كشفُ السرة ومنطقة البطن عموماً التصق في ذاكرتنا العربية بالرقص الشرقي ورموزه من ناديا جمال ونجوى فؤاد الى سهير زكي، قبل أن تغطيهما عين الرقابة الساهرة على الأخلاق في مرابع الليل. ومع ذلك، في أواخر الستينات، أفلتت السرة من محيط الرقص الشرقي لتدخل في نطاق الموضة ولو بشكل محدود جداً، وعادت هذا الصيف لتفرض حضوراً لافتاً ليس على الشواطئ فحسب بل في شوارع المدن العربية الكبرى كالقاهرة ودمشق وبيروت. وهو ما جاء امتداداً لموضة الجينز الأميركية لهذا العام، حيث احتلت موضة كشف السرة مكاناً مرموقاً في الأغاني والإعلانات، مما جعل مجلة "نيوزويك" الأميركية تصف هذا العصر في تحقيق نشرته أخيراً بأنه "عصر الحملقة في السرة". ما يلفت النظر في التحقيق ليس موضوعه الذي لا بد أن تراه غالبية القراء من العرب موضوعاً متهتكاً وسخيفاً لا يستحق التعليق عليه، حتى لو كانت بدعة كشف السرة عند الشابات منتشرة قليلاً أو أقل من القليل في محيطهم. فالقارئ العربي المعتاد على ما ثقل من كلام في القضايا المصيرية غير معني بمظاهر يراها طارئة وعابرة على المجتمع، ومرفوضة لما فيها من دليل على فراغ فكري ونهم نفسي تعيشه الأجيال الشابة تحت هيمنة نزعة استهلاكية جشعة. ما يستحق التوقف عنده في هذا النوع من التحقيقات، أولاً: طرافة اللقطة في موضوع هامشي بمقاربته من خلال زاوية تضفي عليه جاذبية مستحدثة حتى لو كانت مفتعلة أحياناً. ثانياً: الحِرَفية المهنية في استخدام لقطة صغيرة بحجم السرة أو أقل مدخلاً للتعرض الى المجتمع في مجالات متعددة، من التطرق الى الإعلام والإعلان والتسويق، وصناعة الملابس والإكسسوار وتجارتها حتى الغناء والموسيقى. ثالثاً: مراعاة الاختزال مع الوضوح في تناول أكثر من منحى للفكرة على مساحة لا تتعدى صفحة المجلة مع صور داعمة للتحقيق. إضافة الى تلك النقاط الثلاث المهمة تأتي النقطة الرابعة، وهي الأهم في ما يكشفه هذا النوع الثانوي والمحدود من التحقيقات الصحافية من هوة واسعة بين مجتمعاتنا العربية المشغولة بخيباتها، والمجتمع الأميركي الذي يبدو لنا مجتمعاً منشغلاً بترفه ولا مشكلات حقيقية تشغله. لا بل انه يبتكر اشكاليات يعكف عليها، علاوة على ما يعانيه من أعراض الأمراض الحضارية المستعصية، مثل تصادم الأخلاق مع فاعلية تطوير البحث العلمي قضية الخلايا الجذعية، والاستنساخ في الوقت الذي تبحث فيه مجتمعاتنا العربية عن هوية ومعنى لوجودها في بقعة جغرافية متنازع عليها، وتأكيدات لشرعية دفاعها عن النفس والوجود، والجد في اجتراح معجزات لتثبيت فكرة التوجه الواحد والعقل الواحد. فإذا كان الفارق كبيراً بين ثقافتهم المصابة بنقص في القضايا الكبرى الاستقلال، وسلسلة قضايا التحرر اللامنتهية، حقوق الإنسان، الديموقراطية وثقافتنا المتخمة بالقضايا الكبرى، والمنهكة بالموروث المجيد والمنتهَكَة بالواقع المتردي، والمجتهدة في ثقافة الخلاف لتغييب الاختلاف" فربما شكل عبور هوة "السرة" قفزة خطرة بين مجتمعاتنا ومجتمعاتهم. فحتى لو زعمنا ان ما يشغل بال رجال الموضة والإعلان في أميركا قضية لا تعنينا، لن نستطيع الزعم - كمثال حاضر - أن السرة ليست واردة في شوارعنا وحفلاتنا وقنواتنا! ثم وليس في معرض الفخر إذا كان الغرب قد عرف بالسرة، على هذا النحو، منذ عقود قليلة فإن العرب اكتشفوها وعلى أكثر من نحو، منذ قرون عدة! وربما لو تركنا قضايانا الصغيرة لعناية اعلامنا الفني والاجتماعي فسوف تبدو أي قضية في غاية السخافة، ليس لعدم أهمية الموضوع والسبق بل لغياب لغة مهنية تمنح أي فكرة مهما كانت جدية أو ساذجة معنى يقودنا الى طرح تساؤلات حيوية حول ظواهر يومية، من دون توريم الطرح أو تثقيل ظله أو تتفيه دلالاته. المشكلة ان ثقافتنا غير قادرة على التخفف من رداء الأفكار الكبرى، لأنها خارج سماكته تعاني من البرد والبرود وتفتقد الى الضجيج والحماسة، بل تبدو شعاراتها عارية وعاطلة عن المعنى. وهو غالباً ما نلمسه في الإعلام الفني والترفيهي تحت غطاء الجدية العابسة والتوجيه. ولعل وطأة القضايا الكبرى هي ما يجعل المعالجة الأدبية تنوء بلغة بهلوانية وعويصة تلهو على حبال الأفكار لتوهم بمعان غير موجودة، فتكون اللغة بحد ذاتها هي الفكرة واللاتفكير واللعب والتلاعب، حتى حين يتطلب التعبير عن بديهيات وحالات عادية جداً لغة بسيطة وواضحة لا تحتمل التأويل والفذلكة والحذلقة. وما أكثر الأدب العالمي، الذي تتميز عظمته في بساطته لا في تعقيده، في دقته لا في غموضه. ولتبرير هذا الطرح يكفي التأمل في ما أصاب موضوع "الجنس" من إطناب وترهل. فبينما نراه في النتاج الثقافي الغربي موضوعاً كغيره من المواضيع يُطرح من دون عقد وبسلاسة وعمق، أو بطرافة مدهشة من غير أن يُحدث صدمة للقارئ المثقف أو المطلع، فإذا ظهرت مشكلة حاول النتاج الأدبي فهمها لا المتاجرة بها، يُلاحظ في الثقافة العربية ان التعامل الأدبي مع الجنس غالباً ما يأتي خالياً من صنعة الأدب وحساسيته. ولا يعدو سوى حاجة مرضية تعويضية عن نقص ما، وكثيراً ما نقرأ في أدبنا الواقعي استعراضات جسدية مفرطة في فحوليتها الاستثنائية، هي في النهاية تعبير عن عنانة حقيقية في فهم الواقع الذي يكون من ضمنه "الجنس" كلغة من أبسط اللغات التي عرفها الإنسان. كذلك في العقد الأخير، ظهر توجه لدى البعض من المثقفين نحو التركيز على الجنس كدليل على رقي حضاري يتفاخرون ببلوغه عبر انتاجهم الثقافي، من دون أن يعيقهم تناقض ذلك مع تخلفهم الإنساني عموماً وسلوكهم الشخصي اليومي والحياتي خصوصاً. أو من جهة أخرى، يبدو التركيز على الجنس تأكيداً على مقدرة استثنائية في اختراق المحرمات وتحدي التقاليد السائدة، والأخيرة تبدو أكثر حضوراً عند بعض الكاتبات من النساء، اللائي تفوقن على زملائهن الذكور في استعراض "فحولتهن" الجنسية وجرأتهم اللفظية، لا سيما في تلك النصوص "التحررية" التي لا تعدو في جوهرها سوى اعلان براءة فجة من موروث أصبح قيداً ثقيلاً على نزوعات لا علاقة لها بالأنواع الأدبية، أكثر منها نصوصاً تغور عميقاً في الحياة البشرية من أجل سبر انساني لموضوعة القيم والأخلاق والتقاليد، كذلك للذات والآخر. أليست العقد الجنسية المعروفة، تخضع للتبييض من خلال تفجرات شعرية أو روائية متحررة سطحياً وظاهرياً، في حين انها انعكاس مفرط لمشكلة باطنية متأصلة في التخاطب مع الآخر والتواصل معه؟ فكم مضى على التباهي بدعوات الحوار والتأكيد على ضرورتها من خلال إشادة نظرية بقواعد وأصول الحوار؟ ألا يبدو ذلك مواكباً أيضاً لازدهار فكرة المؤامرة، والذات المضطهدة والآخر المتآخر؟! وإذا أردنا ان نقفل موضوعنا قبل ان نضيع ونضيعه، فلا بد من العودة من حيث بدأنا، أي من تحقيق السرة والى سؤال طرحه أخصائي تجميل: "إذا كنا نجري العمليات الجراحية للسرة ونجعلها تغي لتغري بإضافة زينة واكسسوارات لجذب الانتباه فهل يعني ذلك ان السرة أصبحت لها منزلة المناطق الساخنة الأخرى؟". عن هذا السؤال يجيب مسؤول اعلاني بأن السرة "أمامها شوط طويل قبل ان تصل الى مصاف الصدر والمؤخرة، لذلك يجعلها الإعلان تغني، فلن نرى المؤخرات وهي تغني لأنها لا تحتاج الى ذلك، إذاً لا بد للسرة ان تجتهد في العمل". إذا افترضنا ان منطقتنا العربية بحكم موقعها الجغرافي وسط العالم بمثابة السرة فكم علينا أن نغني؟