قد تكون "القيادة" السورية أرادت فعلاً وحقاً جعل العلاقات السورية اللبنانية، المشكلة والمعضلة، محور الانتخابات النيابية العامة في لبنان، وقد يكون الأمر فُرض عليها ولو بعض الفرض، وجرَّت إليه ملابسات كثيرة ليس أقلها أثراً اختيار هذه القيادة رجلاً مثل العماد إميل لحود، قائد الجيش السابق، رئيساً للجمهورية. ولعل من القرائن على مكانة هذه "القيادة" وسياستها في عقول اللبنانيين وتصوراتهم، ذهاب كثرة من المعلقين المحليين الى نزول الحوادث السياسية اللبنانية على خطط الساسة السوريين وانطباقها عليها، في كل الأحوال. فإذا ساد الهرج الإعداد للمرحلة الأولى من الانتخابات، وعلا الصياح والنقد والإنكار، وانقسم السياسيون والمرشحون والإعلاميون الى أهل ولاء متعصب وأهل رفض لا يقل تعصباً، قرأ المراقبون المحترفون دلائل على ترك الساسة السوريين "الحبل" اللبناني على غارب أهل الحكم المحليين، وأولهم الرئيس لحود. وألقيت التبعة عن الهرج واحتداد الخصومة والعداء على أهل الحكم وسوء تدبيرهم، إذا هم أخرجوا عنوة من رعاية الوصي عليهم. ورأى المراقبون في ما كان يجري حكمة ودراية عظيمتين. وتنبأ بعض المراقبين المحترفين باسترداد الساسة السوريين "الحبل" أو الملف بعد أن يكون الدليل القاطع قام على قصور "القيادة" اللبنانية، وعلى تخبطها، إذا انشغلت دمشق عن إرشادها، أو اضطرت الى الغفلة عنه. ولكنّ تكشفَ الهرج والمرج الانتخابيين، غداة الدورة الأولى في 27 آب اغسطس، عن تصدر السيد وليد جنبلاط، الزعيم الدرزي والجبلي جبل لبنان، كتلة كبيرة من النواب الفائزين، وحصاد السيد رفيق الحريري، رئيس الحكومة السابق و"إبليس" حكومة السيد لحود منذ سنتين ومرجومها ومحط الآمال في زعامة سنية متجددة، الترشيح الى رئاسة الحكومة - هذه كلها بدلت المعنى السابق المفترض للسياسة الانتخابية. فإذا كان ترك الساسة السوريين "الحبل" اللبناني على الغارب اختباراً أدى الى خسارة السياسة السورية بعض حلفائها وصنائعها البارزين، ونجم عنه جعل سيطرتها على لبنان محور الانقسام اللبناني المعلن والمستنكر، فمثل هذا الترك دليل حاسم على ضعف دراية، وتعثر قد تترتب عليه نتائج ثقيلة وعواقب خطيرة، ليس تبلور ميثاق مسيحي وإسلامي لبناني على الخروج من الوصاية أقلها خطورة. ونسبة ضعف الدراية والتعثر الى "القيادة" أمر لا يجوز في ملّة مخمِّسي الافتتاحيات العصماء والبيانات البليغة في حكمة القادة والساسة والأوصياء. فينبغي، على هذا، أن يكون الإعداد للانتخابات ودورتها الأولى، ودورانُ بعض فصولها ونتائجها على التحفظ عن استتباع لبنان ومصالحه، من تدبير الساسة السوريين أنفسهم. فهم أدركوا، بثاقب نظر اقليمي أي لبناني ولا يتعدى لبنان عُرِفوا به، أن حظوظ سياستهم اللبنانية في الاستمرار والدوام رهن بمماشاة مسيحية طوعية و تلقائية، الانتخابات النيابية فرصتها العاجلة. فكانت التخلية دون الأحلاف الجنبلاطية والمسيحية في جنوب الجبل، وفك الخناق عن التمثيل الماروني من طريق "معتدلين" يغلبون المسائل الداخلية على مسألة السيادة في شمال الجبل، والمزج بين أجيال ومذاهب مختلفة من العصبيات في الشمال اللبناني المركب والمتنافر - كانت هذه بعض آلات استدراج المماشاة، من غير ترتيب خطر على عموم الوصاية والسيطرة. وأسرع ساسة سورية الى الإعراب عن وجوب الأخذ بهذا التقويم. فنقل عنهم "زوار العاصمة السورية" "ارتياحهم الكبير الى نتائج الانتخابات الأخيرة، وتقديرهم لطريقة إدارة وإجراء الانتخابات". وذهب "الزوار" الى أن الساسة والقادة الذين ينقلون عنهم يرون الى "ما حصل دليلاً على نجاح النهج الجديد في التعامل السوري مع الملف اللبناني، وعلى ضرورة أن يمضي اللبنانيون في الإمساك بقرارهم الداخلي من دون تدخل..." "السفير" البيروتية، 31 آب. وكان نَقَل عنهم معلقون إرادتهم التوسل بالانتخابات اللبنانية الى الإعلان على الملأ الإقليمي والدولي، الأميركي والأوروبي، انتهاجهم سياسة جديدة بعيدة من السابقة والمعهودة. وهذا صيغة متجددة من مخاطبة هارون الرشيد الغمامة المترددة في إنزال مطرها ومائها، وطمأنته إياها الى أن خراج مطرها، أينما امطرت، عائد إليه وإلى بيت ماله. فدأب أهل السلطان العميم الاعتداد بسلطانهم وطالعهم، ولو عشية إطاحتهم. ومن وظائف الإعلام في المجتمعات التي تساس بمثل هذا السلطان تطمين أهله الى قوة شوكتهم وسعد طالعهم. وعلى خلاف أهل السلطان احتفلت معظم المعارضات اللبنانية، على اختلاف ألوانها ومشاربها، بنتائج انتخابات الدورة الأولى. والحق أنه احتفال انتقائي واستنسابي. فعلى حين أطنب من توجه إليهم السيد وليد جنبلاط بالمخاطبة والدعوة - وهم السياديون أو دعاة استعادة السيادة اللبنانية من الوصاية السورية، ومعظمهم من الناخبين المسيحيين - على حين أطنب هؤلاء في مديح العناصر السيادية والوطنية اللبنانية، قدّم شطر آخر من حلفاء السيد جنبلاط، أولهم السيد رفيق الحريري وأنصاره، العناصر "الديموقراطية" أي المنكرة على ساسة لبنان و"قيادته" تسخيرهم أجهزة الأمن والإدارة في خدمة أنصارهم ومحازبيهم ومشايعيهم على الولاء. والإثنينية الجنبلاطية هذه قرينة ربما على إصابة الحياة السياسية اللبنانية بازدواج قريب من الفصام. فيغفل السياديون الوطنيون عن تصدي زعيم درزي يتصدر عصبية أهلية متماسكة، هي آخر العصبيات المحلية من هذا الضرب، الى الكلام بلسان التيار السيادي الوطني، ومعظم قاعدته وأنصاره من الناخبين المسيحيين. ولا يسوغ مثلُ هذا التصدي، على تفاوت بين القيادة وبين القاعدة، إلا في إطار نظام للحياة السياسية يولّي القيادة والصدارة لجماعة مخصوصة من الأعيان والوجهاء. ويمنع هذا النظام العروبي القاعدة من اختيار قيادتها وممثليها من صفوفها هي، ومن داخل هذه الصفوف. فلا يجرؤ على الجهر بالمطالبة السيادية، ولا على تفصيل تكلفة التبعية الباهظة اقتصاداً واجتماعاً وتعليماً وهجرةً، سياسيون مسيحيون اختبروا قبل السيد وليد جنبلاط بوقت مديد ثمن التبعية الباهظ والقاصم. وليس ضعف الجرأة المقصود أدبياً ومعنوياً وحسب، بل هو وظيفي و"نظامي". وهو، أي ضعف الجرأة، يترتب على قسمة سياسية، تقوم من النظام السياسي العروبي مقام الركن، بين الهوية السياسية "القومية"، من وجه، وبين التمثيل السياسي والاجتماعي، من وجه آخر. فيوكل تمثيل الهوية "القومية" المفترضة الى قوم بعينهم، بعضهم صنائع السياسة والوصاية العروبيتين وبعضهم الآخر أولياء عصبيات أهلية قوامها ولاء عروبي متوارث. وكفة هؤلاء هي الراجحة في ميزان السياسة العامة ومراتبها. ويوكل التمثيل الإداري، إذا صحت العبارة، والتمثيل الإجتماعي والبلدي، إلى سياسيين أهليين من صنف أدنى. وعندما يرفع السيد وليد جنبلاط لواء السيادة الوطنية اللبنانية، ويتابعه سياسيون مسيحيون قادوا حملاتهم الانتخابية على هدي برامج إدارية واجتماعية وبلدية وسياسية تنظيمية وأحجموا عن تناول مسألة السيادة ومفاعيل الإدارة السورية في التصدع اللبناني العام، فالأمر لا يعدو، بشقيه، التزام قسمة الاختصاص والعمل العروبية أي السورية. ولعل إحجام الشطر المسلم من الزركشة الجنبلاطية عن استعادة الشق السيادي من نقده ومطالبته، أي سكوت إعلام السيد الحريري عن كل ما يعلو صوت السيد جنبلاط السيادي الوطني به، علامة على مفعول القسمة العروبية والالتزام به. وما جهر الزعيم الدرزي والجبلي فرحه به في دائرة نفوذه وصدارته، مثل اختياره حلفاءه حراً وإخراجه السيد زاهر الخطيب من لائحة مرشحيه، لا يثقل على السيد الحريري ولا ينيخ عن كاهله. فمرشح السيد جنبلاط الى رئاسة الحكومة العتيدة، أي الزعيم السني العائد، لا يظهر برماً بمرشح شيعي يتقدم السيد الخطيب حظوة عند صناع النيابات اللبنانية. وإلى يوم قريب كان قصارى مرشح السيد جنبلاط الى المقعد الدرزي على لائحة الحريري البيروتية التنديد بالمتحفظين عن دوام "مرابطة" الجيش السوري في الدولة والإرادة اللبنانيتين. وجلي أن احتجاج السيد جنبلاط للسيادة اللبنانية، وللجماعات والأحزاب اللبنانية على اختلاف مشاربها، لا يتطرق الى وقائع العدوان عليها والانتقاص منها، ولا يتعدى التنديدَ الحالي الى التأريخ لقسمة السياسة اللبنانية. وهذه القسمة يرسي عليها الزعيم الدرزي تصديه الى المطالبة بالسيادة نيابة عن سياسيين مسيحيين يشيحون بنظرهم خجلاً حين يطرح الأمر على التداول، ويفيضون في الكلام على "الديموقراطية" و"الإنماء" وكأن الأمرين ممكنان وجائزان في بلد سياسته وقف على صنائع ومصطنعين. وليس وقوف السيد جنبلاط في مسألة القسمة العروبية للسياسة تفصيلاً أو مسألة ثانوية. فهذا الوقوف يبلغ بالمعارضة اللبنانية الداخلية مبلغاً أو حدّاً لا يتجاوز عقلنة التبعية، وربما "تحديثها"، على ما يكثر كلام سوري جديد من القول. ويصدر هذا الكلام عن جناح من الأجنحة المؤتلفة الى اليوم. وعلى هذا فافتراض الحكمة والتدبير في الهرج قد لا يكون ادعاء محضاً، على ما زعمت هذه العجالة... * كاتب لبناني.