فاجأ رئىس الغرفة الجزائية لدى محكمة التمييز في لبنان القاضي رالف رياشي القضاء اللبناني والمسؤولين السياسيين بتقديم استقالته بعد ظهر امس وتسجيلها في قلم مجلس القضاء الأعلى وابلاغ وزير العدل سمير الجسر نسخة عنها. جاءت هذه الخطوة بعد اقل من 72 ساعة على تقدم مفوضية الحكومة لدى المحكمة العسكرية بطلب نقض لقرار اصدره رياشي بعدم صلاحية القضاء العسكري لمحاكمة 77 شخصاً مدعى عليهم من "التيار الوطني الحر" برئاسة العماد ميشال عون و"القوات اللبنانية". فما كادت بيروت تلملم "شظايا" قنبلة الاعتقالات التي قامت بها الاجهزة الامنية، قبل نحو شهر، وما سببته من خلافات وتداعيات سياسية بين اهل الحكم، حتى جاءت خطوة رياشي لتكشف مزيداً من تداعيات "الزلزال" السياسي الذي حصل، لكن هذه المرة بين المحكمة العسكرية والمحكمة المدنية. واعتبر القاضي رياشي في كتاب استقالته ان محكمته أُهينت مرتين في وسائل الاعلام، "مرة ان يقال ان الملفات تعفن لدى محكمة التمييز والمرة الثانية ما تضمنه البيان الذي نشر السبت الماضي عن مفوضية الحكومة لدى المحكمة العسكرية لجهة طلب نقض قراري المبرم والذي لم يسجل حتى تاريخه في قلم محكمة التمييز". وكان قرار رياشي بعدم صلاحية القضاء العسكري لمحاكمة موقوفين في آب أغسطس الماضي أثار ردود فعل ايجابية في اوساط السياسيين لا سيما من هم من المعارضين للتوقيفات، حتى ان رئىس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط اعتبر ان قرار رياشي اثبت ان "القضاء موجود وبخير ومستقل". وتطرح الاستقالة مجموعة اسئلة عن خلفيتها وأبعادها. واذ كان القاضي رياشي 55 عاماً اكتفى بالقول ل"الحياة" انه يترك الامر لمجلس القضاء الأعلى ووزير العدل، فإن الاخير رفض التعليق على الامر معتبراً انه من اختصاص مجلس القضاء، الذي لم يتبلغ اعضاؤه بالاستقالة الا عبر وسائل الاعلام، خصوصاً ان رياشي قدمها الى قلم المجلس بعيد الواحدة ظهراً، علماً بأن القضاء اللبناني في اجازة صيفية ويقتصر العمل في المحاكم على المناوبين. وأجمعت المصادر القضائية التي استوضحتها "الحياة" على ان مجلس القضاء الأعلى سيرفض الاستقالة، وقلّلت من اهمية الاقدام عليها لأن القاضي رياشي "حوّل نفسه الى فريق وتعاطى مع طلب النقض الذي تقدمت به المحكمة العسكرية على انه أمر شخصي، علماً بأنه يمكن معالجة الامر بقرار اذا كان رياشي يعتبر طلب المحكمة العسكرية في غير محله". لكن ما الذي دفع رياشي الى الاستقالة؟ يشير مصدر قضائي الى ان لا هيئة اتهامية في المحكمة العسكرية كما هو الامر في المحكمة المدنية، وبالتالي فإن احكام قاضي التحقيق العسكري لا يُطعن بها امام هيئة اتهامية انما امام محكمة التمييز. ولذلك فعندما استأنف الموقوفون الاحكام في حقهم فعلوا ذلك امام محكمة التمييز الجزائية وقرر القاضي رياشي اعتبار القضاء العسكري غير صالح لتوقيفهم، وطلب تحويلهم الى العدلية. الا ان المحكمة العسكرية عندما طلبت الطعن بقرار محكمة التمييز، فإنها تعاطت مع هذه المحكمة على انها هيئة اتهامية لا على انها محكمة التمييز التي تكون قراراتها مبرمة في العادة. كما ان المحكمة العسكرية عندما طلبت فسخ القرار اعتبرت ان بعض طعون التمييز التي قدمها موقوفون، جاء خارج المهلة القانونية 15 يوماً في حين يعتبر القاضي رياشي انه كان على المدعي العام العسكري ان يرسل مذكرات التبليغ لمعرفة اذا كانت ضمن المهلة القانونية او خارجها. وهذا ما لم تفعله المحكمة العسكرية قبل صدور القرار انما كشفت عنه بعد صدور القرار، ما اعتبره رياشي اهانة لمحكمته، اضافة الى الاهانة الثانية التي وجهت اليه بطلب الطعن في قرار محكمة تعتبر قراراتها مبرمة. ويلفت المصدر القضائي الى ان رياشي انتظر من مجلس القضاء الاعلى الذي اجتمع السبت الماضي استثنائياً دعم قراره، لكنه فوجئ بأن ما صدر عنه اقتصر على مسألة "التسريبات القضائية الى وسائل الاعلام" وتشديده على "واجب التحفظ الذي يتحلى به القضاء اللبناني". وقالت مصادر قضائية انها كانت تفضل لو انتظر رياشي تحويل طعن المحكمة العسكرية الى محكمة التمييز الثالثة التي تنظر في دعاوى التمييز، لمعرفة ما يصدر عنها من قرارات قد تكون لمصلحة رياشي نفسه، لكنها تقر بأن النزاع طرح سؤالاً جديداً هو: "هل يجوز التمييز على التمييز؟" وهذه حال اولى من نوعها يواجهها القضاء اللبناني، علماً بأن ملف الطعن نفسه لم يصل بعد الى محكمة التمييز ولا يفصل بين المحكمتين العسكرية والمدنية سوى شارع واحد. يبقى ان رياشي يشغل في الوقت نفسه مناصب عضو في مجلس القضاء الاعلى وفي المجلس العدلي ومستشار لدى المحكمة الجزائية الدولية لمحاكمة مجرمي الحرب في يوغوسلافيا السابقة وانتخبته الجمعية العمومية في الأممالمتحدة بغالبية 111 صوتاً. وفي تعليقه على قرار رياشي قال نقيب المحامين في بيروت ميشال اليان: "أعاد الثقة الى القضاء واستقال وما علينا الا رفض الاستقالة لاعادة الثقة والهيبة الى السلطة". وناشد نقيب محامي الشمال جورج موراني مجلس القضاء ووزير العدل "رفض الاستقالة منعاً لاهتزاز الثقة العامة بالقضاء".