ظلت مراحل التعليم في العراق حتى سنوات قريبة "مجانية" ليكتسب العراق صفة في الخدمة الاجتماعية تضعه بين مصاف دول متقدمة، غير ان مثل هذا "اليقين" تعرض الى انهيارات متتالية، بدءاً من تدهور الحياة التعليمية وصولاً الى اقرار اجراءات لوزارة التربية وضعت فيها مبالغ مالية ازاء خدماتها التي كانت تقدم من دون مقابل. في أوائل العقد الماضي عادت الكليات الأهلية الى العمل بعد نحو 20 عاماً من "تأميم الجامعات" فيما بدأت المدارس: الابتدائية الأساسية والمتوسطة والاعدادية الثانوية استيفاء مبالغ من الطلبة تحت ذرائع شتى، حاولت وزارة التربية التنصل منها لكنها أقرت بها لاحقاً عملاً بمبدأ انها تتم "نتيجة الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد تحت الحصار"، ثم اصدرت الوزارة قراراً بجعل المدارس نوعين: مدارس عادية وأخرى سمتها "مدارس الجذب الجيد" التي تقدم خدماتها للطلبة في مقابل 30 الى 100 ألف دينار لكل طالب، وجعلتها قبلة لأفضل المدرسين مع رسائل تعليمية وتجهيزات أفضل بالمقارنة مع المدارس "العادية"، ما دفع بأولياء الأمور الى التسابق في تسجيل أبنائهم فيها. التعليم الجامعي الحكومي ابتكر وسيلة في تقديم خدماته للطلاب الذين يعملون نهاراً لكسب قوتهم، فجعل "التعليم المسائي" في مقابل مبالغ تتراوح بين 50 الى 150 ألف دينار سنوياً عن كل طالب ممن تحايلوا على وقائع الحصار ومعاناته وتوقعوا انهم عبر العمل نهاراً سيوازنون بين متطلبات الحياة ومتطلبات العلم والمعرفة. وبحسب مشرف تربوي عراقي متقاعد مقيم في عمّان فإن وزارة التربية في قرارات أصدرتها الأسبوع الماضي بدأت "تنافس" الهيئة العامة للضرائب في فرض أعباء مالية على "المستفيدين" من خدماتها من العراقيين والعرب والمقيمين. وكانت صحيفة "نبض الشباب" الأسبوعية الصادرة في بغداد نقلت عن وزارة التربية استيفاءها مبالغ مالية عن الخدمات التي تقدمها، فعلى الطالب العراقي دفع مبلغ 25 ألف دينار في حال طلب "كتاب تأييد للسفر" خارج البلاد، ومبلغ 25 ألف دينار للطالب العراقي الراغب تزويده "شهادة دراسية" وضعفه لغير العراقي، ومبلغ 500 دينار عن "تدقيق الشهادة" تتضاعف عن كل سنة من تاريخ التخرج، المبلغ ذاته سيدفع في حال رغب الطالب الانتقال من مدرسة الى أخرى، وإذا رسب في سنة دراسية فسيدفع 5000 دينار ليصبح المبلغ ثلاثة أضعافه في حال كان الطالب في المرحلة الاعدادية الثانوية. الطالب "المعترض" على نتائج الامتحانات لن يقبل اعتراضه الا في حال دفعه مبالغ تتراوح بحسب المراحل الدراسية بين 500 و5000 دينار عن كل درس. أما معادلة الشهادات للتلاميذ والطلاب القادمين الى العراق فيتم عنها استيفاء مبلغ 25 ألف دينار للدراسة الابتدائية الأساسي و50 ألف للمتوسطة و100 ألف للإعدادية الثانوي. المعلمون كي يصبحوا اختصاصيين في "رياض الأطفال" عليهم دفع 25 ألف دينار للاشتراك في دورة تعليمية خاصة، و50 ألف إذا ارادوا ان يصبحوا مشرفين تربويين. السلطات العراقية لا ترى في المبالغ المقرر استيفاؤها من الطلاب والتلاميذ "مبالغ كبيرة إذا ما قورنت بالعملة الصعبة الدولار يبلغ نحو 1900 دينار" إلا ان الأوساط الشعبية ترى فيها قياساً بمعدلات الأجور الشهرية المنخفضة 7 الى 10 آلاف دينار مبالغ كبيرة تنهي فعلياً "التعليم المجاني" في العراق وتزيد من الأعباء التي تعانيها قطاعات واسعة من العراقيين. ومن المعلوم ان دراسة ميدانية أجراها اختصاصيون تربويون في المجلس الوطني العراقي البرلمان و"مجلس شعب بغداد"، نشرت الشهر الماضي، حملت وزارة التربية اتخاذ خطوات من بينها استيفاء مبالغ مالية من التلاميذ والطلاب في مختلف المراحل التعليمية والدراسية، كانت سبباً في "تسرب" أعداد كبيرة من التلاميذ، عجز أولياء أمورهم عن دفع تلك المبالغ التي تزيد حياتهم معاناة اضافة الى معاناة أوضاعهم الاقتصادية المتردية أصلاً. وفيما كانت تلك الدراسة تأمل من وزارة التربية اتخاذ خطوات "تصحح" خطواتها السابقة، جاءت القرارات الجديدة لتفاقم الوضع التربوي في العراق، ولتبدو معها حال مدارس العراق قبل سنة 1990 شيئاً من ماض لا يمكن استعادته.