} في كتب التراث الكثير من الاشارات السريعة الى تشابه عالم الحيوان بعالم الانسان، ونجد احياناً اشارات الى اتصال "ما" بين العالمين. ونجد أيضاً في رسائل "اخوان الصفا" مثلاً وبعض كتابات مسكويه اشارات أوضح يستدل منها على علاقة بين العالمين. إلا أن ابن خلدون في مقدمته تجاوز تلك الملاحظات التشابه، والاتصال، والعلاقة لتأكيد مسألة الصلة بين العوالم الثلاثة مستخدماً مفردة "التكوين" وأحياناً مفردة "الارتقاء" للقول بوجود صلة بين عالم الحس الطبيعي وعالم الادراك العقلي. الا ان جهد صاحب المقدمة غاب عن الملاحظة نظراً لضياع مفردة واحدة قردة أو قدرة قيل انه استخدمها ثم حذفها، وقيل ان الناسخين حذفوها واستبدلوها بكلمة مفردة اخرى. كيف حصل الأمر وما هي الكلمة الصحيحة التي استخدمها ابن خلدون لشرح رأيه في النشوء والارتقاء؟ انقسم العلماء فلسفياً الى فريقين: الأول يقول بوحدة الوجود أو اتصال الخالق بالمخلوق فنشأت في هذا الحقل مدارس تؤمن بالحلول والاتحاد أو التناسخ والتقمص. والثاني يقول بمراتب الوجود أو انفصال الخالق عن المخلوق رافضاً مقولات الحلولية والاتحادية. ينتمي عبدالرحمن بن خلدون فقهياً الى الفريق الثاني. فهو قسم مراتب الوجود الى درجات. فهناك عالم الحس وعالم التكوين وعالم الملائكة. والتطور يتدرج من المحسوس الى اللامحسوس. أول عالم المحسوس هناك "العناصر المشاهد" إذ تندرج صاعداً من الأرض الى الماء الى الهواء الى النار وهي متصلة "بعضها ببعض" وفي الآن متحولة، إذ "كل واحد منها مستعد الى أن يستحيل الى ما يليه صاعداً وهابطاً". والصاعد منها ألطف "مما قبله" الى أن "ينتهي الى عالم الأفلاك". وعالم الأفلاك هو ألطف الكل وهو على هيئة طبقات متصلة "لا يدرك الحس منها إلا الحركات فقط" المقدمة، ص 104. بعده يأتي "عالم التكوين" إذ يبدأ من المعادن ثم النبات ثم الحيوان "على هيئة بديعة من التدرج". وكل مرحلة متصلة بما قبلها. فآخر "أفق المعادن متصل باول أفق النبات"، وآخر "أفق النبات... متصل بأول أفق الحيوان". وبرأي ابن خلدون ان اتصال آفاق عالم التكوين ببعضه له معنى، ومعناه الصيرورة والتحول أي "ان آخر أفق منها مستعد بالاستعداد القريب لأن يصير أول أفق الذي بعده" المقدمة، ص 104. فالاتصال عنده غير الاتحاد، كذلك يختلف التطور عن الحلول. ويبدأ بتفصيل اتصال عوامل التكوين وتحولاته. فهناك كما ذكر عالم الحيوان إذ اتسع و"تعددت أنواعه، وانتهى في تدريج التكوين الى الانسان". من هو هذا الانسان وكيف تدرج تكوينه من عالم الحيوان وكيف تميز عنه؟ برأي صاحب المقدمة ان الانسان هو "صاحب الفكر والروية". كيف جاءت هذه القدرة؟ يرد بالنشأة والولادة وتدرج التكوين النشوء والارتقاء. عند هذه النقطة يبدأ الخلاف على تحديد المفرد، أو المصطلح، الذي استخدمه ابن خلدون للتعبير عن فكرته في حدوث التطور وحصول الانتقال او الارتقاء من عالم الحيوان الى عالم الانسان. فهناك من قال انه استخدم كلمة "القردة" بداية ثم أعاد النظر وشطبها واستبدلها بكلمة "القدرة". وهناك من يقول ان النسخة الأولى استخدمت مفرد "القردة" ثم جاء النساخون واستبدلوها لأنهم لم يفهموا معناها أو لم يتقبلوها او انهم ظنوا ان صاحب المقدمة أخطأ في كتابتها فاستدركوا الخطأ وقاموا بتصحيحها. وهناك رأي يؤكد على مفرد "القردة" لأن الفقرة التي وردت فيها الكلمة تنسجم أكثر مع روحية النص وجوهر الفكرة التي يريد قولها. بينما يرجح الرأي المضاد مفرد "القدرة" لأنه أكثر انسجاماً مع الفقرة وروحية المقدمة. لا شك أن في الرأيين قوة ترجح هذه الكلمة على تلك، لكن لا أحد منهما يملك الإثبات الملموس على صحة قوله. فكل فريق يلجأ الى الدلائل الظنية المبنية على التمنيات والترجيحات. حتى نوضح الالتباس سنضع الفقرة في صيغتيها وسنستخدم في كل مرة الكلمة المختلف عليها. أصحاب كلمة "القدرة" يقولون ان الفقرة المنسوخة صحيحة وجاءت كالآتي: "واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه، وانتهى في تدريج التكوين الى الانسان صاحب الفكر والروية، ترتفع اليه من عالم القُدْرَة الذي اجتمع فيه الحس والادراك، ولم ينته الى الروية والفكر بالفعل، وكان ذلك أول أفق من الانسان بعده" المقدمة، ص 104 - 105. وأصحاب كلمة "القردة" يقولون ان النساخين، وربما ابن خلدون، استبدلوا المفرد خوفاً إذ كانت الفقرة الأصلية كالآتي: "واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه، وانتهى في تدريج التكوين الى الانسان صاحب الفكر والروية، ترتفع اليه من عالم القردة الذي اجتمع فيه الحس والادراك، ولم ينته الى الروية والفكر بالفعل، وكان ذلك أول افق من الانسان بعده" الصفحة نفسها. ماذا يعني مفرد القُدْرَة؟ ورد في "المصباح المنير" للعلامة أحمد بن محمد بن علي الفيومي المقرئ مكتبة لبنان، بيروت 1987 و"قدْر الشيء ساكن الدال والفتح لغة مبلغه. يقال هذا قدر هذا وقَدَره أي مماثله. ويقال ما له عندي قَدْر ولا قَدَرَ أي حُرمه ووقار... وإذا وافق الشيء الشيء قيل جاء على قَدَر بالفتح... والقِدْر آنية إناء يطبخ فيها وهي مؤنثة... ورجل ذو قدرة ومقدرة اي يسار. وقدرت على الشيء. أقدِر من باب ضرب قويت عليه وتمكنت منه. والاسم القدرة. والفاعل قادر وقدير. ولا شيء مقدور عليه. والله على كل شيء قدير. والمراد على كل شيء ممكن فحذفت الصفة للعلم بها لما علم أن ارادته تعالى لا تتعلق بالمستحيلات ويتعدى بالتضعيف". وورد في "مختار الصحاح" للشيخ الإمام محمد بن أبي بكر بن عبدالقادر الرازي مكتبة لبنان، بيروت، طبعة مدققة 1992: "قدْرهُ. الشيء مبلغه - قلت: وهو بسكون الدال وفتحها ذكره في التهذيب والمجمل. وقَدرُ الله قدره بمعنى وهو في الأصل مصدر قال الله تعالى وما قدروا الله حق قدره أي ما عظموه حق تعظيمه. القدر أيضاً ما يقدره الله من القضاء. ويقال ما لي عليه مقدرة بكسر الدال وفتحها أي قدرة... وقَدَرَ على الشيء قُدْرة وقدراناً أيضاً بضم القاف، وقدر يقدر قدرة لغة فيه كعلم يعلم. ورجل ذو قدرة أي يسار... ويقال إستقدر الله خيراً. وتقدر له الشيء أي تهيأ. والاقتدار على الشيء القُدْرةُ عليه. والقِدْرُ مؤنثة وتصغيرها قدير بلا هاء على غير قياس". وجاء المفرد في "المنجد" على أكثر من معنى. فهو يعني قوي عليه. اقتدر وجمعه وأمسكه. والله عظّمه. ويعني أيضاً القوة والاقتدار اليسار والغنى. وأيضاً جعله على مقداره. قايسه وفعل مثل فعله. أي مماثلة ومساوٍ له. وأيضاً قضى وحكم به عليه. وما يقدره الله من القضاء ويحكم عليه. وعند المتكلمين تحديد كل مخلوق بحدّه. القضاء والقدر: الأمر المحتوم. ويعني القسمة. ويعني القدرة أو الطابخ في القدر إناء يطبخ فيه. ويعني الطاقة والقوة. وأيضاً الحرمة والوقار. و يعني القوة على الشيء والتمكن من فعله أو تركه. ويقال بيننا ليلة قادرة أي هينة السير لا تعب فيها. ماذا تقول الفقرة المختلف عليها وماذا نفهم منها... يتحدث أولاً عن اتساع عالم الحيوان وتعدد انواعه، ثم يتحدث ثانياً عن انتهاء تدرج تكوينه الى الانسان صاحب الفكر والروية، ثم يتحدث ثالثاً عن الارتفاع اليه عالم الانسان من "عالم القدرة" الذي اجتمع فيه الحس والادراك لكنه لم ينته الى الروية والفكر، وأخيراً يعتبر "عالم القدرة" أول أفق الانسان. إذا حاولنا تركيب الفقرة في معاني المفرد واختلاف مدلولاته سنجد وجهات متعددة. فإذا استخدمنا الإناء القدرة نجد أن النص لا ينسجم معها. واذا استخدم معنى المماثل المشابه فالنص ينسجم بمعنى ان عالم الحيوان يماثل أو يساوي عالم الانسان في الحس والادراك لكنه لا يختلف معه في الروية والفكر. وإذا استخدم معنى المقدرة الاقتدار والقدرة على الشيء فان الانسجام يحصل أيضاً بمعنى المقدرة على الارتفاع من عالم الحيوان الى الانسان، كذلك اذا استخدمنا معنى القضاء القدر الذي رفع الانسان الى الروية والفكر. كذلك اذا استخدمنا معنى تهيأ استعد أي ان عالم الحيوان عنده الاستعداد للارتفاع بالتطور النشوء والارتقاء الى عالم الانسان لتتصل الآفاق ببعضها. وكذلك اذا استخدمنا معنى الطاقة والقوة أي اقتدار الارتفاع من عالم الى عالم. وسنجد المعنى يختلف اذا استخدمنا مفرد الحرمة او الوقار. وهكذا لكل معنى من المعاني السبعة مدلوله المختلف لكنه في النهاية يؤشر على حصول نوع من التحول الارتفاع من عالم الحس والادراك الى عالم الروية والفكر. يذكر محمد عابد الجابري في كتابه عن ابن خلدون العصبية والدولة ان النسخة الأصلية الأولى من الكتاب لم يعثر عليها إذ أهداها صاحب المقدمة لسلطان تونس قبل مغادرته الى مصر سنة 784 هجرية. ثم قام بتعديلها وتهذيبها وأضاف عليها. كذلك هذه النسخة الأصلية الأولى عثر عليها الهوريني وطبعها عام 1274 هجرية واكتشف انها ناقصة، الى أن عُثر على النسخة الفارسية المهداة الى القرويين سنة 799 هجرية وهي أصل كثير من النسخ المتداولة الآن. ويستنتج الجابري "لو توافرت لدينا هذه النسخة التونسية، الأصلية الأولى، لاستطعنا ان نعرف بالضبط مدى التعديل الذي أدخله ابن خلدون على المقدمة مضموناً وشكلاً" ص 60 - 61. ثم يعود الجابري للمسألة مرة أخرى فيذكر في هامش صفحة 116 "ان المدة الفاصلة ما بين انتهاء ابن خلدون من تحرير أول نسخة من مقدمته بقلعة ابن سلامة سنة 779، والمدة التي حرر فيها احدى النسخ الأخيرة في مصر، وهي أساس الطبعات المتداولة وكان قد أهداها لجامعة القرويين بفاس سنة 799... هي مدة عشرين عاماً". وعلى رغم تعارض سنوات التأليف والإهداء والتهذيب والتنقيح ثم الإهداء في كتاب الجابري خطأ مطبعي إذ ذكر سنة 779 وسنة 997 والصحيح 799 هجرية يرى الجابري أن المقدمة تبقى "سواء من حيث مضمونها أو حيث ترتيب فصولها وتتابع فقراتها وتناسق أجزائها، تشكل بناء هرمياً متماسكاً". وما يهمنا من كلام الجابري ان الفارق الزمني بين النسخة الأولى والنسخة الأخيرة نحو 20 سنة قضاها صاحب المقدمة في التهذيب والتعديل والاضافات حتى اكتمل تاريخه في حلته الأخيرة. وهو أمر يرجح احتمال حصول أخطاء في النسخ او استبدال مفردات بمفردات وكلمات بكلمات. يعلق الجابري في كتابه المذكور على الموضوع بكلام وضعه في هامش صفحة 68 يقول: "ويريد بعض الباحثين ان يستنتجوا من هذه الفقرة ومثيلاتها الواردة في المقدمة ان ابن خلدون "قد سبق داروين الى نظرية التطور". والحقيقة انه لا علاقة بين ما يقرره ابن خلدون هنا وبين نظرية التطور الداروينية. فالمسألة هي بيان "اتصال الأكوان" بعضها ببعض، الشيء الذي يسمح بالقول بإمكان اتصال الانسان بالعالم العلوي، عالم الملائكة. وتلك فكرة كانت شائعة عند مفكري الاسلام قبل ابن خلدون، خصوصاً إخوان الصفا. ولعل ما دفع هؤلاء الباحثين الى مثل هذا الاستنتاج هو عدم إدراكهم لمعنى كلمة "الاستعداد" الواردة هنا، خصوصاً الاستعداد القريب. ثم يشرح الجابري معنى الاستعداد القريب أو البعيد في نهاية كتابه فيذكر "كون الشيء يحتمل التحول الى شيئين، ولكن هناك عامل يرجح تحوله الى احدهما دون الآخر، وحينئذ يكون ذلك الشيء مستعداً بالاستعداد القريب ليصير هذا ولا يكون ذاك. فالماء مثلاً فيه استعداد لأن يصير بخاراً أو ثلجاً، ولكن وجود الحرارة يجعله مستعداً بالاستعداد القريب لأن يصير بخاراً، وبالاستعداد البعيد ليتحول ثلجاً" ص 284. أي ان الجابري فسر الماء بالماء فلم يضف شرحه للمصطلح أي جديد لمقاصد ابن خلدون من حديثه عن مراتب الوجود واتصال الأكوان ببعضها ومعنى "ان آخر كل أفق منها مستعد بالاستعداد القريب لأن يصير أول أفق الذي يليه". المشكلة ليست في الجابري بل عند ابن خلدون فهو لا يوضح فكرته ولا يشرحها. يضعها هكذا ثم ينتقل مباشرة الى استكمال بحثه الأصلي وهو محاولة "تفسير حقيقة النبوة" من خلال اتصال العوالم الثالثة على اختلافها ببعضها. فالفكرة أصلاً مقطوعة لكنها تتضمن عناصر وعي متقدم لاتصال العوالم وعلاقة الأكوان وتداخل آخر أفق بأول أفق. ومن خلال فكرته المقطوعة يستكمل بحثه فيرى في عالم الحس "آثار من حركات الأفلاك والعناصر". وفي عالم التكوين "آثار من حركة النمو والإدراك". وهي كلها تشهد على اتصال الروحاني بالمكونات و"اتصال هذا العالم في وجودها". ولا بد فوقها "من وجود آخر يعطيها قوى الادراك والحركة، ويتصل بها أيضاً" وهو ما يسميه "عالم الملائكة" الذي ينسلخ عن العالم البشري و"يكون لها اتصال بالأفق الذي بعدها". ويرى ان عالم الملائكة يتصل بالأسفل "للحصول على التعقل بالفعل" وأيضاً يتصل بالأعلى لاكتساب "المدارك العلمية والغيبية" ويصبح "عالم الحوادث موجود في تعقلاتهم من غير زمان" ص 105. اي ينعدم الزمن ويصبح الوجود عالم الحوادث غير مشروط بالوقت وغير محكوم بتواريخ محددة. يلاحق ابن خلدون قانون الحركة من عالم المحسوس الى عالم اللامحسوس ومن لحظة وجوده الزمن، الحادث الى لحظة عدمه ما فوق الزمن، وما بعد التاريخ. وكل هذه الحركات من نمو وإدراك لها علاقة بالأكوان والعوالم وعناصر التكوين وآفاق حلقاتها. ماذا يعني بالكون والأكوان والتكوين؟ جاء في "مختار الصحاح" عن مصدر التكوين وهو كون. وكان ناقصة وتحتاج الى خبر. وتامة بمعنى حدث ووقع ولا تحتاج الى خبر... وقد تقع زائدة للتأكيد... وتقول كان كوناً وكينونة... وكونه فتكون اي أحدثه فحدَث... والكون واحد الأكوان. وورد في "المصباح المنير" مفرد كون. وكان زيد قائماً، أي وقع منه قيام وانقطع. وتستعمل تامة فتكفي بمرفوع نحو كان الأمر أي حدث ووقع... وقد تأتي بمعنى صار... والمكان يذكّر... ويؤنث بالهاء فيقال مكانه والجمع مكانات وهو موضع كون الشيء وهو حصوله. وكوّن الله الشيء فكان أي أوجده. وكوَّنَ الولد فتكون مثل صوره. فالتكوّن مطاوع التكوين". بعدها ينتقل ابن خلدون الى شرح وتفصيل ما يسميه آلات النفس وقواها، فهي منقسمة الى فاعلة فاعلية كالحركة والمشي والكلام باللسان وتدافع البدن والبطش باليد. ومدركة وهي مرتبة الى "القوة العليا" والى المفكرة "التي يعبر عنها بالناطقة" وهي قوى الحس الظاهرة السمع والبصر والباطنة الدماغ وأولها "الحس المشترك". وتُدرك قوة الحس المشترك المحسوسات مبصرة ومسموعة وملموسة وغيرها "في حال واحدة". وبسبب الازدحام في وقت واحد فارقت القوة المدركة "القوة الحس الظاهر" الى الخيال وهي "قوة تمثل الشيء المحسوس في النفس كما هو مجرد عن المواد الخارجية فقط" وتعتمد على "البطن الأول من الدماغ مقدمة للأولى، ومؤخرة للثانية". وهكذا يرتقي الخيال "الى الواهمة والحافظة". الأولى "لادراك المعاني المتعلقة بالشخصيات" والثانية "لايداع المدركات كلها متخيلة وغير متخيلة". ويسمي ابن خلدون القوة الحافظة "كالخزانة تحفظها لوقت الحاجة اليها" ص 106. وتعتمد على آلتين "البطن المؤخر من الدماغ: أوله للأولى. ومؤخرة للأخرى" ثم ترتقي كلها الى "قوة الفكر" وآلته "البطن الأوسط من الدماغ" الذي يتحكم بحركة الرؤية والتوجيه "نحو التعقل" ويساعد النفس على التخلص "من درك القوة والاستعداد الذي للبشرية" وأيضاً "تخرج الى الفعل في تعقلها متشبهة بالملأ الأعلى الروحاني". وهكذا تصير "في أول مراتب الروحانيات في ادراكها بغير الآلات الجسمانية". وصيغتها هي الحركة الدائمة في توجهها نحو ذلك، وصولاً الى احتمال انسلاخها الكلي عن البشرية. إذاً جاء كلام ابن خلدون عن التطور والتحول في سياق محاولته إثبات النبوة والوحي فهو يتحدث عن عالم الحس وعالم التكوين وعالم الملائكة ويربط بينها ليؤكد على وجود اتصال بين العوالم وأيضاً على وجود تطور وارتقاء من حال أدنى الى حال أعلى. لذلك يستطرد في الحديث عن عالم الحيوان ووظائفه وعالم النبات ووظائفه وعالم الانسان ووظائف الدماغ واختلاف آلاته وصولاً الى ارتقاء عالم الملائكة وزمانه وانفصاله عن عالم الحس وزمانه. وجاءت الفقرة، موضع الخلاف، في سياق عرضي سواء كانت الكلمة "قُدْرَة" من مقدرة واقتدار "و "قردة" لأنها لم تسترسل في التفاصيل، لكنها في النهاية تؤكد على إيمان ابن خلدون بالتطور والزمن واتصال العوالم ببعضها. إذ عنده في نهاية كل أفق بداية أفق جديد سواء في داخل كل عالم من العوالم الثلاثة أو في صلة كل عالم بالآخر، انتهاء الى اللازمن حين تتحول حركة التطور الى اللاتاريخ. * كاتب من أسرة "الحياة".