قبل أن تستأنف القيادة السورية خطوات اعادة انتشار قواتها في جبل لبنان وبيروت منتصف حزيران يونيو الماضي، التي لقيت ردود فعل ايجابية، كانت إحدى حجج بعض المتمسكين ببقاء الجيش السوري ومنهم بعض الحكم والاجهزة الأمنية، ان الانسحاب قد يعيد الاقتتال بين اللبنانيين، فإذا بأحداث الأيام الماضية، تولد معادلة اخرى هي المواجهة السياسية بين الاجهزة الأمنية ومعظم القوى السياسية، في ظل التأسيس لمصالحة جدية بين فريقين رئيسيين من افرقاء الحرب في الجبل عبر اللقاء الذي حصل بين البطريرك الماروني نصرالله بطرس صفير ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، وسط الحشد السياسي الكبير الذي رافق الحدث. وواقع الحال ان سورية لم تكن لتقدم على أي اخلاء لأي موقع لو كانت تعتقد ان عودة الاقتتال واردة، لأنها في غير مصلحتها. اذاً أين سورية مما حصل؟ يعتقد الوسط السياسي اللبناني ان حركة أمنية واسعة من هذا النوع لا يمكن ان تتم من دون تنسيق بين الاجهزة وسورية. ولزم المسؤولون السوريون الصمت، وفضّلوا رصد مجريات الأمور، في وقت سعى سياسيون لبنانيون، بينهم حلفاء لدمشق، الى رصد الموقف السوري، وتحول الأمر الى ما يشبه الأحجية. لكن الوقائع دلت الى تفهم سوري للحركة الأمنية الرسمية. والعارفون يقولون ان الاجهزة في لبنان سعت منذ مدة الى وضع المسؤولين السوريين، في اجواء مخاوف من ان حركة القوى المسيحية المعارضة اخذت تزداد وانها تنتعش بسبب الاجواء السياسية المتسامحة معها، خصوصاً بعد اعادة الانتشار وان لدى بعض قادتها "توجهات تقسيمية". ولا بد من "زجر" هذه القوى ووضع حد لها. وهو أمر سعى قادة الاجهزة الى تأكيده بعد ظهور عناصر "التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية" المحظورة اثناء زيارة صفير للجبل، خصوصاً هتافاتهم ضد سورية ورئيس الجمهورية إميل لحود في بلدة الكحالة، ما اضطر صفير الى اسكاتهم. فكان الحدث حجة اضافية. ومع ذلك فان وثيقي الصلة بدمشق يؤكدون ان لا علم لها بالتوقيت وانها لم تحبذ الأسلوب وان رأس الهرم فيها يهتم لعدم زج سورية في ما حصل... لكن ما يصفه البعض ب "شبه موافقة" سورية على ما حصل، لا يمنع البحث عن خلفيات سياسية لحملة التوقيفات، التي خالفت توجهاً يدعو الى احتواء سلوك المتطرفين بالخطاب المعتدل لصفير والقيادات المسيحية الأخرى... فالحملة تمت من دون علم الحكومة ورئيسها، لكنها بتغطية من جزء من الحكم، أي الرئاسة الأولى... وهو ما يختزله السؤال القائل: الأمر لمن؟ وفي الخلفيات يمكن ذكر الآتي: ان الجهات المؤيدة للحملة تتحدث منذ مدة عن انزعاج سوري من موقفي رئيسي المجلس النيابي نبيه بري والحكومة رفيق الحريري حيال توجهات مجلس الأمن الدولي لخفض عديد قوات الطوارئ الدولية في الجنوب، وتحويلها قوة مراقبة، بالاصرار على تجنب الخلاف مع الأممالمتحدة في هذا الشأن، بينما كان موقف الرئيس لحود متشدداً مع المنظمة الدولية، كما هو موقفه في سائر القضايا الاقليمية... ان اعطاء الأولوية للمعالجات الاقتصادية، في سياسة الحكومة وأركان الحكم في لبنان، على أهميته في الانقاذ الاقتصادي، يجب الا يطغى على حسابات أولوية التهيؤ لاحتمالات المواجهة على الصعيد الاقليمي في ظل ما يحدث في فلسطين. وهذا يرتب سياسات مختلفة حيال الجنوب ومزارع شبعا وفي العلاقة مع الدول الكبرى. بناء عليه، لا ترتاح الاجهزة، والقيادة السورية بناء على مداولاتها معها، الى اضعاف رئيس الجمهورية، عبر الانتقادات التي توجه الى الاجهزة في موضوع التنصت والحديث عن حرية العمل السياسي للمعارضين... وغيرها. وهي أمور تحدث عنها الحريري ونواب كثر في الجلسات النيابية وفي التصريحات. كما ان الانزعاج من تعاون بري الحريري جنبلاط يلقى صدى سورياً أيضاً، على انه ضد رئيس الجمهورية. ان استياء رئيس الجمهورية من اقرار تعديل قانون المحاكمات الجزائية الذي يحد من صلاحيات القضاء، ومعه الاجهزة في التوقيف الاحتياطي، خلافاً لرأيه، لقي صدى لدى الجانب السوري بعدما تم بغالبية 81 نائباً في مقابل ثلاثة. وهو امر تم بعد وعود بأخذ المجلس النيابي والحكومة ملاحظات لحود في الاعتبار، وعدم تنفيذ هذه الوعود من بري يكسر شوكة الرئيس الذي تخلى عن سياسات سابقة وسلّم بتوجهات الحريري الاقتصادية المدعومة من الآخرين، وبغيرها... وستتم اعادة تعديل القانون بما يتلاءم مع ملاحظاته. ان مصالحة الشوف تمت في ظل تهميش لدور الرئاسة الأولى يعتبرها المحيطون بصفير وجنبلاط بسبب ابتعاده هو في شكل لم يؤخذ موقعه كمرجعية في الاعتبار، في خطوة تاريخية من هذا النوع. وهو ما عبر عنه الوزير الياس المر بالقول ان الجيش هو الذي يحفظ المصالحات وليس الذين يغيرون مواقفهم بتبدل المزاج السياسي.