يبدو المشهد السياسي اللبناني مليئاً بالوقائع المتناقضة، هذه الايام، بعد الانتخابات النيابية وما تخللها، وقبيل استحقاق تأليف الحكومة الجديدة وما يلفها من غموض وصعوبات تتطلب جهوداً كبيرة لحلحلتها. وبين الاستحقاقين دخل على هذا المشهد حدث سياسي، هو بيان مجلس المطارنة الموارنة رافعاً سقف موقفه عبر مطالبته باعادة انتشار الجيش السوري في لبنان تمهيداً لانسحابه، وردود الفعل عليه وابرزها من رئىس الجمهورية إميل لحود واللقاء الاسلامي بين مفتي الجمهورية الشيخ محمد رشيد قباني والمفتي الجعفري الممتاز عبدالامير قبلان، الذي اعتبر الوجود السوري شرعياً وموقتاً داعياً الى ترك أمر معالجته للحكومة. وفيما يرى عدد من القيادات ان بيان مجلس المطارنة هو الحدث السياسي الأبرز بين الاستحقاقين، فإن اوساطاً اخرى تدعو الى ترقب احداث اخرى بارزة قبل استحقاق تأليف الحكومة، منها مثلاً محادثات لبنانية - سورية معمّقة هذه المرة عن الشأن اللبناني، قد تتوجها زيارة للرئىس الدكتور بشار الاسد لبيروت. واذ تتداخل هذه الاحداث والاستحقاقات، تدفع تناقضات المشهد السياسي بعض القادة المهتمين ب"تدوير الزوايا" الى الاعتقاد ان لبنان بات في حاجة الى مبادرة سياسية كبيرة لترميم "الموزاييك" فيه. ويتفق عدد من كبار السياسيين اللبنانيين مع عدد من الديبلوماسيين الغربيين الوثيقي الصلة بالوضع اللبناني، على ان لا قدرة لأي فريق على القيام بهذه المبادرة غير سورية، سواء لتذليل العقبات امام تشكيل الحكومة الجديدة او لتشجيع قيام حوار لبناني - لبناني، وحوار لبناني - سوري يتناول المواضيع المثارة كافة. ويعتقد اصحاب هذا الرأي ان قيام حكومة برئاسة الرئىس السابق رفيق الحريري يتطلب جهداً رفيع المستوى لتقريب المسافة بينه وبين الرئىس لحود، لضمان استيعاب الخضات السياسية التي قد تنجم عن اي خلاف في عملية التأليف، ومن ثم في سياسة الحكومة، خصوصاً في ظل الوضع الاقتصادي المتردي. فإلحاح هذا التأزم يدفع الى التساؤل هل يجب ان تعطى الاولوية للأزمة الاقتصادية، أم للأزمة السياسية، ام انهما في المرتبة نفسها من الاهمية نظراً الى ارتباط الواحدة بالاخرى؟ وعلى رغم ان الساحة المسيحية شهدت مواقف سلبية حيال سورية، قد لا تشجعها على مبادرة كهذه، فإن من يدعونها الى اداء دور، يعتقدون ان الحاح الازمة الاقتصادية اللبنانية يفترض ان يكون عاملاً يشغل بال القيادة فيها، نظراً الى الانعكاسات الاقتصادية السيئة عليها من جهة، والى ان انتكاس الوضع السياسي الداخلي اللبناني يضر بمصالحها ونفوذها في المستقبل المنظور، من جهة ثانية. وفيما ينتظر الراغبون في الداخل والخارج في مبادرة سورية، اشارات التحرك في هذا الصدد، قبيل بدء المجلس النيابي الجديد ولايته منتصف الشهر المقبل، فإن بعض وقائع المشهد السياسي التي تسبق مبادرة مفترضة من هذا النوع تبدو شديدة التعقيد، كالآتي: - ان موقف رئاسة الجمهورية، في نظر بعض الموالين للحكم والمراقبين، في الرد على الحملة ضد الوجود السوري في لبنان سيؤدي الى العودة الى تقوية موقع الرئىس لحود في العلاقة مع دمشق، كنموذج للرموز المسيحية التي ما زالت على تحالفها الاستراتيجي مع دمشق. فانتقاد لحود "المتحاملين على الدور السوري"، ودعوته اياهم الى وقف استغلال "الغرائز" يلقى صدى ايجابياً لدى القيادة السورية، قد تزيل "غيمة التباين" بينه وبينها، التي ظهرت اثناء الانتخابات النيابية، فيعود التعاون معه ليطغى على التباين... وينعكس ذلك على المرحلة المقبلة حرصاً من دمشق على تحالف وثيق بين حلفائها المقربين. وفي المقابل، ثمة من يعتقد ان موقف لحود ضد بيان مجلس المطارنة، افقد السلطة اللبنانية القدرة على القيام بمبادرة سياسية تسهم في المصالحة الوطنية، خصوصاً ان المقربين من بكركي اعتبروا انه اخطأ حين ساوى بين البطريركية والميليشيات القوات اللبنانية والقوى السياسية المسيحية التي كانت طرفاً في الحرب. ويأخذ بعض منتقدي الحكم عليه انه لم يضبط بعض الموالين له، الذين ذهبوا بعيداً في الخصومة مع المعارضين اثناء الانتخابات النيابية التي جاءت الغلبة فيها لهؤلاء المعارضين في جبل لبنانوبيروت. فهؤلاء الموالون سعوا الى تعويض الخسارة، بتحريض افرقاء مسيحيين على الوقوف الى جانب العهد في مواجهة الآخرين. وقد يكون ذلك تم من دون علم لحود او معرفته، لكن ما حصل قد يزيد من إضعاف قدرة الرئاسة على ان تكون وسيطاً بين الافرقاء اللبنانيين او حَكَماً يسعى الى معالجة الصراعات القائمة وخفض حدتها. - ان مسألة اعادة انتشار الجيش السوري كانت مدار بحث في السابق بين قيادات لبنانية والقيادة السورية التي اكدت انها قامت بخطوات على هذا الصعيد، بازالة حواجز ومراكز في بيروت وغيرها وعلى الطرق الرئىسية، وانها ستواصل هذه الخطوات. ويقول سياسيون لبنانيون ان الرئىس الاسد، سبق ان سعى الى ذلك، قبل وفاة والده الرئىس حافظ الاسد، واستكشف شخصياً بعض المناطق التي يعتقد ان على الجيش السوري ان يخليها. لكن القيادة السورية ابلغت القيادات اللبنانية التي فاتحتها في الموضوع انها لن تفعل ذلك تحت الضغط، وترى هذه القيادات ان بيان مجلس المطارنة سيؤدي الى فرملة خطوات تخفيف الوجود السوري في بعض الاماكن، من هذا المنطلق... - ان الكثير من القيادات الاسلامية يعتقد ان موقف مجلس المطارنة سيؤخر خطوات المصالحة الوطنية، وبالتالي سينعكس ذلك على تشكيل الحكومة المقبلة التي يقول بعض العارفين ان الحريري، اذا كلف تشكيلها، ليس متحمساً لأن تكون وفاقية، بمقدار ما يجب ان تضم فريق عمل منجسماً بين من يقرون باتفاق الطائف وحلفاء دمشق الاساسيين وفق الاجواء السياسية الراهنة. وفي المقابل يؤكد البطريرك الماروني نصرالله بطرس صفير لزواره ومنهم الوزير السابق ميشال سماحة انه لا يعني عبر بيان مجلس المطارنة، انه يريد انسحاباً سورياً الآن او فوراً و"لا أرغب في أن يتم الانسحاب السوري من لبنان ونحن على خلاف مع دمشق، بل على العكس يجب ان يتم ذلك بالتوافق معها وفي ظل اتفاق، يسمح لنا ولها أن نكمل طريق التعاون معاً في المستقبل". وأضاف صفير: "ان المسؤولين السوريين يتحدثون عن اعادة الانتشار السوري، وغيرهم يتحدث عن ذلك أيضاً. لذلك علينا التفاهم في هذا الشأن، فما الضرر في أن نطرح ذلك؟". وسئل صفير رأيه في فكرة بقاء الجيش السوري في نقاط استراتيجية في لبنان؟ فأجابه: "أعتقد ان من الطبيعي ان يكون في نقاط استراتيجية يتم التفاهم عليها بين الحكومتين ووضع المنطقة قد يفرض ذلك. لكن كل ما نريده الا يؤدي هذا الوجود الى تدخل الاجهزة في الشأن السياسي الداخلي. ولأننا نعتقد ذلك، طرحنا ما جاء في بيان مجلس المطارنة...". ويقول زوار صفير انه منفتح على حوار مع دمشق وأبدى استعداده للقاء الرئيس بشار الأسد عندما يزور لبنان رسمياً بعد مدة في القصر الجمهوري.