سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
المصادر الإيديولوجية والاجتماعية ل"اليسار الجديد" في لبنان . حمى السلاح الفلسطيني في مطلع السبعينات شجعت الأحزاب اللبنانية على التمرد وكسر الدولة 2 من 2
تطرقت حلقة أمس الى بدايات نشوء "اليسار الجديد" في لبنان ومصادره الايديولوجية والاجتماعية. وتتحدث حلقة اليوم عن تفرعات اليسار وانقساماته تأثراً بالسلاح الفلسطيني والثورة الايرانية. ليس مجازفة القول اليوم ان اليمين اللبناني المسيحي، ما كان في وارد اللجوء الى "الاحتماء" بالسلاح الميليشياوي، لولا الخوف، بل الرعب الذي اصاب المسيحيين اللبنانيين عموماً، من حمى انتشار السلاح الفلسطيني في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين وتمدده يوماً بعد يوم، وليلة إثر ليلة، الى الأحياء والمناطق السكنية الإسلامية التي تتاخم تلك المخيمات وتحيط بها. وربما ما كان لذلك الرعب ان يبلغ الحد الذي بلغه في مطلع السبعينات لولا خوف الحكم والسلطات اللبنانية من الإقدام على مواجهة تلك الحمى عبر اجهزتها العسكرية، مواجهة فاعلة وحكيمة، ولولا تفشي الحمى نفسها وتمددها المتسارع في المناطق الإسلامية. فيساريو السبعينات اللبنانيون الجدد كانوا أحد الجسور لذلك التمدد المتسارع. وإذا كان البعض منهم تحفظ على هذا التمدد في مطلع السبعينات، بعدما كانت الحرب بين الجيش الأردني والفدائيين الفلسطينيين دفعت بآلاف كثيرة من الفدائيين وسلاحهم وعائلاتهم الى اجتياز الحدود اللبنانية عبر سورية، فإن هذا التحفظ لم يكن يجدي نفعاً يذكر في مواجهة "الكرنفال اليساري" المسحور بطوبى "العنف الثوري" و"الغيفارية" و"حرب الشعب". ويروي احد اليساريين الجدد في تلك الفترة انه شهد بأي صبيانية هذيانية جعلت الميليشيات الفلسطينية في مخيم برج البراجنة تروّع سكان حارة حريك المسيحيين القريبة من المخيم، بحجة ان بعض اهاليها يقوم بنشاطات استخباراتية لمصلحة السلطة اللبنانية. وفي إحدى حلقات اليساريين الجدد في محلة النبعة راح "الرفاق" يطلبون تحويل حلقة العمل الشعبي بين الأهالي خلية مسلحة. ورحلات التدريب على السلاح في البقاع وفي المخيمات وفي قواعد المقاومة الفلسطينية في سورية، سرعان ما تحولت الى النشاط الأول في عمل "مناضلي" اليسار الجديد. وبعد كل صدام بين الفدائيين الفلسطينيين والجيش اللبناني، كان عشرات، بل مئات من هؤلاء "المناضلين" يتدفق للقيام بحراسات ليلية حول المخيمات، وفي منطقة الطريق الجديدة المتصلة بمخيمي صبرا وشاتيلا، قبل قيامها برحلات التدريب العسكري وبعدها. وفي صيف 1973، على أثر صدامات أيار مايو الواسعة بين الفدائيين والجيش، راح المسيحيون الخارجون من صفوف "منظمة العمل الشيوعي" اعتراضاً على "إصلاحيتها" و"مطلبيتها"، يعتبرون، أكثر من "رفاقهم" المسلمين، ان تحريض الجماهير الشعبية الإسلامية ضد "اليمين المسيحي" هو السبيل الأنجع والأسرع ل"تثوير" هذه الجماهير وتكتيلها وتنظيمها بؤراً مسلحة في الأحياء الشعبية في الضواحي المدينية. وربما كانت "المخيلة النضالية"، لهؤلاء "الرفاق" تحدس ان تغذية الانشقاق الجماهيري - الطائفي اللبناني بجرعة فلسطينية، قد تفضي الى جعل نشاطهم الثوري المحموم شعبياً وجماهيرياً على الصعيد اللبناني الداخلي. ذلك ان هؤلاء المسيحيين الثوريين كانوا بدأوا ينقطعون انقطاعاً متدرجاً عن وسطهم العائلي والثقافي والأهلي والطائفي المسيحي السابق الذي خرجوا عليه ليصيروا ثواراً ومناضلين محترفين. وهم في انقطاعهم هذا كانوا يقومون برحلة شخصية "عاصفة" و"يتطهرون" بها من انتماءاتهم الطبقية السابقة، ومن ثقافتهم "الأقلية" البرجوازية والغربية الفرنسية غالباً. إنها رحلة "تشريقهم" و"تعريبهم" عبر المطهر الشعبي والجماهيري، والسلاح الثوري الفلسطيني. "في السابق، عندما كنا نقول لأهلنا، أو يعرفون، اننا يساريون وشيوعيون، كان اهلنا يعتبرون ان الأمر عادي ولا يثير سخطهم"، على ما روى واحد من "رفاق" الأمس المسيحيين، حين كان في رحلة "تشريقه". "أما حين كان أهلنا انفسهم يسمعون ان هنالك حاجزاً فلسطينياً مسلحاً على طريق المطار، فكانوا يرتعدون خوفاً، كأنما أصابهم مسّ من الجنون. فكيف يكون حالهم إذا كنا نحن ابناؤهم نشارك في الوقوف على مثل تلك الحواجز المسلحة؟!". ومن "جنون" الأهل المسيحيين ذاك، وخوفهم، نزل الكتائبيون الى شوارع الأحياء المسيحية حاملين السلاح. وفيما كان السلاح والدعاية الفلسطينيان يستقطبان طوال السبعينات فئات من ابناء اولئك الأهل، اي اليساريين الجدد، بينما راح "الحزب الشيوعي اللبناني" يوغل في طروحاته القومية العروبية ويتحول درعاً للسلاح الفلسطيني كغيره من دروع "الحركة الوطنية اللبنانية"، أخذ الشيخ بيار الجميل، زعيم الكتائب، يردد دائماً أن "اليسار الدولي" و"الشيوعية الدولية" ضالعان في "المؤامرة" على لبنان. ولم تكن الصلات الإعلامية والإيديولوجية الوثيقة لجماعات اليسار اللبناني الجديد "الملتحم" بمنظمات المقاومة الفلسطينية، ولا موجة خطف الطائرات، ولا وصول محترفين ثوريين عالميين من بعض انحاء العالم الى بيروت والمخيمات... لم يكن هذا كله يكذّب ما يردده شيخ الكتائب اللبنانية، وإن كان لا يخلو من الهذيان في وجه من وجوهه. في حضرة العرّاب الكبير لكن الهذيان الثوري لليسار اللبناني الجديد، في جماعاته وشلله ومشاربه الايديولوجية المختلفة، وفي منابته الاجتماعية المسيحية والاسلامية، وجد ضالته في "منظري" اليسار القومي الفلسطيني المسلح، من امثال منير شفيق ومحجوب عمر وناجي علوش وأبو نضال صبري البنّا وجواد ابو شعر قائد ميليشيا "فتح" في لبنان، وصولاً الى "العرّاب الثوري" الكبير ابو جهاد خليل الوزير الذي كان يمسك اطراف خيوط الاجهزة الفلسطينية، لا سيما المال والسلاح. وكم كانت الصورة الأبوية لذلك "العرّاب الثوري" الكبير، والقابض على مقدرات الثورة وأجهزتها، والمتجلبب بنقاب من الصمت شبه المافيوي والصوفي على خلاف صورة غيره من اقرانه: ابو اياد، وأبو عمار، كم كانت تلك الصورة التي رأى فيها "لبنانيو فتح" في السبعينات مثالاً للعمل الثوري الصامت والدؤوب ومحط احلامهم ورغباتهم في الرعاية والاحتضان والبنوة. وذلك جواباً على شعورهم ب"اليتم" الأهلي الذي كانوا يتخيلون انهم ورثوه عن خروجهم اليساري السابق على الثقافة الأهلية، والفطرة الشعبية للجماهير الفقيرة التي غرّبتهم عنها الثقافة والتعليم واللغات الأجنبية التي يجيدونها، وكان المسيحيون منهم يتكلمون بها بين اهلهم وعائلاتهم وفي ما بينهم. ومن هؤلاء، على ما روى سعود المولى، شاب من آل غرغور كان اهله وكلاء كبريات الشركات العالمية في لبنان، ربما كان عارض الفصام النفسي الضاغط والمحموم الذي اصابه اثناء الحمى الثورية الدابة في تلك الفترة، ساهم في حمله على الانتحار المروع. وبحسب شهادات كثيرة من ثوريي تلك الحقبة 1973 - 1977 ان المنظمات والأجهزة الفلسطينية استخدمت اليساريين المسيحيين الذين التحقوا بها، استخداماً واسعاً في العلاقات الدولية والإعلام، وفي الاستطلاع ونقل المعلومات في ما يتعلق بأحوال المجتمع المسيحي ومناطقه. وساهمت الفتيات الثوريات المسيحيات مساهمة لا بأس في هذا المجال، خصوصاً عشية الحرب وفي جولاتها الأولى. لكن استخدام المسيحيين لم يقتصر على الإعلام والعلاقات الخارجية والاستطلاعات ونقل المعلومات، بل تعدى ذلك الى المساهمة الميدانية في عمليات الحراسة ونقل الأسلحة والعمليات العسكرية. وفي وجوهه المختلفة لم يكن هذا النشاط يخلو من تزاحم المستخدَمين بفتح حرف الدال على الحظوة والولاء وكسب ودّ المستخدِمين بكسر الدال هذه المرة، للظهور بمظهر الفاعلين اكثر من زملائهم في خدمة الثورة. غير ان هذا النشاط ما كان يخلو ايضاً من احباطات ومرارات متتالية. فصورة الثورة الفلسطينية من خارجها وقبل الانخراط في اجهزتها الداخلية المتناحرة في ما بينها، غير الصورة الوقائعية التي راحت جماعات اليساريين المسيحيين تكتشفها اختبارياً في التجربة العملية اليومية. فالبعض من هؤلاء رأى بأم العين كيف تخلت القيادة العسكرية والسياسية الفلسطينية عن محاولة انقاذ سكان مخيم تل الزعتر، وتركته يسقط في ايدي الميليشيات المسيحية كي تثأر منه ثأرها الهستيري الدموي. ولتستخدم القيادة والإعلام الفلسطينيان صور هذا الثأر لاستدرار عطف العالم والانسانية على الضحايا البريئة، وتسوّق هذه الصورة في الاعلام العالمي، قبل ان تقوم الميليشيات الفلسطينيةواللبنانية المشتركة بالثأر من مدينة الدامور المسيحية التي استباحتها أياماً متتالية للقتل والنهب والتدمير والحرق. لكن هذه الاحباطات والخيبات ان صرفت البعض من اولئك اليساريين عن متابعة النضال الثوري، فتوقفوا عن القيام بنشاط عسكري مباشر، وحملتهم خيباتهم على الهجرة الى فرنسا لمتابعة دراساتهم العليا هناك، فإن بعضهم الآخر كان عليه ان يخطو خطوات جديدة الى الأمام، فينضوي في اجهزة امنية وإعلامية اكثر تطرفاً وانغلاقاً وهذياناً ثورياً. وهكذا كنت تجد في منطقة الجامعة العربية في بيروت ابان حرب السنتين 1975 - 1977 نماذج من هؤلاء الثوريين الذين لا يغادرون ليل نهار مكاتب الاجهزة الفلسطينية والأمنية والإعلامية، وكأنها حيز حياتهم وإقامتهم الوحيد والأخير. الكتيبة الطلابية وربما كانت تجربة الشبان اليساريين الجدد المسلمين في اجهزة الثورة الفلسطينية وميليشياتها اكثر تماسكاً وأقل تعرضاً للإحباط والخيبة والمرارة، من تجربة "رفاقهم" وأقرانهم المسيحيين. فمنذ العام 1973، تشكل ما سمي "السرية الطلابية لفتح" كجسم تنظيمي عسكري من جماعات ما كان يسمى "انصار الثورة" اللبنانيين الذين كانوا طلاباً ثانويين في مطلع السبعينات، ويغلب عليهم تحدرهم من الوسط السنّي البيروتي. وعشية الحرب 1975، وفي اثناء جولاتها الأولى توسعت هذه "السرية" وسمّيت "الكتيبة الطلابية"، وسرعان ما صار لها ضباطها العسكريون المتفرغون الذين تلقوا تدريباً في الخارج الصين، كوريا، سورية. ولم تكن هذه الكتيبة، التي عمل على تنظيمها وإدارتها ميدانياً جواد ابو شعر، وتأثرت بطروحات منير شفيق الماوية المبسطة حرب الشعب الطويلة الأمد، الالتحام بالشعب واحترام تقاليده، لم تكن تخلو من المسيحيين الذين انضموا اليها تباعاً، فصارت الجسم التنظيمي اللبناني الأكبر والأكثر فاعلية في صفوف منظمة "فتح"، ربما لأنها حمت نفسها نسبياً من الصراعات الداخلية في المنظمة الفلسطينية الفضفاضة الجسم التنظيمي. وشاركت جماعات من هذه الكتيبة في حرب الجبل، وصولاً الى صنين، وقامت في اثناء الانسحاب الفلسطيني من الجبل بمواجهات محدودة في بحمدون اشهر المصايف اللبنانية ضد الجيش السوري الذي زحف من البقاع وصولاً الى بيروت عام 1976. وبعد ذلك انتقلت الكتيبة الى الجنوب اللبناني، ما دامت الحروب توقفت في المناطق اللبنانية الاخرى، وما دام النظام السوري اراد، آنذاك، حصر المواجهات العسكرية في الجنوب الذي لا يستطيع جيشه ان يصل اليه. وربما كانت تلك الكتيبة، التي راحت تدعو الى حصر المواجهات مع "العدو الصهيوني"، مجسد "التناقض الرئيسي" مع "الأمة العربية" في دعايتها الايديولوجية الدائمة، اكتشفت في القرى الجنوبية الحدودية نفور الأهالي من استخدام قراهم متاريس فلسطينية، بينما كانت حركة الإمام موسى الصدر تتصدر المشهد الطائفي الشيعي. وهو التصدر الذي سرعان ما آل الى صدامات عسكرية بين "حركة أمل" الوليدة وبين ميليشيات احزاب "الحركة الوطنية اللبنانية" والفصائل الفلسطينية. وبعدما خسرت "كتيبة فتح الطلابية" نحو 15 قتيلاً من عناصرها في اثناء اجتياح الجيش الاسرائيلي الأول للجنوب اللبناني في آذار مارس عام 1978، انكفأت الى بيروت وراحت تعيش ازمة طائفية بين سنّتها وشيعتها. وسرعان ما غذّت هذه الأزمة الثورة الإيرانية الخمينية 1979 التي وجد فيها شيعة الكتيبة مخرجهم الى "الثورة الدائمة" في الدمج بين قضيتهم الايديولوجية الأولى تحرير فلسطين وبين "ثورية" التديّن الشيعي في نسخته الخمينية التي أمّنت لهم وصل ما قطعته المقاومة الفلسطينية بينهم وبين اهلهم وطائفتهم، ما داموا باحثين أبديين عن الالتحام بفطرة الجماهير المتوهمة. بين المرارة والذعر جددت الثورة الايرانية الخمينية الحميّة الثورية والنضالية في صفوف "الكتيبة الطلابية" التابعة ل"حركة فتح"، وحميّة الدائرين في فلكها ومناخها الايديولوجي وعلى تخومها، على رغم انها راحت تخسر بعض محازبيها وعناصرها في الوسط السنّي المديني. وظلت هذه المنظمة العسكرية والايديولوجية تسمى باسمها الأول الذي عرفت به منذ نشوئها الطلابي، على رغم ان عناصرها الفاعلين انقطعت صلاتهم تماماً بالصفة الطلابية، ولم يعد يدخل الى صفوف منظمتهم اي من الطلاب الذين اضعفت الحروب صلتهم بالحياة العامة، بل اخرجتهم منها. هذا فضلاً عن ان هذه الحروب دمرت التعليم والحياة الطلابية، فصار كثيرون من صغار الشبان في المدارس حزبيين وعناصر ميليشيات اكثر مما هم طلاب مدارس. ثم ان الجسم الأساسي ل"الكتيبة" احترف العمل العسكري والتنظيمي، وشكّل ما يشبه "مجتمعاً" داخلياً منغلقاً على طقوسه الحياتية شبه الإيمانية، تمهيداً لأن يغذي هذا الجسم النوى الأولى ل"حزب الله" ويمد "حركة أمل" ب"كوادر" متعلمين وأصوليين، بعد رحيل المقاتلين الفلسطينيين وقيادتهم من بيروت نهاية صيف 1982. وفي تلك الفترة 1979 - 1980 حدث انفصال بين حليفي النضال الفلسطيني الثوري، ناجي علوش وأبو نضال صبري البنّا الذي جعل من أتباعه جهازاً أمنياً سرياً احترف الاغتيال والقتل اللذين بدأهما ب"رفاقه" الذين ظلوا تابعين لناجي علوش ومن جماعته. وفي تلك الحقبة المديدة كم كنت تسمع ان فلاناً من جماعة فلان، وأن هذه الجماعة ضد تلك الجماعة وبينهما عداوة تصل الى تبادل التصفيات الجسدية. وفي هذا المناخ أصيبت جماعة ناجي علوش من بقايا المسيحيين اللبنانيين بينهم توفيق الهندي بالهلع من ان تضعهم جماعة ابو نضال على قائمة عملياتها واغتيالاتها. وعلى ما روى كثيرون عرفوا المسار الثوري الطويل لتوفيق الهندي، انه بعد شفائه من كابوس ابو نضال، شعر بالمرارة حين امسى رفيقه "المناضل" في زمن ما قبل الحرب، وصديقه القديم اثناء دراستهما الرياضيات في فرنسا، وزميله في التدريس في الجامعة، محمد عبدالحميد بيضون مستشاراً لرئيس "حركة أمل" الشيعية، الاستاذ نبيه بري، عام 1983. ومما يذكره سعود المولى ان "خروج حركة فتح من المعادلة اللبنانية" صيف 1982، وبحث رفاق الأمس "المناضلين" في صفوفها وأجهزتها من المسلمين السنّة والشيعة عن ادوار ومواقع لهم في طوائفهم، أشعرا "المناضلين" المسيحيين بالضياع والعري، أي باليتم الأهلي والطائفي. هذا بعدما كان الحائزون شهادات جامعية عليا من هؤلاء "المناضلين" رفضوا في 1976 و1977 الاستجابة لطلب "حزب الكتائب اللبنانية" دعوته اياهم للانتقال الى المناطق المسيحية للتعاون معهم على انشاء الفروع الثانية للجامعة اللبنانية هناك، على ما روى لويس حنينة الكتائبي القديم في قيادة "مصلحة طلاب الكتائب". اي ايام كانت "حرفة التنظير" التي يجيدها اولئك اليساريون المسيحيون "الميسورون والمترفون" تجذب العاملين في تلك المصلحة الطلابية، وتخلب ألبابهم. كما كان "ثمن بنطلون الجينز الذي يلبسه كل يساري منهم يكفي لمعيشة اي رفيق في مصلحة الكتائب لمدة تزيد عن اسبوع"، بحسب لويس حنينة ايضاً، وإشارة منه إلى تواضع حال الكتائبيين اليمينيين، بالمقارنة مع يسار اهل اليسار. ومع صعود نجم بشير الجميّل الصاعق في "المجتمع المسيحي" 1981 - 1982، وإبان الاجتياح الاسرائيلي للبنان وخروج المقاتلين الفلسطينيين من بيروت، "داعبت" اليساريين المسيحيين، في حومة الذعر التي ألمّت بالمناطق الاسلامية، "فكرة الانتقال الى المناطق الشرقية - والكلام للويس حنينة - فأوصى بشير الجميّل قواته بعدم التعرض لأحد منهم في حال انتقاله". وفي اثناء موجة الذعر تلك التي اصابت بيروت المحاصرة بلا ماء ولا كهرباء، مع تعرضها يومياً لقصف جوي وبري وبحري اسرائيلي لإخراج المقاتلين الفلسطينيين منها، لم يبق في العاصمة اللبنانية إلا قلة قليلة من سكانها. اي اولئك الذين ليس لديهم مكان يفرّون اليه من الجحيم. لكن في اعقاب زوال تلك الموجة، واستعادة المدينة بعض حياتها الطبيعية، راح المناضلون اليساريون من كل صنف ولون يتراشقون تهم التخوين والاستسلام والتخاذل على قاعدة مَنْ "صمد" في المدينة، ومَنْ غادرها "وفرّ" منها. وسمّيت تلك التهم التي راحوا يتبادلونها على صفحات الصحف اليومية "ثقافة" و"حواراً ثقافياً"، فشاعت آنذاك طرفة للشاعر محمد العبدالله الذي كان "انحرف" عن "الحزب الشيوعي اللبناني" وخرج من الخلية المخصصة للمثقفين والفنانين فيه. وتقول تلك الطرفة ان العبدالله اجاب "رفيقاً" له اتهمه بعدم "الصمود" في بيروت التي قال محمود درويش انها خيمته الأخيرة بعد خروجه منها بأنه لم يقل مرة لرفيقه ان "يتكل عليه في مواجهة العدو الاسرائيلي". نخب الرفاق القدامى في رواية ملحم شاوول ان نحو مئة شخص من اليساريين المسيحيين والدائرين في فلكهم، انتقلوا من غرب بيروت الاسلامي الى شرقها المسيحي، في اعقاب ما سمي "حرب المئة يوم" 1978. وهذه كانت الحرب السورية الأولى ضد المسيحيين في منطقة الأشرفية التي كانت آنذاك المعقل الأول لبشير الجميّل بعد مبادرته الى طرد الجيش السوري المرابط في الأحياء المدينية المسيحية. وعلى اثر تلك المبادرة حاصر الجيش السوري الأشرفية مئة يوم، فراح نجم الابن الأصغر لشيخ الكتائب اللبنانية وعرّابها، يسطع بعد تلك الحرب التي انتقلت عام 1981 الى مدينة زحلة في البقاع، إذ حاول بشير الجميّل الاستيلاء عليها، فحاصرها الجيش السوري حصاره للأشرفية قبلها. وفي اعقاب "حرب زحلة" انتقلت ايضاً، بحسب شاوول نفسه، دفعة جديدة من المسيحيين اليساريين من غرب بيروت الى شرقها. اما انتفاضة 6 شباط فبراير 1984، ونجاح الميليشيات الموالية لسورية أمل، التقدمي الاشتراكي، الشيوعي اللبناني ...الخ في السيطرة على مدينة بيروت بعد اخراج الجيش اللبناني منها منشقاً، وتشكيل لواء من المنشقين المسلمين عنه باسم "اللواء السادس"، فقد كادت الانتفاضة تُخرج معظم السكان المسيحيين منها، لتستولي الميليشيات على بيوتهم وتسكن فيها اتباعها. هذا قبل ان تستغرق تلك الميليشيات في تطاحن مروع استمر حتى عودة الجيش السوري الى العاصمة عام 1987. لكن هذه العودة المظفرة لم توقف لا الحرب الطاحنة الشيعية - الشيعية بين "أمل" و"حزب الله"، ولا الحرب الشيعية - الفلسطينية حرب المخيمات، التي كانت حرباً 1985- 1986 ضد ما درج على تسميته آنذاك "الزمر العرفاتية". فهل كان على المسيحيين، وعلى اليساريين المسيحيين ان "يصمدوا" ويستمروا على "النضال الثوري" في ازقة المدينة وركامها الاجتماعي والعمراني، ووسط تلك الحروب المقنّعة؟ ملحم شاوول ذكر ان كثرة من اولئك اليساريين عاشت فترة من الحيرة والقلق والتردد ما بين 1982 و1984. وبلغت الحيرة ذروتها في لحظة حاسمة شكلت منعطفاً خاطفاً في البلاد: انها لحظة تدفق الناس لتهنئة بشير الجميّل بفوزه في رئاسة الجمهورية. وقد راود كثيرين من اليساريين المسيحيين، وغير المسيحيين، حلم بمشروع توحيد البلاد ووقف الحرب مع بشير الجميّل الذي اجرى بعض اولئك الكثيرين اتصالات بمعاونيه في القوات وبأخيه امين الجميّل. بعض من اليساريين المسيحيين السابقين المتأثرين بأجواء "كتيبة فتح الطلابية" التي ذابت بقاياها في "حزب الله" و"حركة أمل"، رفعوا عنهم القلق والحيرة والخوف في ان سلموا امرهم الى الثقافة الخمينية، واعتنقوا الدين الاسلامي على المذهب الشيعي، مذهب كثيرين من رفاقهم القدامى الشيعة، وطريقهم الى الوزارة والنيابة وعمادة الجامعة والوظيفة الإدارية. ومن لديه من اولئك الرفاق القدامى ارث سياسي عائلي، استعاده ذلك الإرث، او عمل هو على استعادة ذلك الإرث. وللحريرية وإعالتها نصيب من بقايا الرفاق السنّة القدامى، مطعمين ببعض الشيعة. ولسورية حصتها من الرفاق القدامى، الذين ما ان سرّبت الاجهزة الامنية اتهام توفيق الهندي بالخيانة والعمالة للعدو... حتى اقاموا احتفالاً اعلامياً وشربوا نخب لبنان "الجديد". * صحافي لبناني.