إبان الاحتجاجات الشعبية السورية التي بدأت في آذار (مارس) الماضي كان المطلوب أن يسعى النظام إلى فتح مسامّ الديموقراطية وأن يتعلم ممّا وقع في كلٍّ من تونس ومصر. لكن النظام السوري لم يعرف أسلوباً في التعامل مع التظاهرات والاحتجاجات إلا من خلال القبضة الأمنية. الرد العنيف ليس جديداً، فعبر تاريخ النظام كانت تلك هي اللغة الوحيدة التي يجيدها في التعامل مع مطالب الناس وكل اختلاف. ويبدو جلياً أن سورية ركزت في معظم الوقت على المحيط العربي فيما عرف بسياسة الممانعة والمقاومة وقبل ذلك الصمود، بينما أطلقت العنان في الداخل السوري لسيطرة الأجهزة الأمنية والمتنفذين. غريب التاريخ، فهذه السياسة في سورية ليست سوى نسخة مكررة لسياسة الاتحاد السوفياتي قبل اندثاره: مواجهة مع الخارج وقمع وملاحقة في الداخل. لقد أضاع النظام في سورية منذ بدء الثورة فرص التعامل مع الأزمة في إطار انفتاح ديموقراطي وتعددية. مع كل جمعة وكل أسبوع تقترب سورية من تحقيق تغيير هو الأكبر في تاريخها الحديث منذ الاستقلال. فالنظام الراهن في ظل سيطرة عائلة الأسد في طريقه إلى النهاية، وحزب «البعث» انتهى كحزب أحادي مسيطر. هكذا بعد أكثر من ثلاثة أشهر من الاحتجاجات الشجاعة من قبل متظاهرين سلميين وبعد أكثر من 1300 شهيد، لن يعيد لسورية استقرارها سوى نظام ديموقراطي تعددي ودستور جديد وحريات مكفولة، وقضاء مستقل، ورئيس ومجلس شعب منتخبين في ظل تنافس علني شفاف بين قوى سياسية وتيارات وأحزاب. إن أفضل ما يستطيع الرئيس السوري بشار الأسد القيام به الآن هو تسهيل مهمة شعبه عبر فتح الطريق الديموقراطي وإيقاف العلاج الأمني للوضع، والسماح للشعب بالتظاهر والتعبير عن نفسه. سيبقى السؤال: هل يخرج الرئيس ويتغير النظام بثمن أقل وبضمانات متفق عليها للانتقال السلمي للسلطة، أو يتم الانتقال الحتمي بثمن أكبر وبمواجهة تتحول كل يوم إلى مزيد من الدموية؟ هذا الخيار بيد النظام وهو في طريقه للخروج في ظل التحول الشامل. إن تاريخ سورية أثناء العقد الماضي هو المفتاح لفهم طبيعة الثورة القائمة فيها الآن. فنجاح التوريث عام 2000 عمّق الأزمة التي يعاني منها النظام. ففي الأنظمة التي تتشابه والنظام السوري يتحول التوريث إلى مقتل وبداية نهاية، لهذا ليس غريباً أن الثورات وقعت في أنظمة التوريث. لنتذكر أن التوريث السوري تم في ظل تعديل دستوري لم يستغرق سوى دقائق بعد وفاة الرئيس السابق حافظ الأسد عام 2000، وأن هذا التعديل تم بلا استشارة المواطنين. وبينما شكّل التوريث بداية تحول، إلا أنه تزامن مع وعود إصلاحية أطلقها الرئيس السوري بشار في بدايات حكمه ما ساهم برفع آمال السوريين. لقد نجح الرئيس السوري الشاب في حينه في إقناع غالبية السوريين بأن عهده سيكون مختلفاً عن عهد والده حافظ الأسد ذي الطابع الحديد. رفع الآمال في ظل الجمود وانتشار الفساد وزيادة القمع بينما ينشأ جيل سوري جديد يعي ذاته ويعاني من ضيق الخيارات والبطالة، كل هذا وضع الأساس للثورة السورية التي تتدفق اليوم. ولقد أدى التوريث من الأب إلى الابن إلى جعل السلطة بيد فئة أصغر من تلك التي تحالفت مع النظام في زمن الرئيس حافظ الأسد، وقد ساهم هذا بتحويل الاقتصاد الوطني والقطاع العام لمصلحة المتنفذين الجدد الذين استفادوا من سياسات الخصخصة المرتبطة بالفساد. لهذا تحولت ظاهرة رجال الأعمال المرتبطين بالرئيس وأقربائه إلى رمز للفساد الذي ساد سورية في السنوات الماضية. ليس غريباً أن هذا الوضع نشأ كذلك في مصر وتونس وليبيا واليمن ودول أخرى. من جهة أخرى، أعطت قدرة النظام على إدارة الوضع الخارجي، أكان ذلك في لبنان أو مع الفصائل الفلسطينية ومع «حزب الله» وإيران والعرب والغرب، مزيداً من الثقة التي حولها باتجاه التحكم الأمني والاحتكار في الداخل. إن قدرة النظام على الخروج، مرحلياً على الأقل، من أكثر من مأزق، بما في ذلك نتائج اغتيال الحريري والمحكمة الدولية والاغتيالات التي وقعت في لبنان بحق مفكرين ومثقفين وسياسيين، ساهمت هي الأخرى في زيادة ثقته بقدراته. ويصح القول إن حتمية تاريخية إنسانية كانت في طريقها إلى التعبير عن نفسها. ففي كل نظام من النمط السوري ليس من المنطقي ألا تنفجر تناقضاته في لحظة وعي جماعي وتآكل داخلي. الأنظمة ذات الطابع التسلطي تشبه جهاز كمبيوتر لم يعد يمتلك آلية لتطوير أجهزة تشغيله، ولهذا تبدو الأمور جيدة على السطح، وتبدو الأوضاع مستقرة ومنتظمة وهادئة للمراقب، وهذا يعطي انطباعاً مضللاً عن الوضع. فالأنظمة الديكتاتورية تموت فجأة وبلا مقدمات بفضل عوامل تآكل داخلي وضيق سكاني يزداد انتشاراً. فالمرض الذي يغزو النظام قلما يكون بادياً للعيان كحال السرطان الذي لم يتم اكتشافه في الجسد. في ظل الديكتاتورية لا أحد يقول شيئاً، ولا أحد يعبر عن رأيه، لهذا فكل الآراء غير مرئية ومخفية في الأقبية أو السجون. إن أول من صُدم من هول المفاجأة عند اندلاع الثورة السورية هم قادة الأجهزة الأمنية الذين مارسوا القمع ضد الشعب السوري على مدى سنوات طوال. وبالطبع كان الرئيس والمقربون منه أول من اختبر تلك المفاجأة. في هذه الأنظمة يكون الاستخفاف بالشعب والحقوق والمطالب والمعارضة والمختلفين والمثقفين والجيل الصاعد فلسفة حياة وطريقة تفكير متأصلة. إن الفارق بين الديموقراطية والديكتاتورية كبير. في الديموقراطية هناك استشعار مبكّر برياح التغير، أما في الديكتاتورية فيعيش النظام حالة عمى تحجب عنه الكثير مما يقع حوله. ويزيد من تراجع قدرة النظام أن كل من يحيط به يخادعه بسبب الخوف. لهذا بالتحديد تفوقت الديموقراطية على الديكتاتورية عبر التاريخ. من خلال الديموقراطية وصناديق الاقتراع بإمكان المعارضة أن تصل إلى السلطة بينما في الدول الديكتاتورية لا توجد فرصة لوصول المعارضة إلى السلطة إلا بالثورة وشعارات إسقاط النظام. وفي ظل عجز النظام والأجهزة الأمنية في سورية عن تفسير ما حدث بل واستيعابه يصبح من الطبيعي القول بوجود مؤامرة خارجية سلفية وإسلامية أوغربية. فالنظام في سورية لم يفهم حتى الآن طبيعة الثورة أو طبيعة ما يحيط به من عوامل تردٍّ وإسقاط. لا زال النظام السوري أسير رؤية لمندسين وفئات خارجية، ولا زال يطرح خطاباً إعلامياً ركيكاً، وهذا ساهم أيضاً في إضعاف قدرته على استيعاب كل التحولات التي طرأت على المجتمع السوري. ولو كنا في الستينات من القرن العشرين لكان التعامل الأمني السوري بقوة نيرانه وقدرته على الفتك بالناس قادراً على إنهاء الوضع خلال أيام، لكن العصر اختلف والتكنولوجيا لديها مكانتها في نشر المعلومات على الملأ، والشعب السوري اكتسب وعياً وسلوكاً ومناعة لم يكن يتمتع بها في السابق، كما أن أساليب النضال السلمي جعلت أقوى الديكتاتوريات قابلة للاهتزاز. إن الحالة الشعبية السورية تمرّ الآن بمرحلة التحول نفسها التي عبرتها شعوب جنوب أوروبا وأميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية وآسيا. على النظام السوري أن يدرس وضع البرتغال والفيليبين والأرجنتين وكوريا الجنوبية وتايوان والبرازيل وبولندا واليونان، ويوغوسلافيا وجنوب أفريقيا وعشرات الدول الأخرى التي مرت بالثورات والتغيرات الشاملة قبل أن يمضي قدماً في معركة خاسرة سلفاً. في كل من هذه الدول بدأت الأزمة باغتيال زعيم معارض كما حصل في الفيليبين أو بحادثة كبيرة بين المجتمع والناس كما حصل في معظم الدول، أو أن الأحداث تبدأ أحياناً بحرب كما حصل لليونان مع تركيا أو للأرجنتين مع بريطانيا. الحادثة أو الأحداث التي تقع في البداية تتحول إلى سلسلة من التحركات والتظاهرات والإضرابات والتجمعات ذات الطابع الشعبي والسلمي في مواجهة الأجهزة الأمنية للنظام، ما يؤدي إلى إسقاطه كما حصل في تشيكوسلوفاكيا، أو الاتفاق معه على شروط تسليمه الشامل للسلطة كما حصل في دول عدة في أميركا اللاتينية وفي جنوب أفريقيا. الخيار الأمني بالتحديد هو الذي يعجل من سقوط النظام. ما يقع في سورية اليوم يؤسس لنظام سياسي جديد وحياة ديموقراطية حرة في ظل دولة مدنية مصدر شرعيتها الشعب السوري. سورية بدأت تعود إلى تاريخها وأمتها ولكنها وهذا هو الأهم في طريق عودتها إلى ذاتها. * أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت تويتر:ShafeeqGhabra@