لم يتحول الشك في أنها تركت الدواء إلى يقين إلا عندما رأيتُ هذا الصباح الأقراص البيضاء تستقر في جوف التواليت. كان لابد من التوجه إلى الصيدلية، فارتديت ملابسي على عجل وخرجت فوراً. «رايحة فين ع الصبح، الرجالة مستنينك ع الناصية ولا إيه؟ كان صراخها يلاحقني حتى انحناءة السلم الأخيرة، ونظرة إشفاق في عيني البواب وأنا أعبر الطريق. «اصحي يا حاجة». تلفتُّ، لم تكن غيري تعبر الطريق نصف غائبة، وصبي على دراجة يتفاداني بأعجوبة متلوياً بدراجته التي يقودها بذراع بينما يشيح بذراعه الأخرى نحوي ويلتفت بجسده كله للخلف: ركزي يا حاجة! كان يرتدي جلباباً على اللحم، لكنه يبدو سعيداً ومبتسماً وخفيفاً، بينما كنت أسير كعجوز متعبة. الصيدلي الذي كان يعرف طلبي من الأقراص منذ سنوات، كان يجهزه منذ اجتزت باب الصيدلية، لكنني قلتُ في حسم: «لأ... لأ» فأعارني أذنه مستفهماً، فقلت: - ريسبريدال سوليوشن. الصيدلي العجوز فهم من طلبي دواء بديل عديم اللون على هيئة محلول أنها توقفت عن تعاطي الدواء، فأزاح ما أعده جانباً، وهز رأسه مؤكداً على إضافته للعصير من دون علمها، وحذرني أنها ربما تكتشف الأمر بعد فترة، وتدخل في نوبة هياج لن تنتهي إلا في المصحة كما حدث من قبل. عشرة أعوام وأنا أنتقل بها من مصحة إلى أخرى. أراقبها بشدة في البيت، وأخرج معها في أوقات الهدوء، وكان الصيدلي العجوز يكلمني أمامها على أن العلاج لي، لكنه قال اليوم: «ألف سلامة عليكي يا حاجة» ولم يقل: يا دكتورة. خمنتُ أنه بدأ ينسى، ولاحظ هو انزعاجي، فتراجع عن كلامه، وقال: ألف سلامة على الحاجة. التمست له العذر فقد كان الشبه في زجاج الصيدلية الخارجي يقترب كثيراً بيننا: استطالة الوجه، وانطفاء العينين، وانحناءة الظهر، فقد تجاوزتُ الأربعين، وما زلت مثلها بلا زوج ولا بيت ولا أطفال، حتى رسالة الماجستير - التي مازلت أحتفظ بأوراقها - لم أكملها. عند مدخل العمارة حيتني الجارة العجوز بنظرة مواسية، وكانت هي لا تزال في الشرفة تواصل صياحها وشتائمها. كرهتها جداً في تلك اللحظة، وتجاهلتُ نظرات المارة التي تنتقل بينها وبيني، وقررت ألا أعود. حين خرجت للشارع الرئيسي، بدأ صوتها يتلاشى، ولامست شمس خريفية هادئة وجهي وغاب صوتها. نظرت إلى السماء، بدت زرقاء واسعة وخالية إلا من سحب ضئيلة كندف قطن ناصع البياض. غمرني دفء فتنفست بعمق. أبهجني عرض الشارع كأنني أراه للمرة الأولى. رأيت المترو يوشك أن يتحرك، والولد بالدراجة يمرق بجواري تاركاً المقود هذه المرة، فانتابتني خفة، وقفزت في عربة المترو في اللحظة الأخيرة. ابتسمت لنفسي وأنا أنهج من خطواتي السريعة التي لم أعتدها. منذ متى لم أركب المترو؟ ومنذ متى يمر في الشارع من دون أن ألحظه؟ ربما منذ كنت أمضي سنة الامتياز في الدمرداش. كانت العربة فارغة في ذلك الوقت من صباح الجمعة. شعرت بالحيرة وأنا أفاضل بين الأماكن: مقعد في اتجاه حركة المترو حتى لا أشعر بالدوخة أم عكسها؟ بجانب النافذة أم لا؟ حتى دعاني الكمساري للجلوس « واقفة ليه ده كله فاضي». جلست بجوار النافذة عكس حركة العربة، كما كنت أفعل وأنا صغيرة لأعد الأعمدة بين محطة وأخرى. في بداية العد أخطأت وشعرت بدوار، لكنني أكملت. لم أشعر بمرور الوقت وقد ازدحمت العربة الأخيرة بنساء ورجال وأطفال يتكلمون ويضحكون ويصيحون. توقف المترو فجأة فملت إلى الخلف ثم رفعت رأسي، فوجدتني أمام شرفته تماماً. لسنوات وأنا أمر أمام منزله، ولا أرفع وجهي لأواجه الشرفة حتى لا أضعف وأصعد إليه. كان ينتظرني كل صباح على تلك المحطة، نذهب إلى الجامعة ونعود سوياً. وطوال سنوات الدراسة، كانت الحياة جميلة بطريقة تدعو للشك، لكننا لم نكن سوى صغار أبرياء فلم نفهم. ظهرت أعراض مرضها منذ ماتت أمي، فساندني وخفف عني لسنوات، لكن الأمور ازدادت سوءاً ولم تلح في الأفق أية حلول ممكنة. سنتان بعد التخرج، ثم طلب مني صراحة أن أخرج قليلاً من هذه الدوامة، ولا أغرق نفسي فيها، فثرت عليه، وأنهيت العلاقة معه، وتخلصت من كل ما يذكرني به، الصور، والرسائل، والهدايا. تذكرت الآن وردة حمراء مجففة ترقد بين أوراق رسالة الماجستير التي لا أعرف متى توقفت عنها، مع كلمات ساذجة عن السعادة لكنها صادقة وبسيطة. اجتاحتني الآن رغبة مفاجئة لرؤيته. نزلت من المترو. سرت في الطريق الذي قطعته كثيراً معه، يراوغني لحن أغنية غامضة. حين أحس بخطواتي على درجات السلم عصفور وطار على حافة نافذة السلم، ورفرف بجناحيه مبتعداً، بدت السماء قريبة. توقفتُ وداخلني يقين أن باب الشقة المواجه سيفتح عن وجه أعرفه قبل أن أضع إصبعي على الجرس.