فجعت تركيا الاسرائيليين بموقفها الواضح من سياسة آرييل شارون ضد الفلسطينيين، وتحذير رئيس الوزراء بولنت اجاويد من ان العلاقة بين البلدين ستتأثر سلباً. وقد انتهت الزيارة قبل أيام، الا ان التعليقات الاسرائيلية عليها والتحليلات مستمرة. في نهاية الشهر الماضي، كتبت "يديعوت اخرونوت" مقالاً افتتاحياً بعنوان: "حلف الديموقراطيات" دعت فيه الى اخراج البلدين تحالفهما الوثيق الى العلن، وقالت انهما معاً يمثلان أمل الغرب في شرق اوسط جديد. وهي تحدثت عن علاقة تتجاوز الأمن ضد تحالف محتمل من العراق وإيران وسورية، الى تعاون اقتصادي يشمل استثمارات مشتركة وغير ذلك. الجريدة نفسها عادت بعد زيارة شارون الأسبوع الماضي لتقول ان العلاقة الخاصة مع تركيا في خطر، وتحدثت عن تحذيرات اجاويد، وشارون الى جانبه في مؤتمر صحافي مشترك، من ان عدم فتح حوار مع الفلسطينيين يعرض العلاقات الى الخطر، ويؤذي كل ما تحقق بين البلدين من تقدم في السنوات الأخيرة. وقالت "جيروزاليم بوست" ان المراقبين صدموا بلغة اجاويد الصريحة غير الديبلوماسية. الاسرائيليون صدموا، فالواقع ان حساسية العلاقات العربية التركية، أو الأزمات احياناً، تخفي ان تركيا وقفت دائماً الى جانب العرب في القضايا الكبرى، من رفض تقسيم فلسطين بالتصويت مع العرب سنة 1947، الى معارضة غزو سيناء سنة 1956، الى رفض ضم الأراضي المحتلة سنة 1967، والاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً وحيداً للفلسطينيين، ثم الاعتراف بالدولة الفلسطينية في اليوم الأول لاعلانها في الجزائر سنة 1988، ورفض احتلال الكويت سنة 1990، والمطالبة بانسحاب القوات العراقية وعودة الشرعية اليها. ربما فوجئ المواطن العربي ان يسمع ان تركيا وقفت دائماً الى جانب قضاياه الكبرى، فما يغلب في موضوع العلاقة مع تركيا هو تعاونها مع اسرائيل، وأهم ما فيه تعاون عسكري يشمل مناورات مشتركة، وفتح الأجواء التركية للطائرات الاسرائيلية، وغير ذلك من تفاصيل معروفة ومسجلة. ويصعب إزاء العلاقة هذه مع تركيا، وهي تاريخية متشابكة متعددة الأطراف، ان نحدد المسؤول عن الأخطاء التي ارتكبت، فالطرفان ارتكبا اخطاء، ولكن اذا نظرنا الى ميزان الأخطاء نجد ان العرب ارتكبوا منها أكثر مما ارتكبت تركيا، ولعلهم مسؤولون عن دفعها الى تعاون مع اسرائيل انتهى بتحالف استراتيجي، وقد وقف العرب او الناصريون عندما كانوا غالبية العرب مع اليونان ضد تركيا، ومع الأرمن ضد تركيا، ومع الأكراد ضد تركيا. وإذا كان هذا العداء وحده لم يدفع تركيا الى حضن اسرائيل، فان تركيا شعرت بحاجتها الى اللوبي اليهودي في الولاياتالمتحدة لمواجهة اللوبي اليوناني واللوبي الأرمني، وكلاهما نافذ مؤثر، وهي ادركت ان اللوبي اليهودي يكفي لمساعدتها مع الادارة والكونغرس، فلا تحرم من المساعدات العسكرية او الاقتصادية. اليوم لا يوجد سبب يمنع قيام علاقات وثيقة على كل صعيد بين تركيا والدول العربية، بل أزعم ان قيام هذه العلاقات ضروري للطرفين، وفيها للعرب فائدة اضافية هي تجميد الحلف التركي مع اسرائيل عند حدوده الحالية، فلا يزيد. وكان الأمير خالد بن سلطان كتب في "الحياة" في أيار مايو 1997 مقالاً طويلاً عن العلاقات مع تركيا بعنوان: "الصداقة موقتة، والعداوة موقتة، ولكن المصالح دائمة"، شكا فيه من ان السياسة العربية تنقصها الديناميكية وسرعة التعامل مع المتغيرات، وانها تقصر في ادارة الأزمات. الا ان الأمير خالد أكد ان الوقت لم يفت لإقامة علاقة وثيقة مع تركيا، وهو اقترح خطوات محددة اختار منها باختصار: يجب ان نضع المصالح الاقتصادية المتبادلة في المقام الأول من علاقاتنا، والا يكون حجم التبادل التجاري من واردات وصادرات هو مؤشر النجاح الوحيد، بل يجب ان يكون الهدف شراكة اقتصادية كاملة... وان تتطور العلاقات بشقيها الرسمي والشعبي. التعاون الثقافي والاجتماعي والاعلامي هو في الأهمية الثانية، ويجب على الطرفين العربي والتركي عقد اتفاقات ثنائية ومشتركة في هذه المجالات تعزز كل تعاون آخر بينهما. التعاون العسكري بين الدول العربية وتركيا مهم جداً، وهو ما يقع ضمن الدائرة الثالثة من دوائر أربع لتحقيق الأمن في كتاب الأمير: "مقاتل من الصحراء"، ويشمل تعاون دول الخليج مع مصر وسورية، ثم مع تركيا وباكستان، في دفاع مشترك من ضمنه تدريبات مشتركة. وبما ان تركيا عضو في حلف شمال الاطلسي فان التدريب مع قواتها سيعطي القوات العربية ميزة التعرف على مستويات الأداء العسكري الغربي كما لو انها تجري تدريبات مشتركة مع القوات الغربية. الأمير خالد بن سلطان هو الآن مساعد وزير الدفاع السعودي، ولعله في منصبه هذا يستطيع ترجمة افكاره عملياً. وأذكر من أوائل الثمانينات ان المملكة العربية السعودية اتخذت قراراً استراتيجياً بأن تكون أول مصدر للنفط الى الولاياتالمتحدة، لتحافظ على مستوى نفوذها لديها، ولعلها تتخذ الآن قراراً استراتيجياً بجعل تركيا أول شريك تجاري لها في المنطقة، ولعل الأمير خالد يسعى لتحقيق هذا الهدف. ما أقول انا هو تركيا بلد اساسي ومؤثر، وموقعه الطبيعي مع العرب ومجموعة الدول الاسلامية لا اسرائيل. وقد جاءت زيارة شارون الفاشلة لتركيا الأسبوع الماضي، لتذكرنا بكل الفرص الضائعة مع تركيا، وبحصتنا الكبيرة من المسؤولية عن ضياعها. وكان وزير الدفاع الاسرائيلي بنيامين بن اليعازر قام بزيارة ناجحة لتركيا الشهر الماضي، وسبق رئيس الأركان شاؤول موفاز شارون الى تركيا في زيارة ناجحة اخرى. ثم جاء شارون باجرامه وغطرسته وأحقاده ليحرك مشاعر الأتراك. وعندما سأله الصحافيون الأتراك عن الحرم الشريف، قال بصفاقة للأتراك المسلمين: أنتم تقصدون الهيكل طبعاً؟ وأسمعه بولنت اجاويد في النهاية رأياً صريحاً في سياسته المتطرفة. اليوم الكرة في الملعب العربي، والسؤال هو: يلعبون مع تركيا، أو يتركون الملعب لاسرائيل مرة أخرى؟