يوافق اليوم ذكرى مرور سنة على وفاة السيدة سلمى مروة، الناشرة الثانية لجريدتنا "الحياة" بعد زوجها كامل مروة، غفر الله لهما. من يذكرها غير أهلها الأقربين؟ أنا أذكرها، واختار من شريط الذكريات معها ما يلقي ضوءاً على شخصيتها النادرة. اغتيل كامل مروة في 16 أيار مايو 1966 وتحولت الست سلمى فجأة من سيدة صالون الى ناشرة صحف، فكانت تجلس في مكتب زوجها الشهيد ودمه ظاهر على السجادة حيث سقط، وتراجع عمل "الحياة" و"الديلي ستار" مع المحررين كل يوم. وهي ان كانت غير واثقة من نفسها، قدرة أو معرفة، فقد نجحت في اخفاء ذلك. كانت عبارتها المفضلة: "ما بدي كواع"، وهي عبارة تحتاج الى شرح، و"كواع" تعني منحنى في الطريق، ولعل الست سلمى كانت تحذر من استغلال الجريدة لأي اسباب خاصة، فقد كانت تريد جريدة مهنية صادقة مع نفسها، ومع الناس، تروج للحق والحقيقة كما تراهما، ولا تنحاز لفريق ضد فريق، او تستغل لمكاسب شخصية. كانت كلمتها المفضلة "وْلاد" أي "أولاد"، وكان تهذيبها يمنعها ان تقول كلمة أشد، مهما بلغ بها الغضب، فكانت تعبر عن استيائها بكلمة "ولاد". وفي حين كنا أولاداً في تلك الأيام، فهي كانت تصف الكبير والصغير في حال الخطأ بكلمتها المختارة هذه. ولعلها رحلت عن عالمنا هذا وهي لا تزال تعتبر ابنها البكر جميلاً، ولداً، مع انه كبر وشاب وأصبح رئيس تحرير وناشراً، يصدر أفضل جريدة باللغة الانكليزية في العالم العربي: "الديلي ستار". وكانت تقول لي: انت وجميل مثل الديوك. وقلت لها مرة: ولكن أنا الديك اللي معه حق. وردت: هو يقول عن نفسه كذلك. وأعترف بأن جميلاً كان معه حق في شؤون التكنولوجيا، فقد رأى قدومها قبلنا جميعاً، الا انني ما زلت مستعداً للجدل في الشؤون الصحافية الأخرى. وأحاول ان اكتب بكل المحبة التي احطنا بها الست سلمى وأحاطتنا، ولكن من دون مبالغة، وأقول ان بين أفضل ذكرياتي عنها يوم اخطأت، لا أصابت، فتعاملها مع الخطأ ينير جانباً مهماً من تعاملها الانساني. أرادت الست سلمى يوماً ان تنشر "الحياة" رداً على تصريح لوزير الداخلية في حينه، السيد كمال جنبلاط، ولكن من دون نشر التصريح. ونبهها رئيس الشؤون المحلية الزميل محمد الحوماني الى ان هذا لا يجوز مهنياً، فأصرّت على رأيها، من منطلق العداء السياسي وذكرى اغتيال زوجها، وأصرّ هو على رأيه، وانتهت المواجهة بتركه الجريدة غاضباً. وأدركت الست سلمى بعد أيام انها اخطأت، وطلبت من أصدقاء الطرفين اقناع الزميل الحوماني بالعودة، فعاد وكأن شيئاً لم يكن. على رغم الخلاف السياسي شاركت الست سلمى كمال بك بسمة كنت شاهداً عليها. وقد حدث يوماً ان وقع انفجار عند الحائط الخلفي للجريدة كان واحداً من اعتداءات عدة مماثلة وتطاير زجاج النوافذ، وأصيب بعض المحررين والعمال بخدوش طفيفة. وجاء وزير الداخلية بنفسه الى الجريدة للاطمئنان، ودار في المكاتب مع الست سلمى، وصعدا الينا في الطابق الثاني حيث مكاتب "الديلي ستار". والتقط مصور الجريدة صورة للناشرة والوزير وهما يتحدثان، ولمع "فلاش" الكاميرا، فإذا بأحد المحررين يصرخ "قنبلة" ويركض خارجاً، بعد ان شق لنفسه طريقاً بين الست سلمى وكمال بك. ونزل على الدرج وهو يصرخ "قنبلة". وضحكت الست سلمى، وضحك كمال بك، وكان نادراً ان يفعل. ولم يعد المحرر الى مكتبه بعد ان ادرك خطأه الا عندما غادر الوزير والناشرة المبنى. وعذره ان الانفجار الحقيقي وَمَض في عينيه فاعتقد "فلاش" الكاميرا انفجاراً آخر، ونحن نقول في لبنان "اللي حرقه الحليب، ينفخ على اللبن". ماذا أزيد؟ عندما توفيت الست سلمى قبل سنة، وصفت بأنها كاثرين غراهام العرب، فلم تنقض السنة حتى كانت ناشرة "واشنطن بوست" تلحق بناشرة "الحياة" الى رحاب رب رحيم. وتابعت تأبين كاثرين غراهام في كاتدرائية واشنطن، وشعرت بأن الكلام عن سلمى مروة. والسناتور السابق جون دانفورث، وهو قس، قال ان غراهام كانت امرأة قوية لم تغرّها اسباب قوتها. اما بن برادلي، رئيس التحرير التنفيذي مع غراهام فقال: ربما كنتم جميعاً لا تفهمون ما يحتاج اليه صنع جريدة عظيمة... انه يحتاج الى ناشر عظيم، فالناشرون العظام يساعدون المحررين والمراسلين على القاء ضوء ساطع على اكثر زوايا المجتمع ظلاماً...". كامل مروة كان في حينه ناشراً عظيماً، وخلفته زوجته ففاجأتنا جميعاً، وربما فاجأت نفسها، بالاغتراف من معين عميق من القدرة لم نكن نقدر وجوده. واليوم يصدر جميل كامل مروة "الديلي ستار" ناشراً ورئيس تحرير، وهي في مستوى الجرائد العالمية، أقضي شطراً من كل صباح معها على "الانترنت". أما "الحياة" فهي في يدي الأمير خالد بن سلطان، وهو "الناشر العظيم" الذي كان يتحدث بن برادلي عن دوره في اصدار جريدة عظيمة، فكامل مروة كان عظيماً في زمنه، وسلمى مروة كانت عظيمة بمنع يد الجهل والحقد من قتل الجريدة بعد صاحبها. وجاء الأمير خالد ليجعل "الحياة" جريدة عالمية تطبع في اربع قارات وتوزع في العالم كله، وتنقل وكالات الأخبار العالمية والصحف عنها اضعاف ما تنقل عن أي مطبوعة عربية أخرى بحسب احصاءات شركة لكسوس نكسوس. وقد عايشت "الحياة" أربعين سنة، ورأيتها تزداد قوة سنة بعد سنة، وهي اليوم مع الأمير خالد أقوى ما كانت منذ اصدارها سنة 1946، وستكون أقوى غداً. الست سلمى كانت الحلقة القوية التي منعت انقطاع السلسلة، وذكراها في القلب دائماً.