اختلف الفقهاء والعلماء والفلاسفة على تحديد المعرفة وتصور مصادرها. فهناك من غلب العين المشاهدة على الأذن السمع. وهناك من غلب الأذن على العين، وهناك من وضعهما على سوية واحدة. الى التيارات الثلاثة قام من يقول بتعدد المصادر وانتهى الى جمع الحواس الخمس في منهج مشترك. لم تكن النقاشات لتحديد الأولوية مجرد جدل نظري على تقديم حاسة على أخرى بقدر ما كان الهدف تبيان التأثيرات الخارجية على تكوين الوعي والعناصر التي تساهم في تشكله. والخلاف على أولوية العين أو الأذن يعكس وجهات منهجية في النظر الى العوامل التي ترسم حدود المعرفة. فالامام الغزالي مثلاً قدم الأذن على العين، لأن السمع أو ورود الخبر يلعب دوره الفاعل في تشكيل وعي الانسان في فترة طفولته ثم تأتي العين المشاهدة في طور لاحق فيبدأ الانسان في استخدامها لمعرفة الموجودات المحيطة به ومحاولة تفسيرها. لذلك وضع الغزالي الأذن قبل العين في الترتيب الزمني لتطور الوعي. الى ذلك يشكك الغزالي في قدرة العين على الاحاطة. فالمشاهدة بالعين لا تعكس دائماً الواقع. فمثلاً، كما يقول، اذا نظرنا الى القمر نظن انه صغير الحجم بينما لا تقل مساحته عن حجم الأرض. وإذا نظرنا، كما يقول، الى الظل الخيال نعتقد انه ثابت بينما هو يتحرك ببطء من دون توقف. ينطلق الغزالي من الملاحظتين على المشاهدة العين ليؤكد على أهمية المعرفة المتراكمة التي تأتي من طريق ورود الخبر بالسماع الأذن وهي تلك التي تنتقل من جيل الى آخر من دون ان تمر بالضرورة بمحطات الحواس. أثارت ملاحظات الغزالي نقاشات مختلفة ورد عليه الكثير من العلماء والفلاسفة ولم يتوصل المتحاورون الى موقف موحد فاستمر الانقسام ومعه استمر النقاش على الأولوية. ويعتبر ابن باجه من معسكر المعترضين على رأي الغزالي من دون ان ينكر أهمية السمع في تحديد سقف الوعي وضبطه في سياق المألوف والمتوارث. فما هي نظرية ابن باجه وكيف تصور المعرفة الانسانية؟ تنهض نظرية ابن باجه على مرتبتين: تصوره للمعرفة الوعي الشقي وتصوره للاجتماع المدينة الناقصة. ويتصل التصوران في سياق منظور تاريخي زمني له غاية انسانية. فالغاية عنده تحدد طبع الانسان ودرجة رقيه وهي تحيط بأعماله وتعبر عنها. وأعلى درجاتها هي العقل الفعال والاختيار الحر. فإبن باجه ينطلق من قول سابق للحكماء عن اتصال الفكر بالعمل اذ ان "آخر الفكرة اول العمل وأول العمل آخر الفكرة" رسائل ابن باجه، ص 107. فمن طريق الاتصال يتحول الأول الى اخير والاخير الى اول. وكما يقول "من المتكوّن انما يصير آخر" ص 108. فالأساس النظري لفلسفته هو تقدم المعرفة على الوجود او الصورة المثال على المادة الواقع اذ ان "كل امر موجود فإذا تصور حصل" ص 139. والجسم عنده صورة او مادة والمادة دائماً ذات صورة. لذلك يحتاج الوجود الى تصور معرفة لعقل حصوله. فالفيل مثلاً "ليس معقولاً لنا، اذا لم نشاهده وكذلك الزرافة" ص 163، الى التصور الحسي المباشر هناك التخيل بالعقل، لأن "المحرك الأول الانساني هو العقل بالفعل وهو المعقول بالفعل". وتحصل القوة الفكرية للانسان "اذا حصلت المعقولات" وهي تتحرك بالشهوة المحركة الى المعرفة و"الفكر وما يكون عنه" ص 160. اذن "العقل بالفعل هو المحرك الأول في الانسان بالاطلاق"، وان العقل بالفعل "قوة فاعلة، وليس العقل وحده بل جميع الصور المحركة هي قوى فاعلة". فالعقل واحد بالعدد الا ان اصنافه كثيرة. وعلى اساس فكرة اتصال العقل بالانسان يؤكد ابن باجه على اهمية العقل في الاسلام وتفضيل الله العقل على كل الموجودات وحض الشريعة على العلم. "فالعقل احب الموجودات الى الله تعالى" والعلم "مقرب من الله، والجهل مبعد عنه" وأشرف العلوم وأجلّه مرتبة "هي تصوّر الانسان ذاته، حتى يتصور ذلك العقل" ص 142. وعلى هذا تفاضلت الاعمال الانسانية بالغايات، ولأن الاعمال لا تتم سوى بالتعاون او اللقاء على التعاون، بات التعاون فعل مدني انساني وهو برأيه يتم بالمصادفة او التشوق الطموح او التعاون على المنافع. فالتشوق الشوق هو آلة المتخيل بينما المحرك الأول الانساني هو العقل بالفعل وهو "الرأي" ص 151. الا ان الانسان ليس واحداً فهو كالعقل واحد بالعدد لكنه كثير الاصناف والمراتب. فالانسان له اولاً "الصورة الروحانية على مراتبها، ثم بها يتصل بالمعقول، ثم يتصل بهذا المعقول بذلك العقل الآخر" ص 165. لذلك جاءت درجات المعرفة عند ابن باجة على ثلاث محطات: الأولى المعاني المحسوسة وهي بداية الوعي الادراك. الثانية الصور وهي وعي الموجود التصور. الثالثة معاني الصور وهي ادراك الادراك وعي الوعي او عقل العقل. وبسبب الاختلاف المذكور اختلفت "الصور الروحانية" فهي "لا يمكن ان تكون واحدة" ص 170. فالجمهور كما يذكر ابن باجه ليس كأرسطو بل كان ارسطو في مثل حالهم فلهم "حال من احوال ارسطو" ص 170. وبسبب اختلاف مراتب العقل انقسم الناس الى ثلاث فئات: الجمهور العامة والنظار الفلاسفة. والنظار على ضربين عمليون المعرفة العملية ونظريون المعرفة النظرية. وتفاضل الفلاسفة عن الجمهور يكون "على قدر تفاضل التصور" ص 164. فالنظار الفلاسفة يشاركون الجمهور بالنسبة ثم يرتقي الفيلسوف لأنه ينظر في المعقولات لا من حيث هي معقولات "بل من حيث المعقولات احد موجودات العالم" ص 165. فالعقول اذن "كثيرة من جهة، واحدة من جهة اخرى" والعقل يفهم منه "ما يفهم من المعقول، وهو واحد غير متكثر" ص 166. وبسبب تعدد الواحد كان الناس على ثلاثة منازل مراتب اولها الجمهورية الجمهور وهي المرتبة الطبيعية الصنائع العملية، وثانيها المعرفة النظرية وهي ذروة المرتبة الطبيعية اذ يرى اصحابها المعقولات بواسطة آلات الحواس السمع، البصر، وثالثها السعداء وهي مرتبة الذين يرون الشيء بنفسه من دون توسط. الرسائل، ص 167. وهذا هو الفارق عند ابن باجه بين العين والعقل. فالعين ترسم الشكل بينما العقل يبصر يرى. وينطلق لشرح نظريته من مثال افلاطون عن الرؤية واختلافها على درجات الناس كما ورد في كتاب "الجمهورية" عن فكرة المغارة والشمس والنور والظلال. وانطلاقاً من مثال افلاطون يؤكد ابن باجه على فكرة فلسفية وهي اذا ابصر الانسان في الظلمة لما احتاج الى ضوء. فالنور عنده يأتي بعد الظلمة كالاكل بعد الجوع والشرب بعد العطش. فالاحساس بالظلمة يولد الحاجة الى نور ضوء كذلك الاحساس بالجوع او العطش. فالجمهور يرى الموجودات في حال شبيهة لحال الظل ولا يبصر الضوء اذ "كما انه لا وجود للضوء مجرداً عن الألوان عند اهل المغارة، كذلك لا وجود لذلك العقل عند الجمهور ولا يشعرون به" ص 168. اما النظريون فهم ينزلون منزلة من خرج من المغارة فيلمحون الضوء مجرداً عن الالوان ويرى جميع الالوان كما هي. اما السعداء "فليس لهم في الابصار شبيه، اذ يصيرون هم الشيء" ص 169. فالسعداء هم النور الضوء الداخلي وهم العقل بالفعل الذي هو "الهادي والراشد". ومن هذه المرتبة تبدأ ازمة السعيد. فالسعيد هو غريب بين اهله ووطنه ويعاني من تطور وعيه حين يعطل عليه اتصاله مع مدينته فيعيش في غربة وتوحد. فالوعي يولد الشقاء والوحدة بسبب التنازع بين الواقع الناقص والتصور الكامل. من فكرة الوعي الشقي او ازمة الغرباء الغريب في وطنه يبدأ التصور الاجتماعي لفلسفة ابن باجه الاتصال بين اول الفكر وآخر العمل والعكس او ما يسميه بالمدينة الناقصة وطموح "المتوحد" الى بناء مدينة كاملة ينحل فيها التضاد بينه الوحيد وبينها المدينة. وهذه من "تدبير المتوحد" وهي في النهاية مهمة مستحيلة. تنقسم المدينة في فلسفة ابن باجه الى انواع التعدد في الواحد وهي: الامامية، الكرامة، الجماعية، والتغلب. وغايات المتوحد "وهو جزء مدينة امامية" هي تطوير "المدينة الناقصة" الى مدينة كاملة تتحقق فيها الصور الثلاث: الجسمانية، والروحانية الخاصة، والروحانية العامة. فالأولى شكلية يشترك الانسان مع البهائم في بعضها، والثانية فكرية تختلط فيها احوال خاصة بالصور الروحانية الانسانية لا شركة لغيرها فيها، والثالثة هي الحكمة الفلسفة بصفتها "اكمل احوال الروحانية الانسانية الا عند من لا يعلمها" ص 76. حتى يصل المتوحد الى غاياته الانسانية لا بد له من تدبير الأمر. ومعنى التدبير في "لسان العرب" كما يقول ترتيب افعال، وهو يكون بالقوة وقد يكون بالفعل الرسائل، ص 37. وقد يكون على العموم ويأتي على الخصوص. وأشرف اعمال التدبير: تدبير المدن او المنازل او الحروب. بينما تدبير الله هو المطلق وهو محكم ومتقن ص 38. ويأتي تدبير المنزل كجزء من المدينة. ويشبه المنزل الناقص المدينة الناقصة، والمنزل الكامل في المدينة الكاملة ص 39. والمنزل الفاضل يوجد في المدينة الفاضلة والاخيرة ليست موجودة بالطبع وانما وجودها بالوضع. فتكميل المدينة هي غاية الانسان ص 40. ومن خواص المدينة الكاملة هي انتفاء حاجتها الى صناعتي الطب والقضاء. فهي فاضلة وكل افعالها صائبة. فهي مدينة كاملة غير ناقصة وكل افعالها صادقة ص 41. لذلك فهي ليست بحاجة الى صناعات المدن الناقصة. ومن خواصها ان لا يكون فيها نوابت معارضة او المخالفين لرأي اهل المدينة. ومشكلة المتوحد انه لا يجد مثل هذه المدينة. في الافعال الانسانية والصور الروحانية يشارك الحيوان الانسان في الحس والنفس الغاذية والمولدة والنامية ويمتاز الانسان عنه بالقوة الفكرية ص 45. وكل ما يوجد للانسان بالطبع فهو باختيار. والافعال الانسانية الخاصة به هي ما يكون باختياره. وكل ما يفعله باختيار هو فعل انساني. والاختيار معناه الارادة الكائنة عن روية. والافعال عموماً بهيمية وانسانية. وافعال الانسان هي بهيمية من جهة وانسانية من جهة اخرى ص 46 - 47. والنفس البهيمية سامعة ومطيعة للنفس الناطقة. لذلك انقسمت الافعال عنده الى ثلاثة انواع: الفعل الجمادي اضطرار لا اختيار فيه، والفعل البهيمي من اجل لا شيء، وهو تلقائي، والفعل الانساني من اجل غايات. الرسائل ص 48. وعليه يعتبر ابن باجه سائر المدن الاربع ناقصة و"افعال الانسان كلها، اذا كان جزء مدينة، فغايته المدينة. وذلك انما يكون في المدينة الفاضلة فقط" ص 62. وتكون سيّر الأمة اخبارها اما من طريق "حفظ الاقاويل الموروثة ... واما ان يكون الفاعل غريباً معجباً فيتداوله الناس لاعجابه ... ص 66. وهناك ما يصنعه الافاضل "لا لينالوا به الذكر بل لأجل كمال العمل" ص 67. وأكمل الاعمال هي الروحانيات وهي كثيرة "كالتعليم والاستنباط وما جانس ذلك" ص 67. وتبدأ الازمة حين تتوافر كل هذه الشروط والفضائل في المتوحد من "دون المدينة الكاملة". فالمتوحد هو الانسان السعيد و"كل سعيد فهو روحاني صرف" ص 79 وبما ان المدينة تشتمل على الصورتين الجسمانية والروحانية يجد المتوحد نفسه في غربة. وسواء "كان المفرد واحداً او اكثر من واحد" فان هؤلاء هم "الغرباء" لأنهم و"ان كانوا في اوطانهم وبين اترابهم وجيرانهم، غرباء في آرائهم، قد سافروا بأفكارهم الى مراتب أخر هي لهم كالاوطان" ص 43. وبسبب ازمة التفاوت بين المتوحد الفرد او مجموعة افراد والمدينة الناقصة يبدأ تدبير المتوحد ودوره المدني الاجتماعي. يلخص ابن باجه رأيه الفلسفي في "رسالة الوداع" كان وجهها الى تلميذه الوزير لاحقا ابن الامام بناء على طلب الاخير والحاحه عليه الاجابة عن بعض الاسئلة. وفي الرسالة حاول ابن باجه تبسيط وجهة نظره الفلسفية عن ازمة المتوحد وشرحها باختصار لتلميذه متناولاً فيها بعض القضايا الخلافية على مسائل الحركة والمتحرك والمتحرك من دون محرك، فيذكر له ان اللقاء يكون بحركة من جهة او بحركتين. وكل متحرك هو منقسم بالضرورة والا لم يتحرك. وكل متحرك له محرّك، والمحرّك قد يكون جسماً او لا يكون وصولاً الى المحرك الأول الذي يتحرك من دون محرّك. وكل محرك اول يحرك بالآلة ولا يحرك من دون الة الرسائل، ص 115. فالبدن مثلاً مؤلف من آلات وكل جسم مؤلف من جزئين ارادية وطبيعية. والمحرك الأول الذي فينا مؤلف من خيال ونزوع، والنزوعي يعبر عنه بالنفس. فالانسان كسائر الحيوان مؤلف من ذلك المحرك الأول الطبيعي ثم يأتي الارادي وهو منقسم الى درجات او اصناف وهي بدورها تختلف وتتعارض. والارادة مثل العلم، الذي هو افضل الاشياء الانسانية، عبارة عن لذة وهو اصناف "بعضها يتقدم بعضاً في الشرف" ص 120. فالعلم له لذتان السمع والبصر. ويعلق على نظرية الامام الغزالي وينتقد رأيه بامكان الوصول الى العلم بطرائق مختلفة عن طريق السماع حين يغلب السمع الاذن على البصر العين بينما يأخذ هو بالحواس كلها من طريق الانفعال. وبما ان الانفعال عند ابن باجه هو تغيّر وكل متغير هو منقسم اخذ بنظرية الحواس الأربع وصلتها بمنافع الناس ولذاتهم. وبرأيه، ولهذا السبب، أعرض الناس عن الفلسفة العلوم النظرية وفضلوا العلوم العملية "لأنهم يرون ان لها منفعة ما" ص 123. وعلى هذا ربط ابن باجه المنفعة بالعلم وانتقد مجدداً الامام الغزالي وموقفه من غاية العلم ونظرية العلم الالهي وصلة العلم باللذة. فالتطور عنده ناتج عن الانفعال وتضاده. والتضاد على انواع. فهناك تضاد بين القوة العقلية والقوة الغضبية والقوة الشهوانية وهي تتمثل في التضاد بين القوتين الفكرية والنزوعية او التشوق الخيالي والتشوق الفكري الرسائل، ص 125. ومنها يشرح مفهومه لمعنى الاجماع ورأيه بعلم النفس وعلم الاجماع، ليصل الى القول ان المحرك هو الرأي والخيال والمتحرك هو الجزء النزوعي. و"المحرك موجود فهو موجود، والمتحرك قوة، والقوة لا موجودة" ص 127. ومشكلة "الانسان الكامل الفطرة هو الذي فطر على ان يكون لنفسه" ص 128 واذا حاول ان يكون لغيره يبدأ التضاد او الاختلاف بين غايات انسان وآخر. ولا يقتصر الاختلاف على الغايات بل ايضاً على اللذات. و"اللذة بما توجد في زمان فقد يقال عليها متصلة" لأن السرمد متصل والحركة الدورية متصلة. ولا تكون اللذة الا عندما يكون الموضوع الأول لها موجوداً كالحس. فالجوع مثلاً يتقدم الأكل والعطش يتقدم الشرب ص 129 فالثاني الأكل والشرب لا يحصل من دون الأول الجوع والعطش. ومن هذا المنظور الفلسفي يدخل الى معنى "تدبير المتوحد" في المدن غير الفاضلة وهي المدن الناقصة وطموح السعداء الغرباء في وطنهم وعجزهم عن تطوير المدن الى كاملة. فهم يعيشون على هامشها بينما الرئيس الملك هو مدبّر المدينة وهو عادة يكون على صنفين: فاما ان يقدّر افعال المرؤوس "ليبلغ المرؤوس غرضه الذي يقصده بتلك الافعال" او "قد يقال ايضاً على المستعمل لغاية انسان ما توطئة له في غرضه" ص 131. ويعطي مثال الفرس الحصان واللجام للتدليل على اختلاف الوضعين في علاقة الرئيس بالمرؤوس. ففي الوجه الأول يعطي الرئيس "السنّة ويقدر الافعال بها، والمرؤوس ينفذ تلك الافعال بتلك الشرائط التي سنّها الرئيس". وفي الوجه الثاني "فان الفارس واللجّام لهما اللجام، لكن ذلك على انه غاية له وهذا توطئة له" ص 132. المسألة اذن خارج ارادة "المتوحد" وهي خاضعة لمزاج "المدبر" الرئيس وسياساته، الامر الذي يزيد من ازمته. فالمتوحد لا يحب صحبة الجسماني اهل اللذة ويميل الى صحبة الروحاني اهل العلوم الا ان "اهل العلوم يقلّون في بعض السير المدن ويكثرون في بعض، حتى يبلغ في بعضها ان يعدموا. ولذلك يكون المتوحد واجباً عليه في بعض السير ان يعتزل عن الناس جملة ما امكنه ... او يهاجر الى السير التي فيها العلوم، ان كانت موجودة" ص 90. وبما ان الانسان مدني بالطبع وعلومه مدنية يصبح "الاعتزال شر كله" وبات على المتوحد ان يتعايش مع الاحوال ويتجنبها لأن هذه الاحوال "هي ضرورة امراض وهي خارجة عن الطبع" ص 91. وعليه ايضاً مكافحتها من خلال الافعال الانسانية "التي تضاف الى المتوحد ويمكن ان يفعلها" ص 92. ويحل ابن باجه غربة المتوحد من خلال تحديد الغاية الانسانية للمعقولات والحركات والموجودات من خلال فكرة الزمان واختلاف الغايات. برأيه ان "القوى الفاعلة والمنفعلة" هي "سبب للوجود، وبها يكون الشيء موجودا" ص 100. اما "من يفعل عن الرأي، فهو انما يفعل من جهة ما هو انسان" ص 101. كذلك الغايات فهي بدورها مختلفة بسبب اختلاف طبائع اشخاص الناس. حتى الرئيس والمرؤوس فهي برأيه علاقة ناتجة عن اختلاف الطبع. الا ان الغاية الانسانية واحدة، وهي الرئيسية، وكل غاية سواها فهي خادمة ص 101. والانسان - الرئيس هو من كان معداً لهذه الغاية. فهي برأيه طبع تولد مع الانسان. ولأن الغايات ليست واحدة يحيل ابن باجه الازمة الى الزمن ويصبح عمل المتوحد هو التوسط الوسيط مثله مثل النجار الذي يضرب بالقدوم على الخشب فعمله ليس "تكريراً بل جزءاً من الفعل" ص 103. وغير ذلك يصبح من تدبير الدائم وهو المطلق وغير الزمني. فالدائم "من جهة الزمان غير دائم، اما الدائم فهو الذي لا يشمله زمان، وهو دائم بنفسه لا بأن زمانه دائم، وأخلق الاشياء الدائمة بالدوام هو الله تعالى، وهو معطي الدوام" ص 104. * كاتب من أسرة "الحياة".