في الظاهر هي رحلة الى مكان مجهول، مكان يقضي فيه الإنسان إجازة سعيدة، عطلة هانئة، يبتعد فيها عن المشكلات والأزمات التي تحاصره، لكنها في الواقع رحلة إلى مكان يجمع الخاسرين الذين انتهى مسعاهم في الحياة إلى الذل والإهانة والفشل، مكان مجهول لا نعلم موضعه، ولا يعلم الذاهبون إليه - بكل اختيارهم، وكامل إرادتهم - أين موقعه من الكرة الأرضية، ما يعلمونه أنه مكان ينتزعهم من مشاعر الإحباط والانكسار والانهزام، ويدخل بهم إلى عالم جديد، مختلف تماما عن العالم الذي جاؤوا منه، عالم لا محلّ فيه لدواعي الغيرة أو الحسد أو التنافس أو الصراع أو المطامح الكبرى والقضايا المصيرية، ولا يحتاج إلى تدبيرات أمنية أو حماية شرطة أو حراسة عسكر، والحرية فيه متاحة لكل الموجودين، إما أن يبقوا إلى الأبد أو يعودوا من حيث جاؤوا، فلا أحد يجبر أحدا على اتخاذ قرار، ولكن لا أحد يغادر هذا المكان، ولا أحد يعود إلى حيث جاء، والبقاء أبدي، ورغبات العودة، أو محاولاتها، سرعان ما تغيض في النفس، من دون ندم أو مرارة أو حتى تفكير طويل، كأنها قطرات طلّ سرعان ما تتبخر في ما يبدو على أنه صحراء مترامية حول هذا المكان المجهول المفعم بالخضرة، ولكنها ليست صحراء فهي تراب من نوع مغاير للتراب الذي نعرفه، أو التراب الذي منه جئنا، لكن من يدري لعلها تشبه التراب الذي سننتهي إليه يوماً ما، حين يقرر من بيده مفاتيح الغيب أن ينتهي كل شيء. في الظاهر، أيضاً، المكان مشروع سياحي ما بعد حداثي؟! يتناسب والتطورات التقنية لزمن ما بعد الحداثة، حيث أحدث مخترعات الراحة، وأحدث أساليب معالجة الأعصاب الممزقة، وأحدث تقنيات تطهير الوعي المرهق من كل رواسب ماضيه المقلق. وتدير المشروع مؤسسة "د.س" التي جعلت شعاره "الرحلة إلى المجهول". وبالطبع، فالنفقات باهظة، لا يقدر عليها إلا الأثرياء جداً، أو من يتكفل بهم ذووهم من الأثرياء الأقوياء جداً، أولئك الذين يرسلون أصدقاءهم أو معاونيهم الفاشلين إلى هذا المكان ليرتاحوا ويريحوا، حاملين معهم في رحلتهم "إلى المجهول" كل أسرارهم ومشكلاتهم كما لو كانوا يحملونها إلى القبر، فتنتهي العواصف المثارة حولهم والمشكلات المرتبطة بهم كأنها لم تكن، ويجدون من الراحة أو حتى المكافأة ما يكون بمثابة العزاء الذي ينسيهم كل شيء حتى هؤلاء الأصدقاء الأقوياء أو الأثرياء الأقوياء. ومن اللافت للانتباه أن العلاقة وثيقة بين هؤلاء الذين لا نراهم في المكان وطرائق إدارته والحيوات السابقة للمقيمين فيه أو المنتهين إليه. ولكن حضور هذا المكان المجهول الذي يكاد يشبه الجنة بكل ما فيه من وسائل الراحة وأدوات المتعة ما بعد الحداثية لا يخلو من معنى السخرية الرهيفة الماكرة، فالقائمون فيه ينالون كل ما يشتهون من متع الجنس أو الترفيه أو الاسترخاء أو اللعب أو اللهو أو الطعام أو الشراب، ويريحون أذهانهم تماماً من أي عارض مؤرق، وينتهون إلى عدم التفكير في ما يمكن أن يأتي، فليس هناك ما يمكن أن يأتي بعد أن أصبحوا على ما هم عليه، أو حتى فيه، وشيئاً فشيئاً ينسون مقاييس الزمن ومدلولات المسافة، كما لو كانوا بعض العدم المريح الذي يطبق عليهم كالسجن، والذي يتبادل وإياهم صفاته، فيستبقيهم أحياء لا كالأحياء، أناساً مثلنا لكن غيرنا، فهم لا يعرفون ولا يملكون القدرة على التمرد أو الرفض أو الفعل المخالف، أو حتى توتر تخيل مستقبل مغاير، والعمل من أجل تحقيقه، وهل يمكن أن يتخيل العدم سوى العدم، أو ينتج المحكوم عليه بالراحة الأبدية سوى الإذعان لسجن العدم المطلق؟! ترى ما الذي يقصد إليه فتحي غانم 1924-1999 من الذهاب ببطله يوسف منصور إلى هذا المكان الملتبس في روايته "الأفيال" التي صدرت عن دار "روز اليوسف" في القاهرة سنة 1981؟ هل يقصد فتحي غانم - في روايته التي صدرت قبل أشهر قليلة جداً من اغتيال السادات برصاصات جماعة من جماعات الإرهاب الديني - إلى أن بعض الفاشلين يفعلون ما تفعله الأفيال، حين تشعر باقتراب نهايتها، فترتحل إلى مكان مجهول، تعرفه بالغريزة، لتموت فيه؟ وهل تشير رواية "الأفيال" إلى ما يشبه مقبرة الأفيال في الدلالة التي لا تتباعد كثيراً عن معنى مقبرة الخاسرين أو الفاشلين؟ وهل كانت الرواية التي كتبت عنها مجلة "روز اليوسف" 21/9/1981 مؤكدة أن الأدب يسبق السياسة في تفسير التطرف الديني هي إرهاص فاجع - ولو على نحو غير مباشر- بكارثة اغتيال السادات؟ وهل كان فضاؤها الرمزي المشابه لمقبرة الأفيال هو الفضاء التمثيلي الذي يشير إلى نهاية كل الأطراف التي اشتركت في صنع ظاهرة التطرف، وأسهمت في إشعال فتنتها؟ وهل كانت النهاية نفسها تمثيلاً رمزياً للمصير الذي أصبح مقدوراً على صناع فتنة التطرف التي لم تُبْقِ حتى على الذين شجعوا وجودها، أو حاولوا استغلاله لصالحهم؟ وهل كان تعدد الشخصيات التمثيلية في مقبرة الأفيال إشارة إلى تعدد صناع الفتنة وتنوّع المسهمين في إشعال نارها؟ وهل كانت علاقة هذه الشخصيات بالشخصية الرئيسة التي ترى كل شيء بعينيها هي علاقة الأسباب بالنتيجة، أو علاقة المعلولات المتباينة بالنمط المحكوم عليه بسلبياتها؟ وهل يشير الحرفان الأولان من تسمية مؤسسة "د.س" التي تدير المكان المجهول الذي يذهب إليه البطل في رواية "الأفيال" إلى كلمتي "دار السعادة"؟ وهل يعني شعار "الرحلة إلى المجهول" الرحلة إلى العدم المريح، أو السعادة الأبدية التي لا يعكر صفوها شيء؟ ولماذا لا يخلو معنى "دار السعادة" من السخرية التي تناوش دلالات العدم المريح؟ هذه الأسئلة، وكثير مثلها، لا بد أن تخطر على عقل القارئ، وهو يتابع قراءة رواية فتحي غانم الفريدة: "الأفيال". مؤكد أن تسمية الرواية في ذاتها دال يتجاوب مدلوله مع بقية ما نطالع من دوال، على امتداد سياق الرواية التي لا يتعمد كاتبها الغموض المحيّر، بل يعين القارئ باستمرار، ويوجّهه في الاتجاه الذي يقصد إليه، وذلك بواسطة الدوال الكاشفة التي تتحول إلى نوع من "القرينة" البلاغية التي تهدي القارئ إلى حقيقة "المجاز" في الرواية. وعندما نضع دال "الأفيال" في علاقة مجاورة مع دورة حياة "يوسف منصور" التي يستعيدها في المكان المجهول الذي ذهب إليه، والذي يعرف فيه من خبايا علاقات هذه الحياة ومؤثّراتها ما لم يكن يعرفه من قبل، وما يكشف له عن أسباب فشله الكامل في هذه الحياة، بل ما يقنعه إقناعاً نهائياً بهذا الفشل، فإننا لن نتباعد كثيراً عن دلالة المقبرة التي تلجأ إليها الأفيال في نهاية مسعاها الحياتي، حيث ينتهي الأشباه والنظراء والأقران وكل ما ينطوي تحت عموم النوع المقصود. واللافت للانتباه أن هذه النتيجة لا تختلف في حالة كل الشخصيات التي سبقت يوسف منصور إلى دار السعادة الأبدية التي لا تعني سوى الموت. وإذا وضعنا في اعتبارنا أن النواة الدلالية التي تتولد منها كل أحداث الرواية ودوافع شخصياتها مرتبطة بمحنة الإرهاب الديني التي أفضت إلى اغتيال الأبرياء فإننا نلاحظ ما تبثّه النواة في كل ما يتفرع منها مهما تباعد عنها، وكل ما يشير إليها إشارة النتيجة إلى أسبابها، الأمر الذي يردنا إلى دلالة مركزية لمعنى المقبرة، خصوصا من منظور المجاز التمثيلي الذي يصل معنى المقبرة بكل الأطراف المنبثقة من النواة الدلالية نفسها، والمحكوم عليها - من منظور المجاز التمثيلي - بالمصير العادل الذي يستحقه كل طرف، روائياً، في مستوىات السرد المختلفة. هكذا، يغدو دال "الأفيال" نوعاً من المجاز الذي يدني بطرفيه إلى حال من الاتحاد على أساس من المشابهة المتصلة بالنهاية، أو الموت، أو آخر المكان من رحلة الحياة التي لم تخل من غواية أو غوايات، ومن سقطات أو انحرافات، أسهمت في تحديد زمن النهاية، وتعيين المكان الذي ينتهي إليه المطاف، حيث الموت المريح، أو السعادة الأبدية التي هي عدم محض، والتي ليس بعدها شيء، فهي النهاية التي ينتهي إليها المسعى الذي يحددها على شاكلته، والتي تقود إليها علاقات قوة هي بعض من فضاء نفوذها ومدى تأثيرها، والتي لا هروب منها لأنها الهروب الأخير والمثوى الأبدي وساحة تنفيذ الحكم النهائي، ومن ثم نقطة الوصول التي ليس بعدها رحيل. ولن يندهش القارئ الذي يعرف أعمال فتحي غانم من حرصه على تكرار دلالة تسميات بعينها، غير بعيدة عن مقامات الغواية، أهمها اسم بطل الرواية "يوسف" واسم زوجته "زينب" فكلا الاسمين مألوف متكرر في أعمال فتحي غانم السابقة، وذلك منذ رباعية "الرجل الذي فقد ظله" 1963 التي يرقب فيها يوسف تحولات الصحافة من حوله ويشارك فيها، ما بين العهد الملكي وعهد الثورة المصرية، بوصفه الصوت الواعد لعهد جديد، تماما مثلما يرقب "يوسف" في رواية "زينب والعرش" 1976 تحولات موازية في "عرش" الصحافة المصرية، عبر المراحل المتعددة لثورة تموز يوليو 1952 في علاقتها بالصحافة، ابتداء من تحولات البداية وانتهاء بسقوط التنظيم الطليعي ودلالاته. والمجال الذي يعمل فيه يوسف "الأفيال" لا يبتعد كثيراً عن المجال الذي يعمل فيه يوسف "الرجل الذي فقد ظله" أو يوسف "زينب والعرش". إنه كاتب مسلسلات وبرامج تليفزيونية في المجال الإعلامي الذي تغدو فيه الكتابة التليفزيونية وجهاً آخر من العمل نفسه، ومجلىً موازياً من "عرش" الإعلام الذي يضم الصحافة في الدفاع عن سلطة ما وتبريرها، والتورط في صراعاتها بوعي أو دون وعي، وعلى نحو مباشر أو غير مباشر. وأتصور أن الإلحاح على تسمية "يوسف" ليس بعيداً - في ترابطاته الدلالية - عن الإلحاح على دلالة الغواية التي يقع في حبالها نوع بعينه من البشر، أو يواجه سحرها، فإما أن يخرج سالماً، منتصراً، واعداً، وإما مكسوراً، مهزوماً، محطَّماً، يطارده الإحساس بالعجز والشعور بالفشل، ويمتلئ وعيه برؤية النهاية التي لا ينقذه من عذابها سوى تحقق رغبة الانسحاب من أرض المعركة، والهرب من مواجهة تبعاتها. والخلاص بالموت أو الانسحاب من المكان له معنى واحد في هذا السياق الذي يتخلق فيه دافع "الرحلة إلى المجهول" كما يتخلق دافع الانتحار أو الخلاص بالموت الذي ينتهي به كل شيء، فلا يبقى سوى الراحة الكبرى لمن يتطلع إليها.