أنجزت قراءة "الرياض نوفمبر 90" للروائي سعد الدوسري، وتركت في داخلي مشاعر مختلفة من الفرح، والغبطة، والنشوة، وظللت لفترة أتحيّن الفرصة كي أكتب عنها، فتروغ من داخلي الكلمات التي خرجت من فمي أثناء القراءة. هناك أعمال تجذبك وأنت تقرأها وبعد ان تنتهي من قراءتها لا تعرف تحديداً سر جمالها، تبقى في داخلك كجمرة تتدفأ قربها أو كوردة تلوح بها في انتظار حبيبة غائبة. وبعض الأعمال الأدبية تصادفه ظروف سيئة تحجب انتشاره، وتغطي عنه ضوء العيون، فرواية "الرياض نوفمبر 90" كتبت قبل اندلاع حرب الخليج الثانية حين كان الجمر مخبأ تحت رماده، وقبل ان تحدق في عين بومة جلست على شجرة تنتظر شخصاً لتزوده بنعيقها. في تلك الفترة التي كانت السحب تتجمع معلنة دخول السعودية الى حرب لم يكن لها فيها خيار، وإن كان لها فيها خيار فلم تكن قادرة على كبح موجة الهلع التي أصابت المواطنين، فكلمة حرب في ذهنية المواطن السعودي لفظة جديدة تحمل غموضها وقسوتها وترقبها والهلع من اندلاعها، وتظل ذاكرة مواطنيها خالية من هول الحروب وما تفرزه من دمار على جميع المستويات وبالتالي تصبح الحرب غولاً قادماً كان الناس يترقبون وقع خطاه مع مرور الأيام العصيبة التي عصفت بالمواطنين، خصوصاً اذا عرفنا ان غالبية السكان من ذوي الأعمال الصغيرة، فهم لم يحضروا أو لم يسمعوا بحرب اليمن على سبيل المثال والتي كانت حرباً حدودية مهما اتسع نطاقها فهي لن تخرج لبذر حريقها بعيداً من مدن محدودة وحدودية، وبذلك تصبح حرب الخليج الثانية هي ذكرى لرعب طاف في ذهنية كل السعوديين. ورواية "الرياض نوفمبر 90" صدرت عام 1999 عن دار الساقي، ولم أقرأ عنها شيئاً، وكنت سمعت ان سعد كتب رواية ولم تنشر في حينها، وظللت على يقين ان هذه الرواية لا تزال مخطوطة، فإذا بي أجدها نشرت ومرت مرور الكرام من غير ان يتنبه لانسيابها نقادنا - أو انهم تنبهوا - انسل هذا العمل رائقاً كأنه لم يحدث، والذي سار في خطواته منسجماً ومتناغماً ليصل بنا الى نقطة غالباً لا تشبع القارئ، فالقارئ حين يدخل مع الروائي في عالمه تظل لديه رغبة ملحة لإشباع نهمه وفضوله، وحين يلجأ الكاتب الى اختيار النهايات التي يختارها لعمله تظل هناك غصة وأمنية لو فعل كذا... ومن يعرف سعد معرفة لصيقة سوف تتداخل الرواية في ذهنيته ما بين العام والخاص، ولن يتورع بتاتاً من الجزم ان الراوي هو سعد الدوسري بشحمه ولحمه لتطابق بعض التفصيلات الحياتية لشخوص الرواية مع حياة الراوي، فالبطل يعمل داخل مستشفى وهو كاتب قصة ومشرف على صفحات الطفل، تلك الصفحات التي ادخل فيها الطفل كعنصر منتج. والكثير من التفصيلات تتطابق مع مواصفات سعد، وبهذا تدخلك الرواية في التهمة القائمة حالياً حول الرواية السعودية الحديثة، تلك التهمة التي طالت عدداً من روايات سعودية من "شقة الحرية" لغازي القصيبي ومروراً بثلاثية تركي الحمد ورواية "الحزام" لأحمد أبو دهمان، اذ يعلن النقاد والمتابعون ان الرواية السعودية تنهض على السيرة الذاتية. وثمة ملاحظات على الأعمال التي ترتدي سيرها الذاتية لتكتب روايتها. من تلك الملاحظات ان السيرة الذاتية مرتبطة بالنظرة الاحادية، ومتغلغلة في الخاص على حساب العام، وانها تتخذ من فترات معينة مهمشة في الذاكرة الجمعية عموداً فقرياً لها، وانها تخضع للمحاسبة والمراجعة التاريخية الدقيقة اذ يقف المجايلون لهذه التجارب موقفاً سلبياً من نقصان مذكرات الكاتب واعتساف الحقائق، وبالتالي لن تحظى برداء الرواية التي تمنح الروائي فضاءات متسعة تمكنه من اختيار الاجواء، والأحداث بما يتلاءم مع فضاء النص أكثر مما يتلاءم مع مطالبات المجايلين للفترة الزمنية موضوع الكتابة. هذا الموقف المتحسس من الكتابة الروائية الناهضة على السير الذاتية يقابله رأي آخر يطلب ان تكون هناك رواية همها تسجيل السيرة الذاتية بغض النظر عن كاتبها، ومن هؤلاء تركي الحمد الذي اعترف ان جميع رواياته هو بطلها اذ يستل أحداثها من حياته الماضية ويجري عليها بعض التحريف وينشرها. وهو قال: "رواياتي كلها حقيقة وسيرة ذاتية لا تخيلاً روائياً، انا بطل اعمالي الروائية، لقد تعبت من الانكار، مللت المواربة". وبغض النظر عن اتفاقنا او اختلافنا مع الرواية القائمة على السيرة الذاتية فإننا نجد ان رواية "الرياض نوفمبر 90" استطاعت ان تخترق الخاص لتصل الى العام بسلاسة مشكلة ضفيرة انسابت اطرافها بتيمات عدة وأجواء مختلفة. تبدأ الرواية بقرع طبول الحرب من خلال خبر نشر نصه: "وزير الخارجية البريطاني دوغلاس هيرد هدد مجدداً يوم أمس باستخدام القوة، اذا لم يسحب العراق قواته من الكويت...". بهذا الخبر تبدأ الرواية، ولنسقط مباشرة في حياة البطل، ومن البدء يشعرك المؤلف ان الراوي له سمات معينة وينطلق من رؤية ثقافية تمثل شريحة المثقفين في البلاد، فالبطل منذ البدء يتطلع الى رفوف مكتبة بحثاً عن رواية "انتفاضة المشانق" للكاتب المكسيكي ترافن غروفس، وعندما لا يجد الرواية يجالس أطفاله لمشاهدة أفلام الكرتون، خالقاً مشهداً رتيباً يسير فيه الوقت بطيئاً وبخطى كسيحة، ومن هنا يشق الكاتب طريقه لخلق روايته التي تدهشك ببساطتها، أحداث يومية سهلة، تدور في المجلة التي يشرف البطل على صفحات الطفل فيها، وتنتقل المشاهد الى الأطفال العاملين في هذا القسم المستحدث ثم الى المستشفى حيث يعمل الراوي. اتصالات من جهات مختلفة، علاقة البطل بصهره، ذلك الشاب الذي من خلاله يقدم الروائي سلبيات المجتمع فهو شاب يدرس في الجامعة يعشق الحياة ويمارسها الى آخر قطرة، ومن خلاله يكشف الراوي واقع شريحة كبيرة من الشباب، يكشف ممارساتهم الحياتية، تطلعاتهم، سلبياتهم وأحلامهم. ثم تبزغ شخوص، كل شخصية تقدم عالمها من خلال الراوي الذي يتيح لمعظم الشخصيات مساحة كبيرة لكي تتحدث وتعبر عن طموحها وتقاعسها ونجاحاتها وإخفاقاتها. هذا التسامح مكّن شخصيات عدة من البزوغ، وسمح الراوي ان يفرد فصلاً كاملاً مطولاً لشخصية كشخصية هيفاء. مارس سعد في هذه الرواية سياسة الباب المفتوح، فمن بيت الراوي الصغير والمغلق على زوجته وابنيه ينفتح على العالم انفتاحاً كبيراً، ويسمح لأصوات ان تتحدث وتقول. تخرج الحكايات الهامسة وتبوح بما تحمل من كلمات، وتتعدد الأماكن لتجوب العالم العربي والغربي من العمال على الأرصفة وصولاً الى شخصيات أعمق. الكل يتحدث من خلال لقاءات الراوي او وقوفه في مكان ما لشراء غرض او السير في ردهات ودهاليز المستشفى أو في مشارب أميركا أو على الحدود أو في السوبرماركت، والمتحدثون مختلفو الطبقات والشرائح والألوان والملل والتوجهات السياسية. فالباكستاني يتحدث، والسوداني، واليمني، والشامي، والأميركي، والمكسيكي. ويتحدث المثقف، ورجل الأعمال، والموظفون، والعمال، والضباط، والأطفال، والنساء، والانسان البسيط التائه في ثنايا الأخبار التي يسمعها، يتحدث من يفهم ومن لا يفهم، ويقف بك في دول عربية عدة وهو يخرج كمثقف للمشاركة في ندوة من الندوات كاشفاً بؤس رجال الحدود وما يمثلونه من تعنت إزاء المواطن العربي. وانتقل الى الولاياتالمتحدة ليقدم صوراً للشخصيات متباينة، وكيف تعامل المرأة السعودية والرجل السعودي في هذه المجتمعات. باب مفتوح وأقدار شخصيات مفتوحة، ونهايات مفتوحة، ومشاهد مفتوحة. وبتنوع هذه الشخصيات تتنوع الأحداث والهموم، وتتبع الرواية أموراً شائكة الا انها تتناولها في اطارها التاريخي والسياسي والاجتماعي من غير صراخ أو فجاجة. ربما تكون هذه الرواية ليست بالعمق الذي نجده عند كثير من الكتّاب المدهشين، الا ان ادهاش هذه الرواية في قولها المواضيع الكبيرة بلغة بسيطة وبشعور يصل الى درجات متدنية من الانفعال اثناء السرد. والاحداث التي أتت مصاحبة لاقتراب الحرب جعلت السرد يبدو متسارعاً، واستطاع الراوي إحداث تلك اللقطات السريعة بتكثيف لغة الحوار على حساب السرد، ومن هنا كان الانتقال من مكان الى آخر سهلاً وسريعاً. وربما يقرأ قارئ هذا العمل فلا يشعر به كما نشعر به نحن ومن هو في اجواء المكان، فأجواء المكان تخلق تآلفاً مضاعفاً مع الأحداث لا يعرفه الآخرون.