نظرة موضوعية الى الحال العامة، توضح ان المنطقة تعيش لحظة استثنائية وكأنها نهاية لمرحلة سابقة، او بداية لمرحلة جديدة، او نقطة فاصلة بين مرحلتين. وأخطر ما في هذه الحال ان تفتقد الى عوامل الامساك والسيطرة، وأن تكون مفتوحة على شتى الاحتمالات. وإذا ما حاولنا الدخول في التفاصيل يمكن لنا ان نسجل الوقائع الآتية: أولاً، على الصعيد الاسرائيلي لم تعد الجهات المعنية تخفي خطتها التصعيدية ضد الفلسطينيين. ولعلّ ما يشجع حكومة شارون على اتباع سياسة التصفيات هذه، الفردية والجماعية، ومواصلة حربها ضد الفلسطينيين التي باتت أقرب الى حرب إبادة، انها ليس فقط لم تصطدم بموقف اقليمي ودولي رادع بشكل فعلي وحقيقي، بل وأيضاً، لأنها تلقى التشجيع الخفي والمعلن من قبل البيت الأبيض. والتشجيع يأخذ اكثر من شكل فهو تارة يأخذ طابع التبرير للجرائم، على غرار ما فعل نائب الرئيس ديك تشيني. وتارة اخرى يأخذ طابع التشجيع الضمني، على غرار ما فعل الرئيس الأميركي نفسه، الذي عطل تشكيل قوة حماية دولية للفلسطينيين، وتمسك بفكرة ارسال 12 مراقباً من وكالة الاستخبارات المركزية، يكون مقرهم تل أبيب، معلناً رفضه التدخل في الوقت الراهن في الازمة الفلسطينية الاسرائيلية. ثانياً، على الصعيد العربي تبدو الحال في لحظة من لحظات تفككها. فالقدرة على التحرك العربي الجماعي مفقودة. وقرارات القمم العربية وتوصيات لجنة المتابعة ما زالت في القسم الأكبر منها حبراً على ورق. وتبدو بعض العواصم العربية وكأنها تعيش تخوفاً من تطورات محلية بتأثير الانتفاضة، تخرج من السيطرة. ثالثاً، ولا تبدو ان الحال الدولية الأوروبية خصوصاً قادرة على الاحاطة بالوضع والسيطرة عليه، في وقت تنظر أوروبا الى مجريات الوضع العام في المنطقة نظرة القلق والترقب، ولعلّ قرار خافيير سولانا التخلي عن اجازته الصيفية ليظل على صلة بالتطورات المتلاحقة، مؤشر يجب ان يؤخذ على محمل الجد من قبل المعنيين بالمنطقة وشؤونها. رابعاً، تبقى الحال الفلسطينية، وهي النقطة المحورية في الصورة كلها. ومن الطبيعي القول ان التصعيد الاجرامي الاسرائيلي ضد المناطق الفلسطينية لعب دوراً مهماً في تأزيم الوضع، وبالتالي في تأكيد صدقية خيار الانتفاضة والمقاومة، باعتباره الرد العملي على السياسة الدموية لحكومة شارون، والرد على عنجهيتها السياسية. وإن مثل هذه الحقيقة ترسخ حال الانتفاضة في وعي الشارع الفلسطيني وقناعاته ويشكل ضمانة لتواصلها واستمرارها. كذلك من الطبيعي القول ان اتساع فعل الانتفاضة، تفرض عليها اتخاذ مواقف فيها حذر ملموس من التناغم مع الحال الجماهيرية، وفي هذا السياق تأتي تصريحات رئيس السلطة الفلسطينية ضد الممارسات الاسرائيلية، وأيضاً تصريحات نبيل شعث ضد الموقف الاميركي المعطّل لتشكيل قوة حماية دولية، داعياً عبرها الدول العربية لتدبر امر الحماية الدولية بالشكل الممكن والمناسب. خامساً، لكن ما يجب التوقف عنده بموضوعية هو الآتي: كيف يمكن الامساك بالحال الراهنة والاستفادة منها، حتى لا تتحول الى فوضى وصراع عبثي؟ صحيح ان ردود فعل الشارع الفلسطيني على جرائم الاحتلال يفترض ان تأخذ طابع الصدام الشامل، لكن الصحيح ايضاً، انه اذا لم يجير كل هذا الصدام، وكل هذه التضحيات في خدمة موقف سياسي واضح وثابت، تحولت الى مجرد تضحيات مجانية. فالمراوحة في المكان سوف تعود على الانتفاضة بالضرر. والخطوة المطلوبة قبل سواها، هي نقل حال الوحدة الميدانية الى وحدة سياسية. وإذا كانت السلطة في لحظة من لحظات المأزق السياسي، أطلقت نداءها لأجل الحوار الوطني وصولاً الى حال فلسطينية أرقى، فإن اخطر ما في هذا النداء، ان يكون مجرد تكتيك قصير النفس، وظيفته ان يكون رسالة لهذا الطرف الدولي أو ذاك. ان الحوار الوطني حاجة ملحة ولكن هناك اكثر من مؤشر يدعو الى الحيطة المسبقة. من هذه المؤشرات البيانات والمقالات المشتركة بين بعض الأطراف والشخصيات الفلسطينية وبين شخصيات من حزب العمل، من بينها الوزير السابق يوسي بيلين، وهي تساوي بين القاتل والقتيل، وتدعو للعودة الى المفاوضات بغير شروط في إحياء لسياسة تعتبر المفاوضات في حد ذاتها هدفاً وليس وسيلة من بين وسائل أخرى. أليس مثيراً للعجب ان يتوصل جزء من الهيئات الفلسطينية مع اطراف وشخصيات اسرائيلية الى التفاهم على نقاط مشتركة، وأن تفشل في الوقت نفسه، الهيئات الفلسطينية مجتمعة في الوصول الى نقاط توحدها في مواجهة الهجمة الاسرائيلية؟ وأليس مثيراً للعجب ان يظهر الوضع الفلسطيني، بعد 11 شهراً من التضحيات وكأنه يبحث لنفسه عن ملامح صورة مفقودة. حوار الوحدة الوطنية معناه العودة الى البرنامج الوطني ومعناه ان يصبح أوسلو، واتفاق أبو مازن بيلين، وتفاهمات كامب ديفيد، وتفاهمات شرم الشيخ، وتوصيات ميتشل، وورقة تينيت جزءاً من الماضي، وأن تكون الانتفاضة ببرنامجها المعروف هي الحاضر وهي المستقبل. * كاتب فلسطيني.