حظر مجلس الأمن المركزي اللبناني، وهو يضم الى وزير الداخلية والبلديات بعض أعلى الرتب الأمنية والعسكرية والعدلية، في بيان عن اجتماعه في 10 آب اغسطس الجاري غداة تظاهرات التنديد بتوقيفات اليومين السابقين، حظر "إقدام أي حركة غير مرخص لها، ولا تعترف بالنظام اللبناني، أو بشرعيته وسلطاته ومؤسساته الدستورية" على الاجتماع والتظاهر والإضراب وتوزيع النشرات والخطابات والشعارات "وغيرها، بما ذلك المشاركة في أي نشاطات ذات طابع سياسي أو إعلامي، أو استغلال أي مناسبات عامة أو خاصة...". وكانت مقدمة البيان، وبنوده الثلاثة التنفيذية، أسندت حظر قيام الأحزاب المنحلة "بأي شكل من أشكال الاجتماع والتظاهر..." وحظر "إقدام أي حركة غير مرخص لها... على أي شكل من أشكال الاجتماع..."، الى مرسوم جمهوري صدر في أواخر عام 1959 عن فؤاد شهاب، رئيس الجمهورية يومذاك، غداة "ثورة" 1958 أو "حوادثها". وقصد المرسوم العتيد بالأحزاب المنحلة والمحظورة وغير المرخصة الحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة لبنان في حزب البعث العربي الاشتراكي والحزب "السوري" القومي الاجتماعي وحزب التحرير الاسلامي وحركة القوميين العرب. أما مجلس الوزراء الذي كان يرئسه رئيس الجمهورية حكماً ولا يجتمع في مقر خاص به ولا برئيس غير رئيس الجمهورية، فكان يضم رئيس حزب الكتائب اللبنانية بيار الجميل والحزب التقدمي الاشتراكي كمال جنبلاط الى آخرين. وتنبِّه المقارنة بين بيان اليوم ومرسوم الأمس الى مفارقة تاريخية وسياسية ثقيلة. فمن يظن فيهم مجلس الأمن المركزي اليوم إنكار "النظام اللبناني وشرعيته وسلطاته ومؤسساته الدستورية" إنما يتحدرون على نحو أو آخر من الذين رعوا إصدار المرسوم الجمهوري العتيد وكانوا مرجع قرار حظر التظاهر والقول وإعلان الرأي والتجمع. فهم، المحظور عليهم الرأي والاعتقاد والتعبير من قواتيين و"عونيين" و"أحرار"، "أولاد" الرابطة الوطنية والسياسية اللبنانية الدستورية والكتلوية والكتائبية والشهابية. وهم ركنها التاريخي. أما مجلس الأمن المركزي، وقبله وزير الداخلية الذي يرئسه، فسنده السياسي والتمثيلي النيابي والشرعي المفترض هو المنظمات التي تناولها المرسوم الجمهوري العتيد، قبل اثنتين وأربعين سنة، بالحظر. فهذه المنظمات، والقوة النيابية لها، هي "سورية" قومية وعروبية بعثية وناصرية و"إسلامية" بلدية وعامة. وهي تنكر شرعية الرابطة الوطنية والسياسية اللبنانية، وقيامها بنفسها وما يترتب عليها من التزام ولاء جامع وواحد. وليس تعلل بيانات وزارة الداخلية والنيابة التمييزية والجيش بعلل "إقليمية" مثل الانتفاضة الفلسطينية و"الأوضاع الحساسة" و"تحديد العدو من الصديق"، وتوقع "تغيير في موازين القوى" الى "اهانة مقامات"، وتسويغ الاعتقالات بخروج المعتقلين عليها، ليس التعلل هذا إلا عبارة "تجميلية" عن انزال الرابطة الوطنية والسياسية اللبنانية منزلة ثانية وتقديم ولاء اقليمي على الولاء الوطني والدستوري. فمن يُحملون على الخروج على "الشرعة" اللبنانية، اي على الدستور الذي أنشأ الدولة اللبنانية وأرسى سيادتها على مواطنيها وبإزاء السيادات والدول الأخرى، يَحملهم على هذا الخروج من يعرِّفون ركن الشرعة والدولة بعلاقات مميزة مع دولة أخرى، أجنبية حكماً، وينيطون الأمن العام والسلم الأهلي والسياسة القويمة بقبول كل من تستتبعه العلاقات المميزة هذه من غير تمييز. أما التهمة التي تتهمهم بها "الدولة"، أي جهاز الحكم القائم، فهي تناولهم العلاقات المميزة، المتسلطة من وجه والمذعنة من آخر، بالنقد، والتنديد بنتائجها المدمرة مثل الفساد الاجتماعي والسياسي المستشري والهجرة النازفة وتآكل مباني الدولة وتصدعها. ومصدر هذه المفارقة، وهي تصبغ بصبغتها وجوه الحياة اللبنانية، هذا المصدر هو "الحرب" وحقباتها وعواملها الفلسطينية والسورية والاسرائيلية و"العربية" الليبية والعراقية... والدولية، والداخلية من غير ريب. والجهاز الحاكم في لبنان، على مختلف روافده المتقلبة، لا يقر ب"الحرب" مصدرا ووالداً، ولا يقر من باب أولى باقتصار أدواره ووظائفه على تثبيت نتائج هذه الحرب على الحال التي جمدها عليها اتفاق الطائف أو على حال أضعف منها وأقل استقلالاً وسيادة ووحدة وتماسكاً. وينسى الجهاز الحاكم مصدره الحربي، فيؤدي به نسيانه الى إشهاره على الملأ طعن بعضه ببعض، وتسفيه بعضه بعضاً، وهو يحسب انه يطعن أعداءه ويسفههم. فكلام مجلس الأمن المركزي، وقبله كلام وزير الداخلية رئيسه، على "تاريخ تلك المجموعات وقياداتها القريب" وشهوده لها "بتدمير البلاد بالقتل والدم والخطف والدمار"، واستباحتهاوانتهاكها "كل شيء"، وقتلها الحرية "قولاً وفعلاً" - يَغفل الكلام هذا عن أن أولي الأمر الذين يتربعون في مجلس الوزراء "مجتمعاً" إنما يتحدرون نسباً وحسباً من الذين أبلوا في الاقتتال الداخلي، الظاهر أو المستتر، البلاء الحسن. ولا يبدل تنصل السيد اميل لحود، رئيس الجمهورية، في جلسة مجلس الوزراء على حسب محضر صحيفة السيد رفيق الحريري، "المستقبل"، في 10 آب/اغسطس من الولوغ الشخصي في فصول الحرب، شيئاً. فالذين يصدر عنهم، من مرجحين وناخبين ومقترعين وأهل عقد وعهد، ليسوا "ناشطي بيئة ولا دعاة حقوق انسان"، على ما جاء في "نشرة توضيحية" أذاعتها قيادة الجيش ولم تمسك نفسها فيها عن السخرية اللاذعة. ولم يتكتم وزير الاعلام، وهو جنبلاطي مقرَّب وداعية علاقات مميزة، لا عن نسبه الحربي ولا عن عقيدته الاقليمية. وكان يسع غير وزير، وغير اداري أو عدلي أو أمني، الإدلاء بالدلو التي أدلى بها لسان مجلس الوزراء. ولكن ما أنسى الهيئة الأمنية مصدر المرسوم الذي لوحت به بوجه أعداء "النظام اللبناني" أنسى القيادات السياسية الأمنية والعسكرية والعدلية سندها التاريخي والحربي القريب. وهذا قرينة على أن الجماعات الحاكمة - وأظهر محضر اجتماع مجلس الوزراء في 9 آب انها كتل مختلفة ومذاهبها السياسية شتى شأن المعارضات، وربما على قدر أكبر وأفدح - لم تخرج من الحروب "اللبنانية" الماضية ولا تريد الخروج منها. فالميثاق التي خرج به مؤتمر مدينة الطائف، وما نجم عنه من دستور جديد وعفو عام وهيئات سياسية وطاقم سياسي لم يجبَّ ما قبله من عداوات ولم يُلغِه، ولم يجعل تحت قدمي الدولة الدماء التي سفكت والأرزاق التي دمرت. فالسيد سليمان فرنجية، وهو رئيس جمهورية آتٍ إذا قيض للعلاقات المميزة أن تستمر، يصم في مجلس الوزراء أعداء أهله بالمجرمين وينسب أهله، وهم رؤساء عصب من المسلحين والمقاتلين بدورهم، الى الطهر والنسك. فهو، وزيراً و"منصباً" من مناصب الدولة، يطلب الثأر لأهله، ولا ينعى على الأجهزة إلا ارتباكها وتورطها في مسلك وعر ومتناقض. ولا يصنع غيره من الوزراء، وبينهم أولهم، غير ما يصنعه هو. فحرصهم على "الأخوَّة" يفوق حرصهم على سيادة الدولة وحمايتها حقوق المواطنين ومساواتهم. وكلهم يقدم لقوله بإعلان خصومته الموقوفين وآراءهم، ويسوغ تحفظه، إذا كان متحفظاً، بخشيته أن يؤدي التوقيف، على النحو الذي جرى عليه من غير مذكرات أو استنابات قضائية في اليوم الأول، وضرباً وركلاً في اليوم الثاني، الى "تقوية" الموقوفين وأحزابهم وحركاتهم. فليست حقوق المواطنين والمساواة فيها وحمايتها هي سائق "الدولة"، أي الجماعات الحاكمة وأجهزة حكمها. والتذرع الى الطعن في الاجراءات الأمنية الأخيرة بذريعة عملية أو سياسية، غير حقوقية ولا دستورية، يشترك مع "الدولة" هذه في منطقها ومقدماته، ويشترك معه في إغفال مصدرها الحربي والأهلي واستمرارها على الحرب التي ولدتها وخلعت عليها السلطةَ خلعة ومنحة. ولعل سكوت الجماعات السياسية العروبية، اسلامية أو "علمانية"، حاكمة أو معارضة، عن سياسة الحكم الأمنية والقضائية العدلية والاعلامية، دليل جديد على قيام "الدولة" على انقسام اللبنانيين انقساماً عصبياً و"قومياً"، وعلى قسمتهم قسمة عصبية وقومية. ولم يتستر السيد وليد جنبلاط، الزعيم الدرزي، على هذا الأمر، ولا على قبوله به ورضوخه له. فهو يقر للسياسة السورية في لبنان ب"حقوق" استراتيجية وأمنية غير منقوصة. وتقتصر معارضته الى دعوة على تهذيب مباشرة هذه الحقوق ومزاولتها، على ما صارح البطريرك صفير وهو يستقبله في المختارة. أما الجماعات الأخرى فلا تتحفظ تحفظ السيد جنبلاط. وهي تحمل ربما تحفظ الزعيم الدرزي على رعاية مصالح عصبية وأهلية، وعلى نهج بارع في مفاوضة السياسة السورية. ولعل "مصالحة" الشوف - وبنودها إقرار البطريرك الماروني بارتكاب رعيته "أخطاء" سوداء يُغفر لمن حرَّض عليها، على قول ضعيف للبطريرك، لقاء غض الجماعة الدرزية النظر وطي صفحة الكلام على الماضي - مثال على رعاية هذه المصالح وعلى نهج المفاوضة هذا. ولا يذهب السيد رفيق الحريري، رئيس مجلس الوزراء، مذهباً مخالفاً على رغم وصفه عملاً عسكرياً أول ل"حزب الله" بالاستفزاز وحمله عملاً آخر على خطأ في التوقيت، وهو العليم بمن يتطاول اليه، وراء "حزب الله"، الوصفُ والحمل. فهو ينكر على المستثمرين وأصحاب الرساميل اللبنانيين "ثمناً سياسياً" لقاء استثمارهم رساميلهم في لبنان، ولو كان الثمن هذا قيداً على أعمال الجهاز العسكري والأمين "الاسلامي" في لبنان، أي ضماناً لاستقلال السياسة اللبنانية عن التوسل الاقليمي المتصل والمزمن بها. وهو يعيب على المستثمرين هؤلاء، ويكاد لا يكتم صفتهم الدينية الطائفية، ضعف الوطنية. ومؤدى هذا ان السيد الحريري، شأن السيد جنبلاط، يرتضي الإطار الاقليمي، على ما هو عليه منذ نيف وعقد وعلى رغم جره على اللبنانيين العالة المفسدة والديون والهجرة والتصدع، أفقاً لا يُتخطى. وتكذب سياستا السيدين الحريري وجنبلاط الآمال التي تعلقها بعض المعارضة اللبنانية على الرجلين وسياستيهما. وتكذبان كذلك بعض مزاعم هذه المعارضة. فتحفظ السيد جنبلاط ليس ديموقراطياً، بل هو أقرب الي تحفظ الكبراء والأشراف والأعيان على استبداد سلطان مركزي ينزع الى استتباع العصبيات ورجالاتها. أما تحفظ السيد الحريري فهو عن إظهار الاجراءات الأمنية رئيسَ مجلس الوزراء بمظهر رجل الحكم الضعيف السلطة والكلمة وغير القادر على الوفاء بعهود صريحة تعهدها في شأن التنصت والاعلام. أما مزاعم المعارضة التي تكذبها سياستا الرجلين، وحال الجماعات الحاكمة عموماً، فمنها رأيها في "العسكرة" أو في "الابتلاع". ف"الدولة" على الصورة التي بدت عليها في مرآة مجلس الوزراء، وفي مرآة شاشات التلفزة والصحافة، أعجز عن الاضطلاع بحكم قوي، ولو شاءت. فهي ليست واحدة، ولا يسعها أن تكون واحدة وهي المؤتلفة على غير اجتماع من مصادر أهلية كثيرة ومن مصالح متنافرة. وليس ثابتاً أن مصلحة السياسة الاقليمية التي خلعت عليها الحكم هي في جمعها وتماسكها. أما الابتلاع، فيفترض تخلق اللبنانيين بثقافة سياسية واجتماعية كتلك التي انتهى اليها المجتمع العربي السوري قبل دخوله الليل الذي دخله قبل عقود. ولا ريب في أن هذا التخلق يدب في الجسم اللبناني دبيباً مخيفاً. ولعل إذعان الأهالي وجماعاتهم للاعتقالات، وتسليمهم بها، قرينة على هذا الدبيب. ولا ريب كذلك في أن بعض الأعلام والوجوه هم ولائد ثقافة سياسية واجتماعية كتلك التي مكنت الأمر للساسة الاقليميين في مجتمعهم. والنهايات والخواتم التي آلت اليها السياسات "الاصلاحية" منذ نحو ثلاثة أعوام، أو أقل بقليل، آية على إصابة السياسة اللبنانية بفُصام يسلمها الى حال قريبة من الهذيان المحموم إذا لم تكن الهذيان نفسه. فالاصلاح الاداري أفضى الى تفاقم الحاق الادارة والانفاق العام بالعصبيات ولفِّهما بكفن الحروب الملبننة وذيولها" والاصلاح المالي والاقتصادي غرق في لجة الديون والدولرة وخسرت العملة الوطنية بقايا الثقة فيها، وهي ثقة في الرابطة الوطنية والاجتماعية وفي الدولة التي تمثلها وتمثل عليها" و"عودة" المهجرين المسيحيين الى الشوف، على رغم تعهد السيد لحود الأمر، تحولت الى نصر جنبلاطي خاص، وفرمان توحيد فروع الجامعة اللبنانية في بيروت، على مثال توحيد الجيش، تبدد تبددَ الغيمة الصيفية. وفوق هذه كلها عزل "تحرير" الجنوب اللبناني الشيعة ومنظماتهم السياسية عن عامة اللبنانيين، وأمعن في إلحاقهم بالسياسة الاقليمية، وجَعَلهم عالة معلنة ودائمة على المجتمع والدولة. فكأن كل ما يلمسه "العهد" يستحيل ذهباً، وكل مغامرة يركبها تؤدي الى ارتدائه البنطال على عجل، على ما يقول الفرنسيون. وليس ثمة ما يؤذن بمآل آخر لل"مؤامرة" وفصولها المتناسلة يوماً بعد يوم. * كاتب لبناني.