اوسلو - "الحياة" - في ما عدا التغطية الاعلامية، التي سعت وسائل الاعلام النروجية، من خلالها، الى الظهور بمظهر عصري، فإن واقعة 11 ايلول سبتمبر التي شهدت فصولها نيويورك وواشنطن بدت كخبر يأتي من كوكب آخر ولا علاقة للنروج به، لا من قريب ولا من بعيد. وباستثناء قلة من المسؤولين الحكوميين، ممن رغبوا في اللحاق بالموكب العالمي الواسع، من حيث ابداء السخط والادانة، لم تظهر على عامة النروجيين علامات الانفعال الصاخب. لقد استقبلوا الحدث المذهل، شأنهم في ذلك شأن تعاملهم مع أي حدث خارجي آخر، بالبرود المعهود فيهم. أما الأوساط المهاجرة، وخصوصاً أوساط المسلمين والعرب، فقد أصابها الارتباك، بادئ الأمر، ولكن سرعان ما تسرب الاطمئنان الى نفوسها فليس هناك ما يبعث على القلق. لم يؤد الدويّ الهائل الذي رافق انفجارات برجي مركز التجارة العالمية الى إحداث أي اهتزاز في فضاء المجتمع النروجي الهادئ. وبدا الناس في سلوكهم كأنهم يشاهدون فيلماً اميركياً، من أفلام العنف والإثارة وينصرفون بعد المشاهدة الى متابعة أعمالهم وكأن شيئاً لم يحدث. بدا الحدث وكأنه آت من فيلم خيالي لا علاقة له بالواقع، وظهر أبطال الحادث على القدر نفسه من الغموض الذي يظهرون فيه في اللقطة السينمائية. ولم تمسك امرأة نروجية نفسها عن الهتاف في صوغ سؤال ملح: ولكن من هو اسامة بن لادن هذا؟ والحال ان هذا السؤال يلخص الطريقة التي استقبل بها النروجيون الحدث. فهم اكتشفوا، فجأة، انهم يجهلون الكثير من الأشياء التي كانت، وما برحت، تجري في العالم من حولهم. وإذا كان من شيء فعله الحادث للنرويجيين فهو انه نبههم الى أنهم جزء من هذه الكرة الأرضية. والمذيع في القناة التلفزيونية الحكومية ن.ر.ك، الذي حاول "استدراجي" الى مقابلة "ساخنة" حول الواقعة لم يتمالك نفسه من السؤال بصوت عال، عبر الهاتف عما اذا كان أتباع ابن لادن يتوقون حقاً الى الموت للوصول الى الجنة؟ وبدت كاري فوغت وكأنها قبضت على اللحظة التي طالما انتظرتها. فهي المؤلفة شبه الوحيدة، في النروج، التي كتبت عن الاسلام وأصدرت، حتى الآن، حفنة من الكتب التي تتناول الجوانب المختلفة للدين الاسلامي وتقارب الجماعات الاسلامية بطيفها الواسع والمتنوع. كما انها لم تتردد في الذهاب الى الكثير من البلدان الاسلامية للقاء الزعماء الاسلاميين ومحاورتهم. ولم تكن هذه الكتب، وكذلك مؤلفاتها، تستقطب بال الكثير من القراء النروجيين. وفي كل مرة كنت أذهب فيها الى المكتبة العامة في أوسلو كنت ألاحظ أن تلك الكتب، ومثيلاتها، تغفو مستريحة على الرفوف. وفجأة استيقظت كاري فوغت وكذلك فعلت الكتب. وصارت قنوات التلفزة والصحف تحث في طلب المولفة وتسائلها وتناقشها وتستفسر منها عن كل شيء. وظهر الشبان، في شكل خاص، كمن يستفيق على لغز يصعب حله. لقد تفجر في الإعماق، من دون سابق انذار، فضول كبير الى معرفة الكثير عن الاسلام والمسلمين وبلدانهم وجماعاتهم وعاداتهم. وغزا هؤلاء الشبان، صبياناً وبنات، المكتبات. أما الرفوف التي كانت ارتاحت لغفوة الكتب التي تبحث في تلك المسائل فقد ظهرت للمرة الأولى، فارغة يلعب فيها الهواء. وصارت حلقات النقاش تكثر وتشعبت فيها ومعها الأسئلة. وأمام سيل الصور التي شرعت تنهمر عبر شاشات التلفزة وهي تظهر الطائرات تخترق ناطحات السحاب وتحولها الى رذاذ من الاسمنت المتناثر ثم تعقبها صور رجال معممين وملتحين وجماعات تهدر وتحرق الاعلام غاضبة وسط أطلال ترابية من بيوت عارية ضائعة في صحارى قاحلة، أمام هذا السيل صار الشباب يطرح السؤال تلو السؤال. فمن هو أسامة بن لادن، حقاً، وأين هي أفغانستان، وماذا يعني الجهاد ولماذا استهدفت الولاياتالمتحدة الاميركية، وكيف يتحول المرء الى ارهابي يقتل الناس ونفسه، ولماذا تجري هذه الأهوال في وقت يتحدث فيه الجميع عن التسامح والتحاور؟ ومع هذا لم تكن هناك حاجة الى بذل جهد كبير من أجل التأكيد، مثلما كانت الحال في البلدان الأوروبية الأخرى، على أن لا علاقة للاسلام بالارهاب وأن غاية الديانات صون حياة البشر لا تهديدها. لم يكن هنا، والحال هذه، ما يدعو اللاجئين المسلمين، الذين بدأت أعدادهم تتزايد في النروج، الى الشعور بالخوف. والحق ان المجتمع النروجي ما زال آمناً، الى حد كبير، من نزعات التعصب وكره الأجنبي. وإذا كانت الوقائع الأخيرة هيأت شيئاً فهذا الشيء هو التساؤل عما يكمن وراء اتخاذ الحوادث هذا المنحى المرعب. ولعل النروجيين باتوا، وهم ينظرون الى اللاجئين والمهاجرين يعبرون شوارع مدنهم، أمام المعادلة الغريبة التي تنهض في ثوب السؤال المحير: لماذا يظهر اللاجئ القادم من العالم الاسلامي مشروعاً لعمل عنيف من شأنه ان يخلخل الأمن ويمزّق الاستقرار الذي طالما اعتبره النروجيون، وما زالوا، نعمة يُحسدون عليها؟