13 أيار XI طالباتٌ طلاّبٌ في ساحة دارتموث كوليج، حيث العشب فراشٌ تمدّه يد الأرض. يجلسون بين الكتب والدّفاتر والعُلَبِ وقناني الماء والكولا. جلوسهم سفَرٌ آخَرُ نحو ساحاتٍ أخرى. دَمُ اللّيل يجري مُضْطرِماً في عروق نهارهم، والفضاءُ، من كلّ صوبٍ، يتمدّد حولهم في سِرْوالٍ أخضر. لم يكن تمثال روبرت فروست البرونزيّ النّاهض بين الشّجر، بعيداً. كُدتُ أَنْ أتخيّلَ أنّ لشعره أجنحةً تُرفْرِفُ بين أكْتافهم. حولهم، تستسلم كلّ شجرةٍ لهوائها الخاص، والغصون تنْحني. في البُرْعم إشارةٌ تأخذُها بين أحضانها صورةُ الثمرة. طالباتٌ وطُلاّب يتبعثرون داخل المقهى وخارجه، حاملين في حقائبهم، ملاعقَ ونجوماً. آخرون يركضون، صدوراً مفتوحةً، وأفخاذاً عاريةً، هرباً من حدّةِ الشّمس التي تضربُ الأرض، أو يضعون الزّمنَ بين كتبهم ودفاترهم، كمثل خُبزٍ يوميّ. في قلبي صَخَبٌ يحول بيني وبين الدّخول الى قاعات الدّرس لكي أسمع ما يَلْغَطُ به الأساتذة. * السماء تقطرُ فوق "دارتموث كوليج" حروفاً إلكترونيةً، والآلات العاملةُ تجلس في صدارةِ الوقت. أتذكّر الحِبْر وأرثي لحالهِ، ولما آلَتْ إليهْ أدواتُه. وأكادُ أن أرَى تظاهُرةً مِن الورَقِ الأبيض تَسير في أروقة الكلّية، وأمامَ حوانيتِ هانوفر، وتهتفُ انتصاراً للحِبر والمحبرة، للقلم والريشة. أتذكّر الحِبْرَ، وبُقعَهُ التي كانت، باسْم العِلْم، تتلطّخُ بها أيدينا وثيابُنا، نحن الجيل الذي يكادُ أن يُباد. أتذكّر وأدعو الى إقامةِ ذكرى دائمة، تخليداً لكارثة الانفصال بين الحِبْر، وأصابع الطفولة. * صوتُ غرابٍ أسمعه، للمرّة الأولى، في أرجاء "دارتموث كوليج" كأنّه يسأل الصّنوبرة المائلةَ الرّأس: بماذا هَمسْتِ لجناحيَّ لكي يطيرا إليكِ، ولِصوْتي، لكي يَسْكَر بالهواءِ الذي تسكرينَ به؟ لِلإسْفَلْتِ رائحهٌ تَتَسلّقُ جُذوعَ الشّجر وأفخاذَ المارّة. * كلبٌ يلبس قميصاً يَجلس في المقعد الخَلْفيّ في سيّارةٍ تعرجُ، بطيئةً، تقودُها قُبّعة. * امرأةٌ على مقعدٍ خشبيّ طويلٍ يَتَمرْأى نَهْداها في سرابِ النّظَر. * من "دراتموث كوليج"، أرى إلى الفضاء كيف يَتحوّل إلى شُرْفةٍ وكيف يُصبح القلقُ سَقْفاً للعالم. وأرى إلى المحيطِ الأَطْلسيّ كيف يَضْطربُ، غادياً رائحاً، كأنّه رُبّانٌ ضائعٌ في سفينةٍ إلكترونيّةٍ تَعْتقِلُ السّماء. الطّرقُ دواليبُ والأفقُ شُرطيّ مُرور. وتنهض في عِرْق كلّ شجرةٍ فأسٌ بعلوّ الغيم. لا أتَنَبّأ، أخَطّط رُسوماً للجسورِ التي تَصِلُ بين مسْتنقعاتِ الفكر، وبُخارِ العمل، متوسّلاً إلى الغَدِ أنْ يُخفّفَ قَبْضة حديدهِ على حُنْجرتي. * لمَنْ هذا الصّوت الذي يرجوني أن أظلّ غامضاً هُنا، في "دراتموث كوليج"، وأن أغمرَ بغموضيَ كلّ شيء؟ أعرف أنّه ليس صوت برباره جيرستنر، ولا صوت هارل مونتغمري * أصْغ، أيّها الغيم، سأبقى وحيداً مع صَوْتي كمثل مغزلٍ في يد الرّعد. * 14 أيار XII "أوكام بوند"- تستيقظُ باكراً في عَباءةٍ من البُخار، بين يَديْ شَمْسٍ لم تكد تنهض من فراشِها، وأرى إليها من غرفة نومي، تتثاءَبُ وتفركُ عينيها. كلّ شجرةٍ تفتح ذراعيها، كلّ عشبةٍ تتنهّد، كلّ حصاةٍ تمسح عن وَجْهها برودةَ اللّيل. والماءُ لا يتوقّفُ عن وَسْوَسةِ الضّفاف. أغْصانٌ تتمرأى في تموّج الماء، طيورٌ تعبرُ حاملة بريدَ الفَجر، أشباحٌ تخرجُ في الضّباب، صاعدةً من أغوار البحيرة، تَرفع أقنعتها وَتُحاور الشّمس. أطْيافٌ تؤثِر، كما يبدو، أن تذوبَ في نارِ الشّمس على أن تعودَ إلى وطنها الأوّل. صَمْتٌ - كأنَّ الشّجَر لم يتعوّد بعد أن يتحدّث مع الهواء. غناءُ عصفورٍ يُلقي جناحيهِ على كتفِ البحيرة. يشقّ الغناءُ طريقه إلى أذنيّ، ثمّ، فجأةً، يتوقّف. الضّوءُ يمسحُ البخارَ عن وجه البحيرة، بيديه النّاحلتين، وها هو المكانُ يتحوّل إلى محيطِ ألوان. كُدْتُ، فيما أقِفُ على شُرفة "مونتغمري هاوس"، أن أخلطَ بين وجه الفضاء ووجه الحبّ، وألاّ أميّزَ بين الشمس والبحيرة وجسدي. * 16 أيار XIII فيما أخذت أتهيّأ لوداع "مونتغمري هاوس"، خُيّل إليّ أنني أسمع أسئلةً تنهال عليّ من كلّ صَوْب: 1. بماذا تفكّر تلك المرأة التي تسير صباحاً على ضفّة البحيرة برفقة كلبها؟ 2. أين غابَ ذلك الفضاء الذي كان وعداً للأجنحة التي ترفرف سجينةً في أحشائك؟ 3. لماذا لم تقدر الكتابة التي تمليها الشّمس أن تَفصحَ عن ليلك؟ 4. تبدو الرغبة كمثل جبلٍ تصعد إلى ذرواته، غير أنهّ ينقلب في صعودك إلى هاويةٍ تبتلعُ خطواتك. لماذا؟ 5. لماذا لا تكفُّ عن النّظر إلى الغيب يتمدّد نائماً بين ثَدْيي حجَرٍ أسود؟ 6. قلتَ أمس إنّك رأيت الآلة الأميركيّة كمثل لهاث تنّين يتحوّل إلى ريحٍ تلقّح الفصول. كيف؟ 7. "ماذا أفعل ومن أين أطلب الغفران إن كانت مشاعري وأفكاري تعيش في ما يشبه القَفْر؟": لماذا يشغلك هذا السّؤال كثيراً؟ 8. لماذا أنهيتَ حديثك أمس بهذه العبارة: "وطنٌ ليس فيه غير الدّخان. البشر أنفسهم دخان." 9. لماذا أكّدتَ في الحديث نفسه: "لم أكن، ولم أعشْ آملاً. ربّما لهذا لم أشِخْ بعد. اليأس فتوّة دائمة." 10. لماذا تكرر دائماً: "إمْرضْ، إنْ شئتَ أن تعرفَ مَنْ أنتَ"؟