الصيف في مصر حار جداً، والرطوبة تصل الى معدلات خانقة، لاسيما في تموز يوليو وآب اغسطس، وهما الشهران اللذان يشهدان "هج" البشر شمالاً الى المناطق المطلة على البحر الابيض المتوسط بحثاً عن شمة هواء عابرة تلطف من حرارة الجو. وفي ازمنة مضت، كانت الاسكندرية قبلة المصطافين من مختلف انحاء مصر، وكانت عائلات عدة تقضي اشهر الصيف برمتها في بيت العائلة الصيفي في الاسكندرية أو رأس البر أو بلطيم. لكن الامور تبدلت، والظروف تغيرت، واختلفت سبل ووسائل "هج" المصريين في الصيف، بل إن نسبة منهم لم تعد تقوى على الهرب الى "المالح" وهي الكلمة التي يطلقها البعض على مياه البحر. المُطالع للصحف اليومية الصادرة في مصر يخيل له لوهلة أن الشغل الشاغل للمصريين حالياً هو البحث عن فيلا او شاليه أو حتى شقة في الساحل الشمالي، وهي المنطقة السياحية العمرانية التي خرجت الى النور بطول المسافة الشاطئية بين الاسكندرية ومرسى مطروح، والمسافر على هذا الطريق معرّض اكثر من غيره لأن يتحول هذا الخيال الى ما يشبه اليقين، وذلك لمشهد القرى المتراصة والمتلاصقة، حتى شبهها البعض بعلب الكبريت، فالقرية الواحدة تسع لبضع آلاف من المصطافين، إلا أن الحقيقة مغايرة لذلك. الغلبة في المصيف ما زالت لمدينة الاسكندرية، وأبرز مثال على ذلك، آلاف الشماسي المتلاصقة في وحدة واحدة وغيرها من "البلاجات" الشعبية إلا أن هذا التلاصق والازدحام الواضح الذي تشهده عروس البحر المتوسط في هذا الفصل يعكس الانماط الاجتماعية والاقتصادية السائدة في مصر حالياً. فالغالبية العظمى من المصطافين في الاسكندرية ينتمون لفئة "الافواج". والافواج بلغة المصطافين هم موظفو الشركات والمؤسسات الحكومية - القطاع العام - وعائلاتهم الذين يؤمون المصايف في رحلات جماعية تنظمها وتدعمها جهات عملهم لفترات تتراوح بين اسبوع وعشرة ايام. وتتراوح كلفة اقامة ضمن تلك الافواج، بين 200 و500 جنيه مصري، إضافة الى أضعاف ذلك المبلغ ينفق على الطعام، والنزهات، وإيجاد المظلات والمقاعد. وتحول هذا الايجار المظلة والمقاعد الى قيمة اجبارية تحصل من مرتادي الشواطئ الشعبية التقليدية، وهو ما دفع بالكثير الى الابتعاد عنها لضيق ذات اليد. وقد واكبت الشركات والبنوك والهيئات الكبرى في السنوات الاخيرة ظاهرة الساحل الشمالي، فتعاقدت وعدد من القرى أو اصحاب عدد من الشاليهات فيها لمصيف موظفيها، بل وعرفت "الافواج" طريقها الى "برنسيسة قرى الساحل الشمالي" والمعروفة في اقوال اخرى ب"المقر الصيفي للحكومة والبرلمان ورجال الاعمال" نظراً لانتماء نسبة كبيرة من سكانها الى فئة نواب البرلمان وأعضاء الوزارات. وأدى التحام الطبقتين وهما على طرفي نقيض رجال السياسة والمال من جهة ورجال القهر والفقر من جهة اخرى الى استفزاز شعبي انضم الى لائحة طويلة من الاستفزازات. المتخلفون عن ركب مارينا، والمتأرجحون بين الطبقتين الوسطى والعليا، وهم غير القادرين على امتلاك شاليه في "مارينا"، يرغبون في خوض اسلوب الحياة "المارينية" ولو لبضعة ايام، لجأوا الى اسلوب "التايم شير" أو اقتسام الوقت في فنادق ومنتجعات سياحية راقية تتيح لهم التمتع بخدمات المصيف الراقية بأسعار تقل عن تلك السائدة في "مارينا" والاحتفاظ بحق القسم بامتلاك موقع في منتجع سياحي خمس نجوم. ونترك سكان "مارينا" في حالهم، ونعود الى "الافواج" التي اصابتها عين الحسود هي الاخرى في السنوات القليلة الماضية. فبعد موجات الخصخصة العاتية، التي دعم محدوديتها من حيث الكم إلا ان اثرها كان عاتياً، حدثت تغيرات عدة في انماط المصيف، فتقلصت قدرة جهات عدة على دعم رحلات الموظفين وعائلاتهم. واضطر ذلك الكثير الى البحث عن بدائل حفاظاً على عادة المصيف، فهناك شركات السياحة، والنوادي الرياضية التي تنظم رحلات لنحو ثلاثة او أربعة ايام الى مدن مثل العريش شمال سيناء أو شرم الشيخ جنوبسيناء ومرسى مطروح غرب مصر. وتتراوح كلفة الفرد في مثل تلك الرحلات بين 300 و500 جنيه مصري للفرد الواحد، أي ان الاسرة المكونة من اربعة افراد عليها ان تدفع نحو 1200 جنيه في اربعة ايام، إضافة الى ما يستجد من مصروفات. وعلى رغم جمال الطبيعة الساحر في مرسى مطروح، إلا ان بُعدها عن القاهرة 490 كلم وعن الاسكندرية 290 كم جعلها حكراً على المصطافين لفترات طويلة وتبلغ سعر تذكرة الذهاب الى مطروح من القاهرة نحو 40 جنيهاً، وترتادها افواج الشركات والمؤسسات والنوادي، إضافة الى عدد من أهل الاسكندرية الهاربين من غزو سكان القاهرة لمدينتهم. وفي السنوات الاخيرة، عرفت ظاهرة علب الكبريت المسماة ب"القرى السياحية" طريقها الى مطروح وهي تشغل حالياً مساحة لا بأس بها من الاعلانات اليومية الباحثة عن مشترٍ ينقذ اصحاب تلك القرى من أزمة السيولة التي تفتك حالياً بالمستثمرين. ومن اقصى غرب مصر الى شمال شرقها حيث الثلاثي السويس والاسماعيلية وبور سعيد وتعرف ب"مدن القناة". وهذه المدن تسمح برحلات لأيام عدة بأسعار تقل عن مثيلتها في الاسكندرية فدرجات الحرارة في تلك المدن أعلى منها في الاسكندرية، كما أن الإقبال عليها لا يقارن بعروس البحر المتوسط. ولأن "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" لم يتبق أمام كثيرين سوى رحلات اليوم الواحد الى الاسكندرية، أو مدن ساحلية اخرى أقرب إلى القاهرة مثل فايد ورأس سدر وعين السخنة وكلها منتجعات وليست مراكز اصطياف. وهناك من لا يقوى على السفر حتى ليوم واحد، لأسباب اقتصادية بحتة. وهم يضطرون الى الانغماس في أحياء القاهرة والغوص في رطوبتها الخانقة. والبدائل المتاحة في القاهرة، يحددها المستوى الاقتصادي ايضاً، فبين المدن الترفيهية التي تجمع بين الملاهي وألعاب الماء، والأمسيات على نيل القاهرة، والرحلات النهرية في القناطر الخيرية، يمضي الملايين ممن حُرموا من لقب "مصطاف" ايام وليالي الصيف يحلمون بمصيف حقيقي عند "المالح"، ويغذون حلمهم بتأمل صور مئات القرى السياحية على صفحات الجرائد ويقولون "العاقبة عندنا في المسرات".