموقف برمته، فالغمزات على الاسلام والملاحظات حول الحضارة العربية لا تخدم في النهاية احداً بل هي تزكي حدة الصراع وتفتح الباب واسعاً امام أسباب التأويل ومبررات القلق، كما أنه لا يخفى على أحد ان الحضارة العربية الاسلامية ظلت لقرون عدة مركزاً للإشعاع وسبباً للتواصل مع غيرها من معابر التماس، بل لقد واصلت تلك الحضارة تفاعلها المستمر مع غيرها في حيوية واقتدار شديدين، لذلك فإنه من العبث والظلم معاً ان نضع الاسلام في مواجهة مع الغرب بدعوى ربطه بالارهاب والخلط بينه كشريعة سماوية مقدسة وبين العنف الذي لا يقف على أرضية من الشرعية الدولية ولا يعبر عن مضمون قضية واضحة. إن متابعة ما يجري في الفترة الاخيرة وقراءة ما وراء السطور يوحيان بأن المطبخ الغربي بقيادة الطاهي الاميركي يدبر مشروعاً لنظام عالمي جديد تخضع له فيه كل الثقافات، وتستسلم أمامه الحضارات كافة، وتبقى واشنطن عاصمة العالم الاولى، منها تتحدد السياسات ومعها تتقرر الاستراتيجيات. فمقاومة الارهاب هدف رفيع القدر ولكنه يبدو احياناً كالحق الذي يراد به باطل، وعلى الجانب الآخر فإننا نؤكد أنه من الظلم البين ان يدفع العرب والمسلمون فاتورة الارهاب مرات عدة، الاولى بما وقع على أرضهم ولعل النموذجين الجزائري والمصري خير مثالين لذلك، ثم يعاقب هؤلاء مرة أخرى بتشويه صورتهم والاساءة الى جالياتهم في الخارج. اما القسط الثالث من فاتورة الارهاب فهو ذلك الذي يدفعه حالياً مئات من الابرياء ممن تتعقبهم الصواريخ الاميركية رغم أنهم ليسوا "حركة طالبان" أو مؤيدي "بن لادن". إننا نحذر في هذا المقال من استثمار نتائج 11 ايلول سبتمبر 2001 وتوظيف القراءة له لخدمة اهداف ضيقة أو غايات محدودة يكون من نتائجها آلاف الضحايا من الابرياء الذين تلحق أرواحهم بآلاف الضحايا الذين سبقوهم سواء في واشنطن او نيويورك او في غيرهما من المناطق التي أضيرت بأحداث الارهاب الدامي، إذ أن كل هؤلاء الضحايا هم ابناء الانسانية دون النظر الى دين أو قومية أو لون أو جنسية فالانسان هو الانسان في كل زمان ومكان. وتبقى في النهاية نقطة أخيرة ترتبط بممارسات اسرائيل ضد الفلسطينيين في هذه الظروف، إذ أن الاغتيال السياسي الذي تخطط له حكومة مسؤولة هو واحد من أبرز نماذج الارهاب في عالمنا المعاصر وهو الذي نطلق عليه "ارهاب الدولة"، وإلا بماذا نفسر اجتماع مجلس الوزراء الاسرائيلي المصغر في أكثر من مناسبة لكي يتخذ قراراً باغتيال أحد القيادات الفلسطينية وفقاً لأساليب تتسم بالغدر وتتصف بالعدوان وتندرج بالقطع تحت تعريف الارهاب في أدق صوره. إننا أمام حدث عالمي غير مسبوق وسيتحدد وجودنا نحن العرب بقدرتنا على توظيف نتائج ذلك الحدث الضخم لكي تكون في مصلحة القضية العربية الاولى وفقاً لأطر الشرعية الدولية وتنفيذاً لقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، إنها فرصة قد لا تتكرر عندما تتداخل العوامل الدولية مع الصراعات الاقليمية وتظل في النهاية مخاوفنا مبررة وقلقنا مشروعاً، ولن يهدأ المسلمون والعرب بل ومعهم ملايين أخرى في العالم إلا اذا توقفت سياسة ازدواج المعايير والكيل بمكيالين واصبحنا أمام قوة عظمى لها من الحب بقدر ما لها من احترام، ولها من الهيبة بقدر ما لها من شعبية، ولها من التقاليد الفكرية والمبادئ السياسية والروح الحضارية ما يجعلها دائماً تدرك اننا جميعاً في قارب مشترك وقرية كونية واحدة مهما تعددت أسباب الاختلاف وتنوعت أنماط البشر، فالانسانية في النهاية هي "الكل في واحد". * كاتب قومي، عضو البرلمان المصري.