نظرت مينا إليّ بعينين مبحلقتين وبدت انها تستغرب، او تستنكر، سؤالي إليها عما دفع بها الى ارتداء الحجاب. وسكتت لبرهة، بدت لي طويلة جداً، قبل ان تجيب من دون تكلّف: - ولكن هذا جزء من الدين الذي أنتسب إليه. ثم أضافت فوراً: - وجزء من عاداتنا ايضاً. شعرتُ للحظة أنني طرحت سؤالاً نافلاً وأنه لم يكن لي ان افكر حتى بمجرد النقاش في شيء كهذا مع مينا. ولكن الذاكرة وحدها أزاحت عن كاهلي ثقل الإحراج. أنا اعرف مينا منذ سنتين. لقد أتت من إيران "هاربة من الجحيم" كما قالت يوم التقينا للمرة الأولى في حفلة جمعت بعض المهاجرين واللاجئين من الفرس والأكراد. كانت مينا، آنذاك، ترتدي بنطال جينز غرق في اللون الأزرق وقميصاً وردياً بدا لي خفيفاً، وهشّاً يفضح اكثر مما يستر. كان شعرها يلعب في الهواء، طليقاً، فيما كانت، هي، تروح وتجيء مختالة، كأنها تريد ان تجعل من جسدها رسالة تنثر كلماتها في كل الاتجاهات. "لم أكن ارتدي الحجاب اول ما قدمت من إيران"، قالت مينا، كما لو انها قرأت ما يجول في خاطري. ثم أردفت ضاحكة: "لقد هربت من الحجاب في إيران". وهاجمتني، على الفور، حيرة كبيرة لم استطع إزاحتها من ذهني. هناك اختلاط في الأشياء، على ما يبدو، قلتُ في نفسي ثم ابتسمت محاولاً تبديد التشويش الذي حاول الإمساك بخناقي. "في إيران يتم فرض الحجاب من فوق. رمز مكثف للرغبة في تضييق الحياة وإفراغها من معناها. ومعنى الحياة هي ان تكون حراً. أليس كذلك؟". بدت انها لا تطرح السؤال عليّ بل على نفسها، بل ربما، هكذا، على لا أحد. وهي لم تنتظر ان تتلقى مني جواباً فأضافت من دون إبطاء: "انا لستُ ضد الحجاب من الأساس، ولكنني ضد فرضه بالقوة. حين تأخذ السلطة على عاتقها أمر التدخل في الحياة الخاصة للناس فإن العيش، في ظل سلطة كهذه، يصير جحيماً لا يطاق". نظرت مينا، مرة اخرى، إليّ. ولكن نظرتها لم تكن مبحلقة هذه المرة. كانت نظرتها هادئة، صافية، كأنها تنبع من كائن طفولي وليس منها، هي الفتاة الجادة، الصارمة التي، وإن لم تتجاوز الثالثة والعشرين، تبدو كما لو انها تحمل على كتفها تجارب الحياة كلها. - ولكن إذ ترتدين الحجاب فإنك تفعلين، هنا، ما رفضتِه هناك. أليس من تناقض؟ "لا. تجيب مينا بسرعة. لقد سبق وذكرت لك انني هربت من إيران لأنني لم استطع تحمّل نمط عيش يفرضه اشخاص ليس لهم الحق في أن يسيّروا الحياة كما يشتهون". - ولكنكِ قلتِ في أول الحديث، ان ارتداءكِ الحجاب يأتي من تشبّث بالدين والعادات. وهم هناك، في إيران، يفعلون ما يفعلون استناداً الى نزوع لتطبيق الدين والعادات. اعتقدتُ أنني، بهذه المحاججة، أقفلت الطريق امام مينا وظننت انها لن تستطيع الخروج من مأزق حبكته لنفسها بيديها. - "لا. ليس الأمر هكذا. لا يعيّن الدين ناساً ليكونوا أوصياء على ناس آخرين. الدين لا يصنف الناس جماعات مختلفة، بعضها يأمر ويقرّ وبعضها يأتمر وينفّذ. الناس، في الدين الاسلامي على الأقل لأن هناك ديانات اخرى لا تقرّ ذلك، سواسية. والكل مهيّأ للركون الى عقله في اختيار ما يراه صالحاً ومفيداً. فإذا جاء امرؤ وفرض عليك شيئاً فسوف تشعر بالنفور من ذلك الشيء حتى ولو كان مفيداً لك. إن الاستبداد امر بشع في كل شيء". لم أستطع ان أردّ. شعرت ان مينا هي التي أقفلت الطريق امامي. وأنني، أنا، من وقع في مأزق. وفي رغبة للخلاص سعيت الى اخذ الموضوع في اتجاه آخر: - ولكن هل يتفق ارتداءك للحجاب، الآن وفي النروج، مع المنظور الذي يرسمه عقلك؟ لم تتردد مينا برهة واحدة. ردّت على الفور: - "تماماً. انه يتطابق مع ما يمليه عليّ عقلي. ولكن ليس العقل وحده، بل كذلك نظرتي الى نفسي وجسمي وسلوكي وتقويمي لعلاقاتي مع الناس والمحيط هنا". لقد انتبهت الى ان مينا تتكلم بنبرة تختلف كثيراً عن نبرتها حين التقينا في المرة، او المرات، السابقة. كانت، من قبل، لا مبالية ولكن غير واثقة ايضاً. كانت تظهر على سيمائها علامات توحي بأنها خرجت تواً من سجن مظلم. لم تكن نظراتها تستقر على شيء. لم يكن في ذهنها شيء ما تطمئن إليه. بدت في هيئة شخص يتفادى امراً خفياً يصعب الإحاطة به. "في إيران كنت من دون جسم. كنت علامة تائهة وسط قطيع كامل من العلامات المتشابهة، بل المتطابقة. لم تكن لي شخصية. لم تكن لي حياة خاصة. كانت شخصيتي وذوقي وسلوكي ونوازعي ملكاً لآخرين غير مرئيين ... كنت أسير بإرادة منهم. ولكن هذه الإرادة كانت تتنقل إليّ من دون وسيط. كانت تخترق كياني من دون ان ادري بها". انها اقرب الى امرأة ناضجة مملوءة بالكمال والتأمل. قلت في داخلي، وسكتُ للحظة. وضعت يدي امامي وتجمدت نظراتي على الطاولة وبدا ذهني خالياً من كل شيء. وساد سكون أحسست انه سيدوم طويلاً. "هنا في النروج يمتلك الإنسان حريته بين يديه. انه يستعمل هذه الحرية حتى آخر رشفة فيها. لا يستطيع احد ان يصادرها من احد. وكل انسان يحترم حرية الآخر لأنه يحترم حرية نفسه. ولأنني هنا حرة، فأنا عمدت، اول شيء، الى استعادة شخصيتي وامتلاك كياني المستقل. حين هربت من إيران لم آخذ معي شيئاً سوى شخصيتي التي عمدت الى تهريبها، في حقيبة اعماقي، مثلما يهرّب المرء شيئاً ممنوعاً". - ولكن كيف استعدت شخصيتك يا مينا من خلال فرض الحجاب على نفسك وهو امر رفضتِه من قبل؟ - لم افرضه على نفسي. لقد اخترته. استعدته بالشكل الجميل الذي ينبغي ان يكون عليه. هنا في النروج، لم اشعر بانسجام مع نفسي حين حاولت، اول الأمر، ان اكون نروجية. لقد كانت هناك، في اعماقي، خزينة هائلة، غنية وملونة، من الذكريات والعادات والأصوات والألوان والأثواب. وشعرت انني، اذا ما اهملتها وأدرت ظهري لها، اقتل تلك الشخصية التي تحملت المستحيل من اجل تخليصها من جحيم الاستبداد. كان ذلك الاستبداد يقوم على إلغاء أشياء كثيرة من ذاتي كفرد. كإنسان مختلف عن غيره. والآن، اذا ما اردت ان اكون إنساناً سعيداً بذاته، عليّ ان اكون انا، بما احمله من تراث وماضٍ، ولكن من دون ان اغلق الباب". نظرت مينا، مرة اخرى، إليّ وبدت كما لو انها تلفظت بالكلمة الخاطئة سهواً. - لا اقصد ان الحجاب إغلاق للباب. بالعكس، من خلاله أرسم نفسي في هيئة تليق بي. في النروج، حين أسير في الشارع، أدرك انهم ينظرون إليّ وربما تخطر لهم خطرات شتى. ولكن هذا لا يزعجني. بالعكس. أحس انني اتميّز عنهم. شيء يثبت انني احمل في داخلي هواجس تختلف عن هواجسهم. وهذا يجعل منّا، جميعاً، لوحة ملونة، مختلفة المشارب. ومن دون تردد، اطرح السؤال الأخير: - وجسدك، كيف تعقدين العلاقة معه من خلال الحجاب؟ لا تنتظر مينا كثيراً. تبدو كما لو انها كانت تتهيأ للسؤال من قبل: "انا وجسدي شيء واحد. انه يمنحني احساساً مزدوجاً: بالحرية وبالانتماء في وقت واحد، وأنا من جهتي احمّله بما تحمل نفسي من رؤية للجمال والدهشة والمتعة. ان جسدي غنيّ بي، وأنا ارى في الحجاب بوابة للحرية وليس قيداً".