المشهد الذي اختاره الرئيس العراقي صدام حسين لاعلان دعوته الأكراد الى الحوار نموذج للسوريالية في الخطاب العراقي. فعلى رغم ان الاتصالات بين القادة الأكراد، خصوصاً مسعود بارزاني وجلال طالباني، لم تنقطع مع بغداد، لا سيما في السنوات الأخيرة، إلا أن الرئيس العراقي أصر على الاعلان عن دعوته الى الحوار بنفسه، واختار اجتماعه بأعضاء "المجلس التشريعي لمنطقة الحكم الذاتي" المشكل من جانب الحكومة ومقره بغداد، مسرحاً لهذا المشهد. فإذا كان صدام يجتمع بأعضاء "المجلس التشريعي" ممثلين للشعب الكردي فما معنى دعوته قادة كردستان الى الحوار؟ لقد فرضت المنطقة الآمنة في شمال العراق بقرار دولي، ومع ذلك يقول انه أبقى "الحال الاستثنائية" في شمال العراق كي يتمكن المواطن الكردي من التوصل الى "خياره الحقيقي"، وكأن قرار السيطرة على كردستان مرهون بارادته. يتحول صاحب "الانفال" وعمليات التهجير والقمع الى صاحب الفضل بقوله: "ان القادة الأكراد كانوا سيسمون شعبهم سوء العقاب لولا خشيتهم من بغداد"، واصفاً كردستان بجزء "صغير محتقر"، وحالها "حال الابن العاق" الذي يجب أن "يتراجع وان يصلح نفسه"، ملوحاً بعصا الطاعة بقوله: "عندما نعجز عن هذا فلكل حال حال". ولكن وراء هذا الخطاب السوريالي اللامعقول حقائق مرة في غاية الواقعية. يرى صدام ان الوضع في كردستان بعد عشر سنوات قد تغير بما يسمح له بالتحرك لفرض ارادته السياسية ان لم يفرض السيطرة المباشرة. فالعامل الدولي متمثلاً بالأممالمتحدة أصبح عاجزاً عن اتخاذ قرار بالتدخل لصالح الأكراد في ظل الفيتو الروسي والرفض التركي. وفي غياب قرار الحسم الأميركي باستخدام القوة المباشرة لاسقاط النظام اعتمدت واشنطن "الاحتواء" نهجاً، الأمر الذي خدم صدام أكثر من أي عامل آخر. فبإسم الخوف من البديل الشيعي أو الكردي اصبح الرئيس العراقي الخيار الأقل ضرراً. وفي غياب امكان الحسم العسكري على الأرض، أصبحت الضربات الجوية الأميركية أداة إعلامية في خدمة حاكم بغداد لكسب العطف الاقليمي والدولي. سعى صدام الى تعطيل الأكراد كقوة للتغيير السياسي في العراق، وحقق نجاحاً في هذا الشأن بدءاً من الفراغ الذي تسبب فيه قرار سحب الادارة المركزية وخدماتها من الشمال الكردي، ما جعل عبء ادارة وإعاشة المنطقة على الآخرين. كما ساهم الفراغ السياسي، بتشجيع من بغداد، بدفع عجلة الصراع السياسي بين الأطراف الكردية ليتحول الى اقتتال بلغ الذروة عام 1996 عندما لجأ أحد الأطراف الى النظام العراقي طلباً للعون العسكري. حصل كل هذا على مشهد من واشنطن التي لم تحرك ساكناً، واكتفت بمراقبة انسحاب القوات العراقية من اربيل بعد انهاء الوجود العسكري للمعارضة العراقية. وبذلك دشنت واشنطن مرحلة جديدة في كردستان كرستها مادلين اولبرايت وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك بقولها للأكراد: لا تتحدوا صدام بما يدفعه للهجوم، مقابل استمرار الحماية الجوية. في غياب الحكم المركزي أصبح يُنظر الى كردستان العراق منطقة فراغ سعت كل من ايرانوتركيا، وبدرجة أقل سورية، الى ملئها، الأمر الذي أعطى بغداد فرصة لتدخل لعبة توازن القوى من خلال دعم طرف دون آخر. كما ان انشغال الأكراد بحماية أنفسهم من ايران أو/و تركيا اضطرهم لتقديم تنازلات والعيش بقلق دائم. وعندما تجاوز الحزبان الرئيسيان الكرديان الكثير من خلافاتهما اتجهت بغداد نحو أطراف ثانوية لتأجيج الصراعات فساعدت حزب العمال الكردستاني وفئات هامشية أخرى، كما لجأت الى أعمال الارهاب والتفجير اعتقل أخيراً موظف دولي تونسي الجنسية بتهمة نقل متفجرات في شاحنة تابعة للأمم المتحدة. وجاء تصاعد خطر الأحزاب الاسلامية الكردية على الحزبين الكرديين الرئيسيين ليصب في خدمة بغداد ايضاً. ولكن الورقة النفطية والمالية كانت الأكثر فاعلية في تحييد الأكراد. فقد أعاد النظام ربط المنطقة الكردية بشبكة اقتصادية محورها النفط والتهريب، وبات الاقتصاد الكردي اليوم، خصوصاً في اربيل، يعتمد على خطوط النقل التجاري والنفطي لتركيا عبر كردستان، ما خلق شرائح كردية مستفيدة ومن الصعب تعويضها عن الامدادات الحكومية العراقية. كما استطاعت بغداد مد جسور التعاون مع تركيا ملوحة بفتح معبر حدودي ثان لا يمر بالمنطقة الكردية. في ظل هذه الخلفية تصبح مبادرة صدام تهديداً أكثر من كونها حواراً، ومع ذلك فإن الأكراد ليسوا في وضع يسمح لهم برفض الدعوة. يتمثل المأزق الكردي في الخوف من مواجهة مع صدام من دون توفر غطاء اقليمي أو دولي لحمايتهم، فجاء الرد على شكل بيان في غاية الاعتدال. فالحزبان الكرديان الرئيسيان شددا في بيان مشترك بتاريخ 27 تموز يوليو الماضي على النهج السلمي والوحدة الوطنية العراقية "التي ستترسخ بمقدار ما تتحقق الديموقراطية والتعددية واحترام حقوق الانسان، والحل السلمي العادل للقضية الكردية في اطار وحدة العراق وسيادته". واما شروط الحوار فقد اكتفى البيان بالاشارة الى "ضرورة تهيئة الاجواء المناسبة ومستلزمات الحوار الديموقراطي العلني، وبناء عوامل الثقة"، وحدد مستلزمات ذلك ب "وقف سياسة ترحيل وتهجير السكان الأصليين من مناطقهم. والكشف عن مصير المعتقلين والمفقودين وان تؤخذ في الاعتبار تضحيات وطموحات شعب كردستان وارادته استناداً الى قرار المجلس الوطني لكردستان العراق في 4/10/1992، بتحديد العلاقة القانونية بين اقليم كردستان والحكومة المركزية على أساس الفيديرالية واحترام الحقوق المشروعة لجميع القوميات والأديان". فالحديث هنا عن "الأخذ في الاعتبار" وليس الالتزام أو التنفيذ العملي لقرارات المجلس الوطني الكردستاني، في حين يؤكد البيان على "وحدة العراق وسيادته". وجاءت الاشارة الى "احترام الحقوق المشروعة لجميع القوميات والأديان" لتطمين التركمان والآشوريين. في المقابل تحاشى البيان ربط القضية الكردية بالمعارضة العراقية أو حتى الاشارة اليها من بعيد، واسقط العامل الدولي تماماً بعدم المطالبة بأي مشاركة أو اشراف دولي لضمان عملية الانتقال الديموقراطي، بل تجاهل البيان كل قرارات الأممالمتحدة بما فيها القرار 688 الخاص بالحقوق الانسانية للأكراد. واللافت ان الصيغة الأولى لمشروع البيان، نقلاً عن مصادر مطلعة، تطرقت الى جملة شروط اهمها: "قبول حكومة بغداد بصيغة الفيديرالية التي اعلنها البرلمان الكردستاني في نيسان ابريل 1992، وقيام حوار على أساس اقامة نظام ديموقراطي تعددي واجراء انتخابات عامة باشراف اقليمي ودولي لضمان نزاهة العملية الانتخابية"، اضافة الى مطالبة الحكومة "بكشف مصير ضحايا عمليات الانفال" بعد اعتقالها في عام 1988 أكثر من 150 ألف كردي ونقلهم من أماكنهم في شمال العراق الى أماكن مجهولة. اعتدال البيان المشترك وتركيزه على ما هو ممكن ضمن الارادة العراقية المشتركة ترك الكرة في ملعب الحكومة المركزية، فإن كانت دعوة صدام للحوار مجرد ورقة للاستهلاك الاعلامي العربي والدولي فإن الرد الكردي اسقطها باعتداله، وان كان هدف حاكم بغداد من استخدام لغة التهديد المغلفة بالدعوة الى الحوار ضمان رفض القيادة الكردية أو استفزازها لتبرير اجتياح كردستان، فإن الاعتدال الكردي اسقط تلك الذريعة ايضاً. قد تكون حاجة الرئيس العراقي الى "حصان طروادة" لفرض سيطرته مجدداً على كردستان دفعته للمبادرة بطرح مشروع كان يأمل ان يشق به صفوف الأكراد. ولكن صدور البيان بصيغة مشتركة تركت الباب مفتوحاً للحوار اسقط مثل هذا الاحتمال. لكن مبادرة صدام قد تحقق على صعيد المعارضة العراقية ما فشلت في تحقيقه على صعيد الأكراد، خصوصاً حينما تهاجم عناصر معارضة عراقية غير كردية الأكراد بتهمة "الحوار" مع النظام!! ما يزيد من انقسام المعارضة العراقية ويرسخ قناعة الأكراد بعدم جدواها. كسب الأكراد بعض الوقت، ولكن اشكالية المستقبل الكردي لا تزال قائمة. فالقيادات الكردية تعرف ان الوضع الحالي، الذي استمر عشر سنوات وهو الأفضل منذ عقود، غير قابل للاستمرار الى الأبد، وان مصير كردستان سيحسم في النهاية في بغداد سلباً أو ايجاباً. وفي الوقت نفسه تدرك القيادات الكردية أنها ليست قادرة وغير مسموح لها بفرض التغيير في بغداد، وان لا وجود لمعارضة عراقية فاعلة ومقبولة اقليمياً ودولياً يمكن الرهان عليها أو التحالف معها. فإلى جانب الأكراد يبقى الرقم الاسلامي الشيعي تحديداً هو الأقوى، لكن المشكلة ان هذا الرقم مرفوض اقليمياً ودولياً، كما ان طروحاته في الشأن الكردي غير مطمئنة بالنسبة الى معظم الأكراد. وباستثناء ليبيا ليست هناك دولة عربية متعاطفة مع طموحات الأكراد وامانيهم، كما ان الشارع العربي لا يرى في الأكراد الا حركة انفصالية. وعلى الصعيد الاقليمي لا ترغب أي دولة مجاورة تركيا، ايران، سورية بقيام نموذج كردي متقدم يستقطب اكرادها. وبقدر ما يدرك الأكراد أهمية الولاياتالمتحدة في حماية وجودهم ينتابهم شعور بالخوف من احتمال تخليها عنهم، ولا تزال ذكرى 1975 ماثلة في ذهن القيادات الكردية، خصوصاً بارزاني. وتزداد مخاوف الأكراد اليوم حيث تقوم الادارة الأميركية بمراجعة سياستها تجاه العراق، خصوصاً في ما يخص استمرار مناطق الحظر الجوي إذ اخذت طائراتها تتعرض في أجوائها لمزيد من التحدي العراقي. وأقصى ما وعد به البنتاغون القادة الأكراد في آخر لقاء بتاريخ 14 تموز الماضي هو ان واشنطن "لن تسمح لصدام باستخدام الأجواء العراقية للهجوم على الأكراد، أو تهديد جيرانه". ان الحماية من طيران صدام ليست بديلاً وغير كافية لحماية الأكراد من اجتياح عسكري على الأرض، كما ان فشل واشنطن في تطمين الأكراد على مستقبلهم ليس هزيمة للسياسة الأميركية فحسب، بل نهاية للتجربة الديموقراطية الكردية، ويعد، بالتالي، انتصاراً للديكتاتورية ولصدام حسين نفسه. في المقابل فإن صدام حسين ليس مستعداً لأي تنازل سياسي ولو موقت لصالح انفراج ديموقراطي في العراق، خصوصاً بعدما خرج من "العناية الصحية السياسية" و"قفص" الاحتواء الأميركي. وختاماً ليس هناك من هو أدرى بوعود صدام من الأكراد، فقد لدغوا أكثر من مرة، الأمر الذي يتطلب ضمانات دولية. ولكن لا صدام يقبل بها بحجة "السيادة"، ولا الطرف الأقدر على اعطاء الضمانات مستعد لذلك خوفاً من أن يؤدي ذلك الى تأهيل النظام. * كاتب عراقي.